الميدان صانع التاريخ : هزيمة المنتصرين ـ المقاومة في الجبل (1982 ـ 1985)

الميدان صانع التاريخ : هزيمة المنتصرين ـ المقاومة في الجبل (1982 ـ 1985)

هل شاركت واشنطن باغتيال سفير موسكو في أنقرة ولماذا!؟
تقرير مكتب الـFBI : جرائم الكراهية تسجل أعلى مستوياتها في أميركا
حبيب الشرتوني في “حدَّثني أبي” : عملاء “إسرائيل” وتاريخ لبنان المعاصر

صدر في تشرين الثاني من العام 2015 كتاب للمؤلف غالب ابو مصلح، يعرض لحقبة المقاومة الوطنية في الجبل في مواجهة الاجتياح الاسرائيلي للبنان وعملائها الفاشيين، والتي انتهت بتحويل الهزيمة إلى انتصار.

الاجتياح الاسرائيلي : مشروع اميركي بأدوات اسرائيلية ولبنانية
ينطلق المؤلف من الربط الوثيق بين احداث 1982 ـ 1985 وبين تاريخ جبل لبنان كجزء من تاريخ منطقة المشرق العربي، مشيرا إلى انهما كانا هدفاً استعماريا دائما، تغذيها ذكريات إمارات الفرنجة ابان الحروب الصليبية. ويخلص إلى ان الاجتياح الاسرائيلي والاحداث التي تلته لم يكونا سوى استمرار وتكرار لمحاولات السيطرة التي كانت دائما تواجه من قبل القوى القومية والوطنية العربية. مؤكدا وبالوثائق ان الاجتياح الصهيوني للبنان لم يكن إلا جزءاً من مشروع اميركي لتحويل لبنان إلى قاعدة عسكرية اميركية كبرى.

يتضمن الكتاب سردا تاريخيا وتفصيليا لعملية الاعداد التاريخية للساحة اللبنانية للحظة الاجتياح وكذلك الساحتين الاقليمية والدولية، والتي تولتها الولايات المتحدة الاميركية من خلال دعم المارونية السياسية وتسويقها عربيا، وتفكيك النظام العربي عبر إخراج مصر، واستنزاف العراق وايران في حربهما، وشن حرب على سوريا من خلال “الاخوان المسلمين”.

ويشير المؤلف إلى كيفية اصطدام كل هذه التحضيرات بالواقع اللبناني، عندما فشل الجيش الاسرائيلي بتحقيق اهدافه العسكرية،  وكذلك فشل القوات اللبنانية في حسم معركة الجبل، ما ارغم الاسرائيلي على الانسحاب لاحقا إلى نهر الاولي، في ظل استنهاض الجماهير الوطنية، وعودة المقاومة الفلسطينية والقوات السورية لتلعب دورا اساسيا في التصدي لهذا المخطط –العدوان، وإلحاق الهزيمة به لاحقاً، والتي تجلت بالانسحاب الاسرائيلي ومن ثم الاميركي وصولاً إلى اسقاط اتفاق 17 ايار وعودة القوات السورية والفلسطينية إلى بيروت.

المواجهة والقتال بدلاً من القبول بالامر الواقع
يركز الكتاب على توثيق تطور المقاومة الوطنية في منطقة الشحار الغربي، والتي بدأت  بإتخاذ مجموعة من القيادات الوسطية السياسية والفكرية في الحزب التقدمي الاشتراكي، قرار القتال عند بدء الاجتياح، رافضة قرار قيادتها بعدم القتال. ويروي المؤلف واقعة لقائه برئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط في المختارة، وكيف وجده “وحيدا في قصره، شديد التوتر”.  وعندما سأله المؤلف: “يعني انت لا تريد ان تقاتل”، فاجابه ” إذا كنت تستطيع القتال اذهب وقاتل”. ويضيف ” كان وليد جنبلاط يعتقد ان القتال في تلك المرحلة هو انتحار، وان زج الطائفة الدرزية، وهو المؤتمن عليها، في معركة كهذه فيه خطر كبير على وجودها.

يظهر الكتاب التعارض الذي كان قائما بين القيادة السياسية التقليدية في الجبل، وبين تلك المجموعات التي اخذت على عاتقها مواجهة المشروع الاسرائيلي في الجبل، ويعبر عن هذا التعارض من خلال سلسلة من المواقف والاحداث، ومن بينها الاجتماعات التي عقدت برعاية امين الجميل وضمت كلاً من وليد جنبلاط ومجيد ارسلان عن الدروز وبيار الجميل وكميل شمعون وفادي فرام عن المسيحيين، وتم خلاله الاتفاق على تسيير دوريات مشتركة وإنشاء لجان مختلفة. وفي مقابل هذه الاجتماعات، كان قرار المجموعات المقاومة التي رفضت المهادنة مع معسكر العدو المركب: الولايات المتحدة الاميركية، اسرائيل، النظام اللبناني والقوات اللبنانية.

يعرض المؤلف للرؤية الاستراتيجية التي تبلورت بعد مضي اشهر قليلة على الاجتياح الاسرائيلي، وعلى مواجهة المشروع الصهيوني- الفاشي في لبنان. هذه الرؤية التي حددت الاصدقاء لبنانيا وفلسطينيا وعربيا ودوليا،  والتف حولها مجموعة من القوى الوطنية في الجبل، التي ترتبط بعلاقات سياسية وصداقة، عملت على تشكيل لجان المواجهة وتوفير متطلبات الصمود، وتنفيذ العمليات العسكرية ضد القوات الاسرائيلية وعملائها من القوات اللبنانية.

