المفكر والباحث علي القادري : الحرب في الإمبريالية هي عملية ذاتية ضرورية

المفكر والباحث علي القادري : الحرب في الإمبريالية هي عملية ذاتية ضرورية

قواعد عشق.. “الأربعين”
رداً على أسعد أبو خليل : قراءة مغايرة للصراع والمقاومة في المشرق العربي
وقائع العملية العسكرية الخاصة التي ينفذها الجيش الروسي في أوكرانيا حتى اليوم الـ 241

قدمت أعمال المفكر والباحث علي القادري مساهمات نظرية معمقة في التحليل النقدي للرأسمالية، لا سيما في الدول العربية. كان نقد الرأسمالية قد أوشك أن يتلاشى في ظروف هيمنة القوى النيوليبرالية على النظام العالمي، بعد انهيار الإتحاد السوفياتي و"المعسكر الإشتراكي" في مطلع تسعينيات القرن الماضي. بذل جهد تكنو أيديولوجي جبار، حينذاك، لتصوير الراسمالية كـ"قصة نجاح"، وتحطيم التراث الأكاديمي والسياسي والأدبي، الذي كرسته تجارب الحركات الإجتماعية الإشتراكية في مجال بناء "البديل الإجتماعي" للرأسمالية. يعيد القادري، الآن، تجديد التحليل النقدي للنظام الرأسمالي، بالتركيز على قانون القيمة، القانون ـ المقياس الذي يجسّد التناقض بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية في السلعة. فالقيمة كعلاقة إجتماعية في التشكيلة الرأسمالية، هي التي تحرك التوحش الرأسمالي على الإنسان والطبيعة، عبر شن الحرب. يوفر هذا الحوار مع المفكر والباحث علي القادري فرصة للإطلاع على أسس هذا التحليل ومقولاته وخلاصاته. ويحفز الفكر على بناء "البديل الإجتماعي" للرأسمالية. 

 

كيف يمكن أن تلخّص وجهة نظرك حول المنطقة العربية وتحليل اندماجها في النظام الرأسمالي العالمي من منظور قانون القيمة؟ وكيف نفهم الإمبريالية من هذا المنظور؟.
الإمبريالية هي سيرورة التراكم على المستوى الدولي في الزمن الإحتكاري، وهي قلّما تتجسّد بطرق غير عنيفة. الحرب بالنسبة للإمبريالية هي الحل المؤقت للتناقض بين تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. الحرب غاية في ذاتها وأداة للتراكم في آن واحد. إن تاريخ هذه المنطقة قد حددته الكولونيالية والإمبريالية. لأن المنطقة حلقة استراتيجية في الدورة الاقتصادية الدولية كونها تُشكل مصدرا أساسيا لصناعتَي الحرب والنفط في تكوين الثراء الدولي. هذه المنطقة عانت دائمًا من هجمات شرسة. كانت هذه الهجمات على الدوام عمليات إنتاج بذاتها ترفد عمليات الإنتاج المركزية. وقد حددت هذه الهجمات إلى حد كبير الطريقة التي تم بها الاندماج الاقتصادي للدول العربية بشكل تبعي. وبما أن الحرب هي الآلة الأولى للإنتاج في المنطقة المحددة إمبرياليًا، بالتالي كان تدمير أسس تكوين الإنسان التي تُعدّ البيئة من أهمها من ضمن آليات تكوين مدخلات الإنتاج الدولية. 
الحرب تقتل الإنسان الحي والإنسان الرمز أي الإنسان الذي يحيا برموزه وليس برموز رأس المال. إنهم لا يدمرون البيئة فحسب، بل يدمرون الإنسان وأسس إعادة إنتاج الإنسان. لأن في ذلك تخفيض نسبي للتعداد السكاني والنفقات على القوى والفئات العاملة أي تخفيض العمل الضروري (necessary labor) وزيادة العمل الفائض. ومن الأسس الرئيسية لإعادة إنتاج الإنسان هي الزراعة والفلاحة وهذا المجالان هما من مرسيات البيئة الأساسية. فزعزعة البيئة تعني زعزعة الزراعة والإنسان. لذلك فإن ضرب القدرة الإنتاجية في مجال الزراعة هو ضرب لأساس تكوين الانسان وللتنمية البشرية أي تبديد القدرات الاجتماعية القادرة على إعادة إنتاج الإنسان، والتي هي بدورها، نتاج لقدرة القوى والفئات المنتجة في السلطة على محاصصة  قدر أكبر من الناتج. وللتذكير، كل المداخيل ريوع في ظل الراسمالية. 
