تشكلت صورة التبليغ في الذهنية السعودية الشعبية عبر محددين كبيرين: أولهما السماحة المتناهية والتساهل المفرط في معاملة من يطلقون عليهم «العصاة»، وثانيهما أحاديث وحكايات الرؤى والكرامات، والمبالغة فيهما إلى درجة الكذب الصريح. ومن احتك بالتبليغ يعي قولي هذا جيدًا، ويبدو أن لأمر التركيز على الرؤى والأحلام بُعدًا معرفيًا معينًا لدى الجماعة، وهو مسألة الاعتماد على الرؤى والأحلام كمصدر من مصادر الاستدلال، جريًا على معتقدات «الديوبندية» التي نشأت الجماعة في أحضانها، بل إن باعث إنشاء الجماعة (1926) على يد مؤسسها، محمد إلياس الكاندهلوي، كان بناء على رؤيا رآها، كما ذكر ذلك أبو الحسن الندوي، في كتابه «الشيخ محمد إلياس ودعوته الدينية».

وعلى كل، فليس مقصد هذه المقالة بحث الجانب الكلامي أو العقدي للتبليغ، إنما هو الحديث عن مدى جسامة خطر هذه الجماعة، التي تبدو للوهلة الأولى «جماعة دراويش»، همها دعوة عصاة المسلمين باللين والرفق المتناهي. وسوف أوجز في نقاط سريعة مدى خطورة هذه الجماعة التي يغفل عنها الناس بسبب بعد أفرادها عن السياسة والفتوى وإنكار المنكر، ومكن خطورتها، بالإضافة لما سأذكره، هو أن للجماعة حضورًا عالميًا كبير، بحيث إنه قلما تجد دولة في العالم ليس فيها مركز للجماعة:

الأولى: عكف محمد إلياس ببداية دعوته في 1918 على مواجهة تحديات الدعوة باستقطاب الناس والاستعانة بهم في مجال الدعوة، وكان الجو العام يموج باحتجاجات عارمة ضد الاستعمار البريطاني بسبب تَنفذ الإنجليز في أغلب مفاصل البلاد الهندية، وإحكامهم السيطرة عليها، في ظل انقسام طائفي، فنشأ لديه هاجس التغيير من الواقع السياسي، ليس في داخل الهند وحسب، وإنما في البلدان الإسلامية كافة، وهذا لا يعني أن دافعية تكوين جماعة التبليغ نبعت بغية تغيير الوضع السياسي، ولكن يجب ألا نُغفل أن بواعث وإمدادات الفكرة الرئيسة لدى محمد إلياس كانت وجوبُ فعل شيء ما إزاء وضع الأمة حينذاك، ولهذا نشأت فكرة أن الجماعة تعمل على جلب عصاة المسلمين من الخمارة وسوقهم إلى المسجد، والبقية تتولاه الجماعات الإسلامية الأخرى. ويقول علي عشماوي في كتابه الشهير «التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين»: «كنا نتواصل مع جماعة التبليغ، لنختار من يكون صالحًا لينضم معنا»، وإذا ضيقت الجهات الأمنية على الجماعات الإسلامية السياسية الحركية دخلوا في صفوف التبليغ، ليختبئوا حتى تختفي عنهم الأنظار ثم يعودوا مرة أخرى ليمارسوا أنشطتهم، وهذا أمر شاهدناه بأعيننا في السعودية، ومن المعلوم أنه بعد أحداث 11 سبتمبر اندس في جماعة التبليغ العديد من عناصر التكفير والإرهاب على أساس أن الجماعة دعوية ولا علاقة لها بالسياسة والقتال، فكوَّنوا بذلك مخبأ آمنًا وملاذًا رائعًا لمتطرفي الفكر والتوجه، لسهولة الاندساس بينهم.

الثانية: للجماعة تنظيم وبيعة وأمير عام وأمراء فروع، وتقوم دعوتها على مبدأ التجميع، وتوسيع قاعدة الأتباع بأي شكل، مما يشكل خطورة عالية في مسألة الاستقطاب والولاءات المتشعبة داخل المجتمع.

الثالثة: تشكل جماعة التبليغ الحافظ لمكان ومكانة الجماعات الإرهابية والسياسية الإسلامية، وتواصل عملها نفسه في مسألة التجميع، مما يسهل على جماعات السياسة حين عودتها إلى الساحة مرة أخرى الاستحواذ على الأتباع.

الرابعة: تستطيع جماعة التبليغ الوصول إلى مواقع وأماكن تجمعات بشرية لا يمكن للأجنحة التربوية والدعوية في جماعات الإسلام السياسي الوصول إليها، لطبيعة جماعة التبليغ وأسلوبها، وحينما يجلبون الأفراد ويرغبونهم في التدين تتلقفهم تلك الجماعات السياسية والإرهابية، لتبدأ معهم المشوار من جديد بأسلوب وطريق آخر، وهذا الأمر مرتب ومخطط له بين الفريقين.

الخامسة: أكد صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز – طيب الله ثراه – في لقائه المهم مع صحيفة «السياسة» الكويتية في نوفمبر 2002 أن من أصعب الأمور التي مرت عليه في أثناء مسؤوليته بوزارة الداخلية حادثة الحرم، التي تورط فيها كثير ممن ينتمون إلى جماعتي التبليغ والإخوان المسلمين.

السادسة: إن كثيرًا من زعامات الحركات الإرهابية والتكفيرية كانت بداياتهم في جماعة التبليغ مثل: راشد الغنوشي، وعبود الزمر، وأحمد الريسوني، وأبو قتادة الفلسطيني، وبعد أحداث 11 سبتمبر تم القبض والكشف عن عدد من المنتمين لـ«القاعدة» من الغربيين الذين تحولوا للإسلام عن طريق جماعة التبليغ شأن الأمريكي جون وركر، الذي قبض عليه بأفغانستان في 2001، وزكريا موسوي الفرنسي المتهم بضلوعه في أحداث 11 سبتمبر، وريتشارد ريد «مفجر الحذاء» الذي فشل في تفجير نفسه على متن طائرة متجهة من ميامي إلى باريس بعد أسابيع قليلة من تفجيرات نيويورك، وهو ما جعل عددا من المراقبين الغربيين يدعون لحظر نشاط هذه الجماعة التي اعتبرت «مفرخة» للعنف الإسلامي.

السابعة: في أثناء التحقيقات بحادثة اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، تبين أن كثيرا من أعضاء وقادة الفصائل التكفيرية والقتالية قد بدأ التزامهم الديني عبر جماعة التبليغ. كما ثبت أن مؤسس جماعة التبليغ، إبراهيم عزت، قد ألمح لمنظر جماعة الجهاد، محمد عبدالسلام فرج، بأنه يمكن لتنظيم الجهاد أن يجند أعضاء التبليغ، للعمل في صفوفه.

الثامنة: التقارب الشديد بين قادة الجماعة من الهنود وحكومة الإرهاب في إيران، وكذلك كون الدوحة مركزًا مهمًا من مراكز الجماعة، ويضاف إلى ذلك ما ذكره بعض الباحثين من أن الأصول الستة التي تعتمدها الجماعة منهجًا، في الأصل من اختراع بديع الزمان النورسي التركي، وأخذها محمد إلياس عنه، وفي هذا ما لا يخفى من بعد وصلة روحية بتركيا وقادتها، وهي بذلك عرضة للاستغلال السياسي الإقليمي.

أخيرًا، هم لا يتكلمون في السياسة، ولهم حولها كلمة مشهورة «ليس من السياسة الكلام في السياسة»، وهذا في نظري لب السياسة.