يفيض المؤلف بعرضه للتناقضات السياسية والطائفية التي رافقت نشوء لبنان، وكيف ان مهمة الطبقة الحاكمة لم تكن حلاً للازمات بل إدراتها، وبالتالي رفع الولاء للطائفة وقياداتها بدلاً من الولاء للوطن وحجب التمايزات الطبقية. وينتهي في هذا السرد إلى اتفاق الطائف الذي يرى ان أدبيات المصالحة الوطنية طمست الفروقات بين أداء القوى الاجتماعية المختلفة ووضعت الجميع، من تعامل مع المحتل، ومن قام بإرتكاب المجاز الطائفية في المقام نفسه مع حركات المقاومة بداعي ان كل الفرقاء ارتكبوا “تجاوزات”.

الميدان هو صانع الانتصارات
تكمن اهمية الكتاب في كونه يقدم سردا تاريخيا تفصيليا ليوميات المقاومة في الجبل، وللمواجهات البطولية التي خاضتها القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية إلى جانب الجيش السوري، معتمدا على معايشته التفصيلية لهذه المقاومة من موقعه كأحد القيادات التي اخذت على عاتقها إدارة المواجهة مع المشروع الصهيوني-الفاشي، ومستعينا بمجموعة من المراجع بعضها يعرض لهذه اليوميات من موقع الخصم، مثل مذكرت القيادي القواتي في حرب الجبل “بول عنداري”، ويقيم رابطا بين هذه اليوميات وما اظهرته بعض المراجع الاسرائيلية والامريكية والفرنسية في اسلوب سلس. ويقدّم الكاتب تحليلاً لانعكاس التاريخ الميكروي في إعادة صياغة التاريخ الماكروي بكل مستوياته، محاولاً الاحاطة بكافة المشاهد المحلية والطائفية والمناطقية والاقليمية والدولية، ومستخلصا العبر منها، غير مكتفٍ بما قدمته وسائل الاعلام. الكتاب يشد التفكير والتحليل إلى ما يجري في الميدان. يبرز كيف تطورت المواقف وتغيرت بين فترة واخرى، بسبب التطور وقدة الفعل والمواجهة في الميدان.

غالب ابو مصلح في هذا الكتاب يعيد الاعتبار للميدان في صناعة التاريخ. يقدم عرضا يعيد التأكيد ان الانتصارات لا يصنعها القادة، بل المقاتلون في الميدان، فعلى ثباتهم وتفانيهم ووضوح الرؤية لديهم واستعدادهم للتضحية تتحطم المخططات العدوانية، فيهزم المنتصرون وينتصر المهزومون.

الداخل الاسرائيلي كان حاضراً  ايضاً في الكتاب، وانما من خلال انعكاس اثار الميدان اللبناني على الكيان الاسرائيلي، مفصلا هذا الانعكاس على المستوطن، على المؤسسات والاداء الاقتصادي، على القوى السياسية والمالية العامة، في ارتفاع الدين العام وخفض سعر الشيكل بنسبة 23%، وانهيار اسعار اسهم المصارف بنسبة 33%. رصد يظهر ان الوهم والضعف لم يقتصرا على معنويات الجيش الذي قيل انه “لا يقهر”، بل اصاب عمق المجتمع الاسرائيلي بعد اقل من عام على الاجتياح بسبب عجزه عن تحقيق اهدافه، وبسبب الخسائر البشرية والمادية التي انعكست في احد جوانبها ارهاقاً للميزانية العامة.

عندما يتحدث المؤلف عن هزيمة المنتصرين، لا يشير فقط إلى انسحابهم من الجبل ومن الجزء الاكبر من لبنان، بل يلقي الضوء على  مسار الانهيار الاستراتيجي للمشروع الصهيوني في المنطقة، وافتضاح حقيقة صورته في المجتمع الدولي، والفشل في تحقيق الاهداف الاميركية من الحرب التي قامت الادارة الاميركية بالتحضير لها منذ العام 1981، والتي كلفت الجيش الاسرائيلي بشنها لتجنب ردود فعل عسكرية مثل احتمال رد الاتحاد السوفياتي عليها.

الكتاب ليس عرضا فقط لوقائع المقاومة في الجبل، او تحليلاً لمواقف القوى المتصارعة، وإنما هو توثيق ايضا لاحداث وشخصيات ربطت مصيرها بالمشروع الاسرائيلي، وكذلك يعرض للتباهي الاسرائيلي عشية الاجتياح بقدراتهم وبالاهداف التي يسعون لتحقيقها بدخولهم بيروت خلال 48 ساعة، مبرزاً اهمية عامل الوقت الذي صنعه صمود مقاتلي المقاومة الفلسطينة والحركة الوطنية اللبنانية والجيش العربي السوري وتأخيرهم نجاح العملية الاسرائيلية مما اتاح للاتحاد السوفياتي ممارسة ضغوط على اميركا واسرائيل.

خالد محي الدين، باحث في العلوم الإجتماعية
أواخر أيار 2016
العنوان الكامل للكتاب :
هزيمة المنتصرين ـ المقاومة في الجبل (1982-1985)
المؤلف : غالب أبو مصلح
الطبعة الأولى، تشرين الثاني/نوفمبر 2015، عين كسور/لبنان، من دون دار نشر.