فالتنمية في نهاية المطاف هدفها تنمية الإنسان الاجتماعي وليس الانسان المجرد وهي نتاج الصراع الطبقي. إن ما يحدد وجود التنمية من عدمها في بلادنا هو قدرتنا السياسية على تدوير الناتج الاجتماعي وفائض القيمة الذي نحتاجه لبناء ذواتنا في اقتصادياتنا الوطنية بما في ذلك إضفاء تحولات اجتماعية نوعية على الثقافة والتحول المؤسسي. ولذلك فإن كل تسرّب لفائض القيمة والناتج المحلي إلى الخارج بشكل نقدي هو ضرر علينا وإعاقة للتنمية. فالنقد هو الوجه العالمي للقيمة، والقيمة هنا تحديدا هي ما يتيح لنا الفسحة التي تعيد تكوين أنفسنا على أرضية أكثر صلابة أو العكس من ذلك. والقيمة هي الناتج الإجتماعي السلعي الذي يتراكم ليس فقط بالمكننة، فالتقدم التكنولوجي يُعتبر ذاتي الدفع في ظل الرأسمالية، إنما لأسباب التحولات في صيرورة العمل ومنها بالذات عملية اختزال الذات، أي إختزال الوعي الثوري.
إن النقطة الرئيسية التي أتحدث عنها هي أن عملية دمج اقتصاداتنا في الاقتصاد الدولي كانت في الأساس عملية استبدادية أو عملية إتباعية من خلال الهيمنة العسكرية والأيديولوجية. وهذه العملية ليست مختلفة عن معظم عمليات الإستتباع  والإدماج في العالم الثالث والتي ما زالت مستمرة لسد ثغرات أزمات المركز. بالطبع، كانت لدينا بذور التطور الذاتي الموجودة في عملية التصنيع التي ظهرت في العديد من المشاريع في منطقتنا، مثل مصر في عهد محمد علي باشا. كذلك في بلاد الشام والرافدين، وخصوصاً الحلقة المُدنية التي ضمت طرابلس، حلب، والموصل، التي شكلت الحزام الجنوبي للسلطنة العثمانية. كانت لهذه المدن الثلاث الرئيسية عملية إنتاجية وصناعية كان يمكن أن تشكل بذور انطلاقة رأسمالية عربية مبكرة. وللتنويه، فالرأسمالية حالة عالمية منذ البداية، على عكس ما تأتي به التيارات الأورومركزية، لا سيما المقولة التي ترددها عن صعود النمط الرأسمالي في بريطانيا إلى تفسّخ العلاقات الاجتماعية في الريف الإنكليزي من جراء ليبراليته أو فصل التسيد السياسي عن الاجتماعي.
لكن عملية التنمية الدولية تمت في ظل أزمة فائض إنتاج دوليّ فكان لا يُراد لمجتمعات أو دول أخرى امتلاك القدرة الإنتاجية. وهنا أتكلم عن الفاعل التاريخي لجوهر التطور المادي، أي أن حظر تنميتنا كان فاعلاً في تنميتهم. لذلك، وجب لفت النظر إلى آلية عمل أزمات فائض الإنتاج التي واكبت التطور الرأسمالي منذ نشأة الراسمالية. ففائض الإنتاج هذا ليس فقط ناتجا عن فائض السلع العالمي المتوافر في الزمن المحدد، إنما هو حالة اجتماعية. إذ أنه حتى لو لم يكن هناك فائض دولي، فإن الفائض المنتج لسوق ضيقة يخلق حالة من الوعي الذاتي تحتم إلغاء المنافسين ومواردهم أينما كانوا. وهذا بالطبع يساهم في تفسير مجازر الرأسمالية الأولى. وبالتالي جرى العمل على تدمير قدراتنا الإنتاجية في سياق عملية حذف للإنسان وتدمير البيئة التي يقوم الإنسان بإنتاج نفسه من خلالها. 
