الحراك الشعبي الوطني وأخطار المناورة الأميركية حول بيروت وجبل لبنان

الغرب و”الإسلام السياسي” : لماذا اخترعت الإستخبارات الأميركية “النموذج التركي”؟
غارة أمريكية على مطار الشعيرات : يريدها “الوكلاء” فاتحة حرب، وترامب “بيزنس مان” يحمل مسدساً؟
“منظمات الشذوذ الجنسي” والصراع الطبقي و… الغرب؟

وجَّهَ الحراك الشعبي في لبنان دفة الإحتجاج ضد الولايات المتحدة. تُعَدُّ "شهادة" السفير الأميركي السابق جيفري فيلتمان أمام كونغرس بلاده يوم 19 الشهر الجاري، استفزازاً خطيراً استدعت من الحراك تعديل جدول أعماله، والتظاهر أمام سفارة واشنطن في بيروت. فمنذ يوم 17 تشرين الأول / أوكتوبر الماضي، تتوالى الإستفزازات الديبلوماسية الأميركية للحراك. لكن "شهادة فيلتمان" كشفت "الرؤية الأميركية" إلى الحراك وأعلنت الرغبة بـ"توظيفه".

يمكن للقارئ أن يطلع على نص "الشهادة الفيلتمانية" ليعلم بنفسه، أن هذه "الرؤية" تبخس الحراك اللبناني الراهن. إذ لا تُقَيِّمُه كتمرد اجتماعي ـ سياسي ضد النظام الطائفي، يهدف إلى تغييره أو إصلاحه في جذوره، ما يثبت استقرار المجتمع والدولة داخلياً وخارجياً. بل تُعَرِّفُهُ كأداة سياسية يمكن استغلالها. تراهُ "أناساً في الشوارع"، يمكن للأميركيين و"إسرائيل"، الإنتفاع بآلامهم، ومن غضبهم وسخطهم على أوليغارشيه النظام الحاكم.

منذ بدء الحراك الشعبي ومناورة التدخل الأميركي في شؤون لبنان متتابعة. مساحة المناورة تشمل كل اراضي الدولة. لكن ثقل المناورة يتمحور بمحيط بيروت وجبل لبنان بشقيه الشمالي والجنوبي. تتم المناورة الأميركية بثلاث "أسلحة رئيسية" :

ـ بحركة الحشود المندفعة إلى الشوارع لقطعها، وخنق المواطنين في بيوتهم وأحيائهم ومناطقهم، وعزل العاصمة عن بقية المحافظات. وشل محاور الحركة الرئيسية الشمالية والجنوبية والشرقية مع العاصمة والمحاور الفرعية في المحافظات. وهذه الحركة التي انتهكت حق المواطنين بالتنقل في اراضي الدولة، نصبت حواجز نفسية في وشائج الوحدة الوطنية.

ـ بالإعلام والميديا، بكل الأدوات التقليدية المكتوبة والمرئية والمسموعة الجماعية. كما عبر أدوات الإعلام الجديد، الذي يغزو هواتف وحواسيب الأفراد، بـ"الخطاب الثوري" لليمين اللبناني. فلا نجد شعارات سياسية بل تظلُّم فردي، أو رأي شخصي. ويصبح مراسلو محطات التلفزيون و"الضيوف المختارون" ضباط الإرتباط بين الجمهور و"القيادة الثورية" السرية.      

ـ بالمصارف، وبحاكمية مصرف لبنان، التي نصبت الحواجز المالية والنقدية والإقتصادية في السوق الوطنية. وبهذه الحواجز يتم شل حركة المواطنين الناشطين في قطاعات الإنتاج والخدمات. وهذا الضغط المعيشي والمهني، يُدخل الأزمة الإجتماعية إلى كل منزل، ما يسهِّل على اليمين تعليق الجمهور بأهدافه السياسية، مثل "حكومة تكنوقراط" وغيرها. 

