لماذا التصويب مشروع على المحكمة الجعفرية في لبنان؟

لماذا التصويب مشروع على المحكمة الجعفرية في لبنان؟

مصر : محمد أنور السادات يسرب وثائق رسمية إلى سفارات أجنبية!؟
الأيام المئة الأولى من الحرب “الإسرائيلية” ضد غزة: في أبرز التشخيصات والاستنتاجات
صلاة في كاتدرائية سيدة النياح بدمشق لراحة نفوس شهداء الكلية الحربية بحمص

هي ليست دعوة إلى الظلم. ولا يُمكن أن تكون كذلك. فكيف لمَن يشكو غبن أحكام المحكمة الجعفرية، ويُطالب قُضاتَها بالتعمّق في درس قضايا الطلاق والحضانة والتريّث في إصدار الأحكام وتطويرها بما يُحقق الإنصاف للنساء والأطفال والرجال على حد سواء، أن يكون مناصراً لـ«الافتراء» على بعض القضاة النزيهين في المحكمة وشملهم بحملات التهجم على «كيانها»؟

لكنّ دعوة النساء إلى «فرملة» غضبهنّ في كل مرة تطفو فيها قضية إلى الواجهة، ومناشدتهن «دوزنة» تصويبهن على المحكمة إمّا غيرةً على صورتها لدى بقية الطوائف (وكأنّ وضع النساء أفضل في بقية المحاكم الدينية!)، وإما بزعم الحرص على صدقية المحتجّات، هي دعوة ستبقى مبتورة السياق وغير منطقية ما لم يُعالج السخط الكبير الذي راكمته عشرات القرارات القضائية.

لذلك، غالباً ما يكون «الصراخ والتأييد الأعمى» (الذي بات تهمة المناصرات لحقوق النساء الشيعيات) لأي قضية جديدة، بمثابة فعل انتقام من السجلّ الكبير للأحكام الجائرة التي رعتها المحكمة على مرّ عقود، وكانت المرأة ــــ مهما كانت ظروفها – تجسيداً لصورة الضحية المتكررة التي جُلدت مراراً تحت قوسها.

والمفارقة الأبرز هي أن الأصوات الداعية إلى «عقلنة» الغضب، على دراية تامة بحجم المعاناة التي تتكبدها النساء، وهي تقرّ بوجود الفساد الكامن «جوّا العمامات» (على ما يقول الشعار الذي تحمله كثير من الأمهات الغاضبات)، لكنها سرعان ما تتحول إلى الدفاع عن صورة المحكمة كـ«كيان» تحت ذرائع الموضوعية، وإلى رشق الغاضبات بتهم أبلسة الرجال والآباء وشجب تحويل القضايا العائلية إلى قضايا رأي عام.

وفي هذه المعالجة مغالطات جوهرية، أولاها أن المسؤول عن صورة المحكمة هم المسؤولون فيها الذين أقرّوا، بلسانهم ومراراً، بوجود مكامن خلل في بعض الأحكام. وما مبادرة «الإصلاح» التي أطلقها رئيس المحاكم الجعفرية في لبنان الشيخ محمد كنعان قبل أكثر من عام، إلّا اعترافاً ضمنياً بوجود أرضية تُسهّل عملية الانحياز ضد المرأة. ومع امتهان المحكمة «التطنيش» طوال تلك المدة (حتى إن المبادرة لم تُطبّق حتى الآن) وتهميشها صراخ النساء، تكون هي نفسها من يُشرّع استسهال التصويب عليها طالما أنها لم تظهر حتى الآن أي محاولات للتغيير الجدي، تبدأ على الأقل برفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية والسعي إلى إرساء مبدأ الحضانة المُشتركة والبت السريع في قضايا النفقة والرؤية والطلاق.

ثانياً، يغيب عن بال مُطلقي الاتهامات بأبلسة الرجال أن عشرات القضايا التي تُثار غالباً ما يكون فيها الطفل بمثابة أداة ابتزاز يستخدمها الأب لإخضاع الطليقة (من يرى في ذلك مبالغة فليراجع عشرات القصص المودعة لدى الحملة الوطنية لرفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية). وعليه، فإن الانحياز الى المرأة والدفاع عن أمومتها هما، بالدرجة الأولى، رفض للابتزاز وشجب لأسلوب الإخضاع، وليس هجوماً على الرجل بالمطلق. والخطير في الإصرار على هذا الاتهام هو إرساء خطاب شبيه بذاك الذي يتم تسويقه بأن «الرجال باتوا يحتاجون الى النضال من أجل حقوقهم»، إذ بات كثيرون يرددون أن تعامل النساء مع قضايا المحكمة الجعفرية يستوجب الدفاع عن الأب. وفي ذلك لامساواة أيضاً، لأن تحييد الأب المحمي من قبل المحكمة والحريص على مصلحة الطفل رافضاً استخدامه أداة إخضاع أمر بديهي، فيما الحالة العامة تفرض الانحياز إلى من لا تملك الحماية والضمانات. ونحن في بلد اضطر فيه نائب سابق (نواف الموسوي) الى استخدام «يديه» ليحمي ابنته بعدما هدّد طليقها حياتها على خلفية خلاف حول حق الرؤية والحضانة لأن «الشرائع» لم تمكنه من تحصيل حقوق ابنته.

ثالثاً، مخطئ من يعتبر أن حجة الأمور العائلية والشخصية تخدم نقاشه الدفاعي عن المحكمة، لأن جوهر النضال الذي تقوم به كثيرات قائم على عدم اعتبار الوجع والعنف والغبن شأناً «خاصاً» عليهن التعامل معه وحدهن في غياب التشريعات التي تحميهن. فإن لم توفر النساء دعماً لبعضهنّ بعضاً في ظل الغربة التشريعية التي يعانينها في هذه المنظومة، فمن سيُنصفهنّ؟ أما الدعوات إلى عدم التدخل لإنصاف النساء بحجة الأمور العائلية الضيقة فليست إلا تشريعاً لمواصلة تعنيف كثيرات خلف أبواب منازلهن، تماماً كما أن المطالبة بعدم التفاعل مع خلافات الحضانة والرؤية وغيرها تسليم بانتهاك حق الأمومة وموافقة على استخدام الأطفال وسيلة إخضاع.

لن يهم اليوم الحديث عن حيثيات قضية غنى البيات التي انتزع زوجها منها طفلتها الرضيعة (15 يوماً) بسبب ما زعمه عن مرضها النفسي وهوسها بالكلاب، والتي ناشدت المحكمة الجعفرية تحصيل حقها، قبل أن تنتهي القضية بمشهدية هزلية رعاها أحد الإعلاميين. المهم أنه في وقت انشغل فيه كثيرون في التصدي لمن ناصر غنى وضغط على المحكمة الشرعية، كانت هناك أمّ تتوسل أمام أحد المخافر تنفيذ قرار حق رؤيتها لطفلتها البالغة ثلاث سنوات من العمر، بعدما وضعها والدها المغترب «وديعة» لدى شقيقته. بالنسبة الى كثيرات، هذه الأمّ هي النموذج الراسخ في أذهانهن والذي سيبقى حافزاً لهنّ للتصويب على المحكمة الجعفرية. أما الغيور على صورة المحكمة، فليسعَ إلى تحسينها بالضغط على مُشوّهيها. وحتماً، لن تكون وجهته أولئك النسوة الغاضبات.

هديل فرفور، الأخبار، الخميس 21 كانون الثاني 2021