إن التركيز الأحادي على الجانب البيئي مضلل لأنه يلغي أولية أو أسبقية وجود الإنسان والظرف الاجتماعي عليه. هو بالذات يلغي قانون القيمة التي من خلالها يتم إعادة ترتيب الوضع الاجتماعي لعملية إنتاج اجتماعية بالأصل. الإنسان، وهنا نعني الإنسان الاجتماعي المجسّد بتركيبة الطبقة ـ هذه النقطة الأولى والأخيرة في عملية التراكم ـ هو الذي يتعامل مع بيئته بصور رمزية بما في ذلك الوجه النقدي للقيمة. الإنسان يُدمَّر بتدمير بيئته، لذا كان تدمير البيئة مدخل إنتاجي لتدمير الإنسان من أجل تكوين القيمة.
بدأ التدخل الإنكليزي والفرنسي في غرب أفريقيا وفي المنطقة العربية وبقية غرب آسيا، من أجل إتباعنا بطريقة أو بأخرى لنظام العمل الإنتاجي الدولي والمنظومة الرأسمالية الدولية المسيطرة. وبما إن التبعية ليست أمرا يتحدد بضربة واحدة، لذلك كان من الضروري دائماً إعادة إنتاج السلطة الرأسمالية والسلطة الإمبريالية أو الكولونيالية على المنطقة. وكما ذكرت سابقا، كانت أزمنة فائض الإنتاج حالة اجتماعية، أي أنها علاقة سائدة وعلاقة قوى منوط بها نمط من الوعي تعمل على أسس عنصرية لإلغاء كل ما هو آخر ليس له علاقة في السوق من حيث القوة الشرائية أو العملية الإنتاجية. هذه السيرورة هي الفاعل التاريخي، وليس الفرد المتجاوز للتاريخ. 
لقد بدأ ذلك بطرق مباشرة وغير مباشرة، بتدخّلات جرت في ظل الإمبراطورية العثمانية الضعيفة. وأنا لا أريد أن أكرر ما هو معروف، إنما أود أن أشدد على أن ضرورة اتباعنا للغرب بشكل استبدادي، كانت تتفاعل ضده أو ضد إبادتنا، في بعض الأحيان، عوامل تتعدى صمودنا، مثل المضاربة أو التناقض بين الدول الغربية. ثم بعد ذلك، أصبح لهذه التدخلات شكل كولونيالي مباشر. بدأ ذلك في الجزائر أولاً حيث كان تدميرها ضربة كبيرة للمنطقة. فنحن لا نتحدث فقط عن 2 ـ 3 ملايين ضحية قضوا في حرب التحرير الأخيرة، إنما عن تركيبة سكانية للجزائر استشهد منها 10 ملايين نسمة بين عامي 1837 ـ 1960. هذا عدد هائل من الأشخاص الذين تمت إزالتهم من المعادلة. فالإبادة الكلية للشعوب كانت مرافقة للكولونيالية الغربية، ليس لأسباب تُستَمَدُّ من روح تطوراته الفكرية ولكن ليس بمنأى عن قواعد إنتاجه المادية. لقد كانت ظاهرة الإبادة الجماعية ولجم التنمية حالة خاصة بالرأسمالية عبر التاريخ نظرا لطبيعة الدورة الاقتصادية لمنظومة رأس المال المتعلقة بمعدل أرباح تصاعدي يتآكل مع تدني مستويات الإستغلال وأزمة فائض الإنتاج الآنفة الذكر. هاتان الأزمتان مترابطتان وهما يحتمان التحكم بسيرورة العمل بما في ذلك ضبط العملية الديموغرافية.