تتخذ أساليب التدخل الأميركي في الحراك، أو في "الثورة اللبنانية" كما يصفها بعض رموز اليمين المحلي، شكلين : الأول مباشر، والثاني غير مباشر. أما أدوات التدخل عبر كلا الشكلين فإنها متعددة، متنوعة، نذكر منها : 

ـ بيانات وتحركات رئيس الجامعة الأميركية فضلو خوري وتنظيمه مع الكادر التعليمي والإداري، كوَّنت "دينامو حراكي" للتدخل، شمل الأساتذة والطلاب والخريجين ومجتمعهم المقيم والمهاجر. وهذا التدخل كان استيلائياً، على الحراك، وأوحى بأنه يفيض من "الطبقة الوسطى" ـ المزعومة ـ لا من "قاع المجتمع". هنا نفهم مغزى الإحصاء المضلل الذي وزعته "وكالة رويترز"، عن مشاركة 2 مليون لبناني في الحراك. بينما لم يكد يبلغ اسبوعه الثاني.

ـ بث "الخبراء" الأميركيين والأجانب، وبعضهم وصل تواً من الولايات المتحدة، بين المتظاهرين والمحتجين وتحويلهم إلى مادة دراسية للبحث الإجتماعي ـ السياسي، والنفسي وربما الأمني. وقد لزم هؤلاء "الخبراء" ساحات الإعتصام وخيم المعتصمين في كل لبنان، حتى رأينا خبيرة أميركية تتولى "دراسة" الحراك الشعبي في مدينة الهرمل. كما فُتحت "عيادات نفسية"، وانتشرت "وحدات بحثية" في ميدان الحراك، تحت ستائر أكاديمية، كما أنشئت "أطر مدنية" على عجل.     

ـ إصدار "بيانات تهديد أو إغراء" من واشنطن للقوات المسلحة اللبنانية ، حتى تترك "حشود الشارع" سائبة، وإن تعدت على النظام العام. وكذلك، نشر "بيانات تأييد" للمحتجين ومطالبهم التي كان "سلاح الإعلام والميديا" يحتكر حق ترويجها، بما يتفق وبرنامج "القيادة الثورية" الخفية للحراك. وقد أطلق هذا "الوعيد" و"الوعد" مسؤولون أميركيون كبار.    

ـ فتح مختبر دولي يمتص تجربة الحراك وخبرته المتراكمة، تديره منظمات سياسية كوزموبوليتية. وهنا، نشير خصوصاً، إلى تمركز "منظمة المجتمع المدني المفتوح" في ساحة الشهداء في بيروت. ويملك الملياردير اليهودي الأميركي جورج سوروس هذه المنظمة. وهي "دماغ" لشبكة "منظمات محلية غير حكومية" عبر العالم. وهذا المختبر يمثل نافذة إنعاش لـ"السوروسية" الكوزموبوليتية، بعد الضربات القوية التي وجهها إليها القوميون الأميركيون والأوروبيون.

ـ يمكن أن ندرج أدوات محلية كوسائل للتدخل الأميركي في شؤون الحراك الشعبي. هناك الأحزاب الطائفية التقليدية، والمنظمات غير الحكومية، والإعلام المحلي الموَجَّه، كما قطاع المصارف الموَجَّه وحاكمية مصرف لبنان. كل هذه الأدوات، هي ما يؤلف "اليمين الثوري الجديد" في لبنان. لكن المنظمات غير الحكومية، وعلى نحو ما بعض اركان قطاع المصارف، وحتى "نجوم الإستعراض السياسي"، مثل النائبة بولا يعقوبيان أو "ضرتها" الكاتبة جمانة حداد وغيرهم، يؤدون أدوارهم المحلية بقيمة مضافة، لأنهم "يخدمون" في عديد الفوج الدولي للحرب الهجينة الأميركية.