جاء بعد ذلك الحكم الكولونيالي المباشر وخلق نظام الدول التي نعرفها الآن. وهو نظام الدول التابعة، الضعيفة، المركبة على أساس جغرافي واجتماعي من خلال الدساتير (والدستور هو الوجه القانوني المصغّر للدولة). وكانت هذه بداية نشأة الدولة الوطنية كما نعرفها اليوم, وكانت تكونت في أوروبا أولاً، كجهاز أدواتي لخدمة علاقة رأس المال. ثم أتى تشكيل دويلاتنا الوطنية كأداة لأداة. فكانت تُسمى هزلاً بالدول الأكثر تنمية، وذلك لأن ما استعارته من الغرب لم يكن مؤاتياً لنا. كانت الدساتير تعمد إلى مدح وتمجيد الوجه الثقافي لمجتمعاتنا من أجل الانقضاض على القوى والفئات العاملة بغية تفريقها. ويجب أن نشير بشكل خاص إلى تكوين الدولة اللبنانية بتقسيماتها على أسس هوياتية ثقافية، بوصفه المدماك الرئيس في إرساء البنية المتهتكة للدول المجاورة ، وما يزال لبنان هو "النموذج الكولونيالي". ذلك أن قوة الرأسمال هي في تقسيم القوى والفئات العاملة، تلك القوة المستمدة لا من ازدياد ماله أو التفاوت النقدي بل من ضعف القوى والفئات المنتجة والتقسيم الهوياتي الذي يطالها. 
إن تركيب المفاهيم الإجتماعية يختلف عن تجريبية العلم الوضعي، فنحن هنا نتكلم عن رأس المال كعلاقة اجتماع وعلاقة قوى تتغذى أولا بمدى قدرتها على إضعاف نقيضها، ونقيض رأس المال هو العمل الذي يضعف بتفتيته على أسس هوياتية. لذلك تمّ بذر هذه التناقضات وإعطائها شكلًا سياسيًا يعيد توزيع حصص الإنتاج على أساس هوياتي إلى حد منع التنمية، من خلال تذييلها لعملية الإنتاج بالمركز ليس فقط كمدخول إنما كذلك كهدر. بالطبع، ضرب ذلك قدرة البلدان العربية على إعادة إنتاج ذاتها وقوتها الغذائية. فالأمن الغذائي هو ركيزة الأمن ككل لأنه كذلك يوفر القيمة الضرورية الرافدة للتصنيع. والمسألة الغذائية هي الشرط المسبق لأي نشاط إنتاجي لاعتماد الإنسان الوجودي على التغذية. ومن هنا كان التركيز على الضرب المكثّف للزراعة وشلّ القطاع الزراعي في الدول العربية لإحكام السيطرة عليها. فالدول العربية هي الدول الأكثر اتكالا على استيراد المواد الغذائية، وأكلافها تضاف في غالب الأحيان إلى المديونية الخارجية، وتقتطع من أجور القوى والفئات العاملة. لكن المسألة لا تتوقف هنا، فهي ليست مسألة أجور فقط، ولربما كانت مسألة الأجور ثانوية، بالمقارنة مع بقية النتائج الاجتماعية التي تترتب على انهيار الأمن الغذائي. حيث نرى أن إضعاف استقلالية وإرادة القوى والفئات العاملة يشكل إلغاء لـ"الذات" في علاقة الذات بالغرض في علاقة القيمة. فمن دون مقدرات سياسية للطبقة العاملة المستندة إلى استقلالية التغذية، تختزل الذاتية في القيمة وحينها يُشيّأ البشر. وتشييء البشر يسهّل استهلاكهم أحياء في مدة قصيرة من دورة الإنتاج.

كيف يتداخل قانون القيمة في هذه المعادلة؟ 
قانون القيمة هو القانون الذي يحقق التناقض الرئيس في علاقة القيمة. من منظور المنطق الجدلي يصبح قانون القيمة المقياس "measure" الذي يجسّم التناقض بين القيمة الاستعمالية أي العام والقيمة التبادلية أي العام والمجرّد. للتذكير نحن عندما نتكلم عن قيمة لا نتكلم فقط عن الغرض الفيزيائي أي البعد الأنطولوجي، إنما عن تلك العلاقة المشوبة بالتناقضات والتي تتوسع بحكم تناقضاتها التي يؤديها قانون القيمة. هناك دوران يلعبهما قانون القيمة. أولاً، توزيع الموارد بناء على معدّل الربح لكلّ من القطاعات الاقتصادية فيُحدد كيفية توجيه وتوزيع طاقة العمل وبالتالي التاريخ الذي هو تجسيد لرأس المال. وهنا قمنا باختزال العمل في التناقض التاريخي للتوضيح. ومما لا شك فيه أن انكسارات الطبقة العاملة وفكرها من الماركسية الأورومركزية التي أيضا تُلام على هذا الانحسار الأيديولوجي يسمح لعلاقة رأس المال بمؤسساتها وفكرها أن تهيمن على مصير الإنسانية. مما يعني أننا اليوم أمام علاقة قيمة تكبر باستغلال الإنسان والبيئة بعملية أيضيّة "metabolic" ولديها كذلك القوة الحقيقية والأيديولوجية كي تطبق كل ما تريده، بما في ذلك تذييل الطبقة الحاكمة بأفرادها وجماعة في عملية إنتاج هدرية.  والدور الثاني يكمن في تحضير البيئة الاجتماعية بهدف السيطرة على العمل بأرخص الأثمان.
إذن كيف نحضر البيئة الاجتماعية في منظومة إنتاجية رأسمالية دولية مترابطة؟ إن طبيعة عملية الإنتاج الإجتماعية الدولية لا تجعل قانون القيمة محصورا داخل حدود أي بلد إنما متعديا لحدود الدول. فقانون القيمة كما البيئة عابر للحدود الوهمية بين الدول وفي وحدة الإنسان مع البيئة، تلك الطبيعة الاجتماعية التي تكون وتكوّن الإنسان. يعمل قانون القيمة على صعيدين: أولا يُبَخّس الإنسان كي تُبخس القيمة والقيمة هذه ما هي إلا أكلاف إعادة إنتاج العمل الاجتماعي، وثانيا بتدمير البيئة كمُدخل في الإنتاج خارج عن إرادة العمل إنما في نفس الوقت تقوم آفات البيئة المدمرة بتقصير حياة الإنسان وتكلفة إنتاجه. وهنا أنوّه بأن الطبقة فئة اقتصادية وقانونية في آن واحد. وكما أن النقابات تمثل العمال في دول المركز فإنه خارج حدود المركز تغدو الدول التي تم تشكيلها هي المؤسسات التي تمثل العمال. وبالتالي فإن ضرب الدول هو ضرب لهذه "النقابة الكبيرة" للعمال التي يشكلون عبرها قوة تفاوضية للاحتفاظ بفائض القيمة المنتجة ومنع تسربها إلى الخارج، إذا اعتمدنا مفهوم الدولة والحزب والنقابة كأشكال التنظيم الاجتماعي ليس إلا. ذلك أن أي تسريب إلى الخارج على شكل نقود أو بشكل مباشر، مثل الهجرة، هو تسريب للقيمة التي سرعان ما يكتسبها رأس المال الإمبريالي،, وهذا ما يسمى بالريع الإمبريالي. ولكن بالطبع الريع الإمبريالي فئة أكبر وأكثر تشابكا مع الواقع من أن تختزل في النقد أو الهجرة. فالعامل الرئيس في الريع الإمبريالي هي تلك السلطة التي تنقل أصول العالم بالدولار وبهذا تكون الملكية الفعلية لأميركا. وبالتالي إن تكوين القيمة في مسألة نمو الأرباح في المركز الإمبريالي تستدعي دوماً ضرورة وجود ضرب مستمر للإنسان لمراكمة المزيد من القيمة. وهنا نعني أن الربحية منوطة بدورة اقتصادية تتكون في الزمن الحقيقي أو الاجتماعي بحيث تكوّن القيمة من مُدخل بيئي وإنساني غير منقّد أو قليل التنقيد. ويغدو تدمير الدولة أو إضعافها أشبه بعملية تسليع الإنسان في سياق الاستعباد الجماعي لأهل البلد والاستحواذ على القيمة التي ينتجون أو يشكلونها بأنفسهم. وقلّة التنقيد هذه هي نتاج لسلطة العمل المتمثلة بأدوات تنظيمية حزبية ونقابية وبما أننا مندمجون أكثر مع الاقتصاد الدولي، فكذلك بمدى قوة الطبقة العاملة في الدولة. فالرأسمال الوطني ليس أساسا وطنيا، لأن الطبقة الاجتماعية لا تتبع الباسبور. ففي الدول العربية لا ارتباط- غير النهب من خلال عملية تسييل الموارد الوطنية- للكومبرادور مع الوطن.