ـ برزت "الرواية الإجتماعية ـ السياسية" عن الحراك الشعبي الجاري، أداة فعالة من أدوات التدخل الأميركي. يمكن أن نقرأ الرواية الأميركية في ما نشرته قناة الحرة . وهي تعيد تأويل الواقع السياسي اللبناني في الوعي الجماعي والفردي. فيتم حجب صور وأسباب الصراع الإجتماعي وتناقضاته ويضلل "ناس في الشوارع" بكل عناصر "الرواية الأميركية". لتنحصر أهداف الحراك الشعبي الوطني وشعاراته، وفق هذه "الرواية" في "تسريع إستشارات التكليف"، وإخراج المقاومة الوطنية، وخاصة حزب الله، من السلطة التنفيذية ("حكومة تكنوقراط")، وتفكيك الأغلبية النيابية التي ملكها محور المقاومة منذ انتخابات أيار 2018 ("انتخابات نيابية مبكرة")، … إلخ.

في تقدير الموقف الذي يتقدم افتتاحيات الصحف، وينشر في موقع الحقول، كل يوم تقريباً، اوضحنا قبل نهاية الأسبوع الأول على انطلاق الحراك الشعبي، أن التدخل الأميركي يسعى إلى هدفين أساسيين :

ـ الأول، ضرب قوى الحراك الشعبي الوطني وتحجيمها سياسياً وشعبياً. لأن هذا الحراك قادر على توليد دينامية تغيير جذري للنظام الطائفي الذي ترعاه واشنطن وحلفائها. كما أنه حاضن طبيعي للمقاومة الوطنية، ورافعة اجتماعية وسياسية لها. ولذلك، أرادت واشنطن التخلص منه بسرعة، من سبيل وضع قوى الحراك الطائفي السياسي بمواجهته ودعمها، لكي تنافس ثم لكي تطغى على الحراك الشعبي الوطني، وتواصل نشر الفوضى السياسية في كامل النسيج المجتمعي.   

ـ الثاني، نفخ الأدوات المحلية التي تؤلف الحراك الطائفي السياسي، بقوة مادية ومعنوية، تسمح للولايات المتحدة بركوب الحراك، ذاته، وجرجرته، لتأزيم الوضع اللبناني، والبحث في ثقوبه الواسعة عن منافذ لتحويل الحراك إلى فرصة استراتيجية لواشنطن (وتل أبيب أيضاً). ما قد يضع حداً لفشلهما المزمن في كسب الصراع الإقليمي والصراع الدولي، الذي يخوضانه ضد محور المقاومة وكتلة الدول المستقلة.

في تقدير الموقف العام أن التدخل الأميركي في لبنان، بكل الأساليب والأدوات التي أشرنا إليها، وما قد يظهر لاحقاً، زاد من منسوب التوتر الداخلي والإقليمي. فهل تكتفي واشنطن بهذه "الجولة"، وتمتنع عن نشر الفوضى، وتوقف ضغوطها حتى يستمر الحراك الشعبي الوطني ضد النظام الطائفي، وحتى يتمكن اللبنانيون من تشكيل حكومتهم بأنفسهم، وليدمغوها بعبارة "صنع في لبنان". وهذا يتطلب تدخلاً عربياً وأوروبياً وروسياً وصينياً جدياً وعاجلاً مع الأميركيين. أم يتغلب الحمق والوهم، بدل التبصر الواقعي، على أذهان أركان "الدولة العميقة" في واشنطن، فتنتهي المناورة الأميركية الجارية بالصدام الداخلي ـ الإقليمي الكبير؟.
نظن أن التظاهرة الطلابية والشبابية، هذا الصباح، أمام السفارة الأميركية في بيروت، يجب أن تقرأ بعناية مضاعفة. فالكرة في ملعب واشنطن.

هيئة تحرير موقع الحقول
‏الأحد‏، 27‏ ربيع الأول‏، 1441، الموافق ‏24‏ تشرين الثاني‏، 2019