ثم مرت البلدان العربية- في فترة ما بعد الاستعمار وشأنها شأن العالم الثالث بأكمله- بفترة من القوة النسبية بسبب ضعف نسبي أصاب دول المركز إثر الحربين العالميتين. استطاعت دولنا في هذه الفترة زيادة قدرتها على الاحتفاظ ببعض إنتاجنا. ذلك من خلال ضبط حساب رأس المال وضبط الحساب التجاري أي التسريبات التي من خلالها يتسلل الريع الإمبريالي إلى الخارج والتي كانت الكولونيالية قد فرضتها علينا عبر القضاء على زراعتنا وأخذ منتوجنا مجاناً. نحن نتكلم هنا عن المرحلة ما بين 1945 و1980 حيث هُذّبت الرأسمالية الإحتكارية بوجهها الإمبريالي ومر العالم خلال تلك الفترة بما يُسمى العصر الذهبي للرأسمالية اتسمت بتدخل قوي للدولة في مضمار الخدمات الإجتماعية كانت محصولا لتنافس المنظومة الغربية مع الاتحاد السوفييتي. اقترنت هذه الفترة كذلك بإعادة إعمار ما بعد الحرب، الأمر الذي نشل اقتصاديا المركز من خلال دورتهم  الاقتصادية الذاتية من خلال تدخل الدولة في الإنفاق الاجتماعي. وللتركيز على الزراعة، التي بدونها لا ينجح التطور الصناعي، اضطرت أميركا أن توزع أراضٍ في كوريا الجنوبية كي ينجح التصنيع. يقضي ذلك بمنعنا من النمو كي لا نتمكن من التنافس أو تطوير أي قوة للتفاوض. إنها مسألة إضعاف مستمرّ. للتذكير، إن إنهاك الشعوب واستعبادها ليست حكرا على التراكم البدائي، حيث شكلت العبودية سُلّم إسناد لصناعات المركز المأزومة. وبما أن أزمة رأس المال أعمق تصبح سبل الاستعباد أقوى وأعمق كذلك. وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي وهيمنة الأيديولوجيا النيوليبرالية- التي هي تكثيف لعلاقة رأس المال الهمجية- غدونا أكثر ضعفا إلى حدّ التحلّل والانقسام على أساس هوياتي، وهذا يفسر قوة رأس المال. هنا خرجنا من العصر الذهبي ودخلنا إلى العصر الرصاصي مع انحسار الدولة وتكثيف عمل قانون القيمة بتحويل العام إلى الخاص، وكذلك تركيز الإمبريالية. مشكلتنا إذن آيديولوجية طالما أن رأس المال يسيطر على إنتاج الأيديولوجيا ويتحكم بطريقة تفكير الناس وتكوين المفاهيم وتصويرها بشكل ميتافيزيقي يعزلها عن الواقع. بالطبع من مجمل الأزمات التي تحيق بنا، تكون الأزمة الأيديولوجية؛ الشاقول لكل الأزمات. وهي بالطبع ليست نتاجا ظرفيا أو آنيا، إنما هي نتاج لتنظير خاطئ ولما زرعته أحزاب اليسار من أخطاء نحصدها اليوم. وتحدث عملية التصرف بحذف عوامل الإنتاج التي هي الإنسان والبيئة وسائر وسائل الإنتاج التي نملك. أي أن النيوليبرالية تحيد لتبخيس الموارد بما فيها الإنسان والبيئة كمداخيل إنتاجية. ويتم ذلك من خلال الحرب التي هي أفضل طريقة لحذف أو تدمير هذه المقومات بالإضافة إلى تدمير القطاع الزراعي. عملية الإنتاج تتطلب الحذف والإدماج في آن، فما تعجز عنه النيوليبرالية تأتي الحرب بتكاليفها النقدية والمباشرة لترخص الإنسان وبيئته. ونرى أن الدول العربية من بين أكثر الدول استيرادا للغذاء وأنها كذلك من أضعف البلدان أمنياً. فالترابط بين الأمن والأمن الغذائي ليس بالمسألة العرضية؛ إنهما متلازمان. ذلك أن استتباب الأمن هو جوهر المكون السيادي الذي يمنح الناس فرصة تكوين أفكارهم بشكل مستقل أكثر والعمل من خلال الدولة على التفاوض أو السعي للاحتفاظ بأكبر جزء ممكن من إنتاجهم وتقليص الحصة التي تتسرب منه. ومفهوم الأمن هذا يختلف من حيث المضمون عن مفهوم الأمن المتعارف عليه. الأمن هو أولا أمن الطبقة العاملة أي حريتها من العَوَز وقدرتها على التطوّر بما في ذلك تحسين ظروف معيشتها وكل هذا ليس بمعزل عن الترابط بين الأمن الفردي أو المجتمعي والأمن القومي. لا زالت أسس حرب الشعب بما تتطلبه أساسا من جبهة وطنية طلبة تكون نتاجا للسياسة التوزيعية للدولة التي توفر الأساسيات لحقوق المنطلق الرئيس لبناء الأمن القومي. نحن هنا نتكلم عن التوافق بين التنمية والمقاومة لطريق حياة الشعوب.

كيف يرتبط ذلك بالزراعة والفلاحين تحديدا؟
إن استقلالية الأمن الغذائي هي أساس إعادة إنتاج الطبقة العاملة واستقلالها، وهي عنصر من عناصر أمن الطبقة العاملة الرئيسية. تمنح هذه المعادلة الاستقلالية للطبقة العاملة لاتخاذ قراراتها بنفسها وحمايتها من الذيليّة وتبعيّة قراراتها للسلطة الحاكمة التي تتحكم بغذائها. فبمجرد أن تتحكم الإمبريالية بغذاء الطبقة العاملة وتكون قادرة على تجويعها، تفقد الطبقة العاملة القدرة على القتال والدفاع عن نفسها في ظل الهجوم الإمبريالي إلا بتقنية متدنية وتكنولوجيا ضعيفة لأن الإصلاح الزراعي هو أصل التصنيع. هذه هي البديهيات التي تتضح لنا كمعادلات متراتبة توصل الأمن الغذائي بالأمن الكلي. لكن الأمن الغذائي هو المحور المستهدف من الإمبريالية. كل مشاورات منظمة التجارة الدولية تتوقف لأسباب لها علاقة بالتبادل التجاري الزراعي رغم أن حجم التبادل هذا لا يصبو إلى حوالي 5% من مجمل التجارة الدولية. فالعامل السياسي أولي هنا وكذلك عامل التجويع كسياسة إمبريالية تخفض عدد السكان. هذه السياسة الأخيرة أي سياسة التجويع هي ركن من أركان الإمبريالية لأنه بالإضافة إلى أثرها الديموغرافي فإن لديها عاملا سيكولوجيا اجتماعيا ألا وهو عامل التخويف أو ترهيب الشرائح الاجتماعية من هول المجاعات الذي بدوره يقوم بتقوية العصبيات الهويّاتية والقوميّة على حساب تراصّ الطبقة العاملة. فبادئ ذي بدء، مناظر الجوع تستجدي الشفقة والتلاحم بين الشعوب لكن سرعان ما تختفي هذه المشاعر لتنضوي تحت ولاءات شبه قبليّة ترد أسباب مجاعات الشعوب لدينها، للونها، أو عرقها. التجويع كأداة آيديولوجية وأداة تفريغية (من التفريغ السكاني) هو الثابت في الإمبريالية.
ولذلك فإن عملية تحقيق الأمن الغذائي وأمن الطبقة العاملة هي العامل الرئيسي في تكوين الوعي السياسي. فالوعي السياسي يحدد قدرتنا التفاوضية على إعادة جزء كبير من المنتوج الزراعي ومنتوج الاقتصاد الكلي الذي سنحتفظ فيه دون أن يتسرب للإمبريالية. لا علاقة للإنتاجية بحصة اليد العاملة من الناتج. الإنتاجية هي فائض القيمة الذي يُنمّي الثروة، لكن التغيرات في حصة الأجور سببها القدرة السياسية للطبقة العاملة. وهكذا، تستهدف الإمبريالية في المقام الأول الأمن الغذائي والمنظومة الزراعية من خلال إعادة ترتيب حقوق الملكية، أي بتحويل الملكية المشاعية إلى ملكيات فردية عادة ما تكون شديدة التركيز، أي أن الملكية تعود لبعض العائلات التي تستحوذ على المنتوج لأغراض تجارية. ونستذكر هنا أن ما حصل في انجلترا من إغلاق للمشاعات وطرد للفلاحين، وما فعله ستوليبين في تغييره لمشاعية روسيا القيصرية كانا يشكلان عملية طرد للفلاح من الأرض من أجل توسيع العمالة المأجورة.
إن قراءة تاريخ الزراعة العربية، توضح كيف تم شلّها عبر تدمير زراعة الكفاف وتدمير الإنتاج الزراعي وخاصة التحول إلى المحاصيل النقدية التي تتحكم بأسعارها السوق الدولية. وذلك عن طريق إنتاج فائض في العمالة بهدف تخفيض الأجور وترخيص الإنسان وإضعافه لكن المحك في هذا ما زال مناطا باستيراد الطعام أو بقدرة مضاربي الخارج على التحكم بالسوق. اليوم في الدول العربية، يتألف ثلثا سكان المدن من مهجرين من الأرياف إلى المدن. وهم يعيشون في فقر مدقع ربما أسوأ مما كانوا عليه في الريف. إضافة إلى أن حالة البيئة في المدن التي يقطنونها الآن هي أسوأ بكثير من الحالة البيئية للأرياف التي كانوا يسكنونها. لقد أهملت الزراعة بإهمال الاستثمارات بها حيث تدنت الاستثمارات إلى أدنى مستوياتها في الربيع العربي وتدنت الاستثمارات في البنى التحتية التي تحارب الجفاف والتصحر خصوصا مع التغير المناخي الذي عبر نقطة اللاعودة.
هذا التدني في الإنتاجية الزراعية وضرب زراعة الكفاف وعدم الاستثمار في الزراعة وقضم الأراضي وضمّها بشكل غير قانوني وطرد الفلّاح من أرضه هي إعادة هيكلة وأشبه بتراكم بدائي مستمر عبر التاريخ. وهي عملية استغلالية تسلّع الإنسان أي أنها عملية استغلالية تجارية كالإستعباد والاستغلالية التجارية، وتُسمى ذلك لأن صعود الطبقة التجارية فيما بعد الثورة الإنجليزية في أواسط القرن السابع عشر هي التي شجعت العبودية من أجل دعم صناعات المركز لمدخولات رخيصة من القطن والسكر. فكانت الاستغلالية التجارية المرتبطة بممارسة الاستعباد أكثر أنواع العمليات الإنتاجية المراكمة لفائض القيمة، أي أنها كانت طبيعيا أكثر استغلالا من نماذج الاستغلال الفائق أو "Super exploitation". لكن هذه الأشكال من الإنتاج الاستغلالي لم ينتهِ مع ما سمي مراحل التراكم البدائي. هذا يعني أننا أقرب في عملية الاستغلال التي نعيشها إلى العبودية من قربنا للاستغلال الصناعي. فقد تعمقت أزمة الرأسمالية، من فائضها إلى ربحيتها، فاضطر رأس المال أن يوسع نطاق عبوديته من الفرد إلى الدول. فحروب الانتهاك هي سلب لإرادة الشعوب من خلال انتهاك حقوقهم بتدمير دولهم، وبما أن العبودية هي سلب للإرادة، فإن تدمير الدولة بما هي من منصة للتعبير عن إرادة الشعوب، هو كذلك استعباد على نطاق واسع يؤاتي ما يتطلبه السوق من توسيع للمجالات التي تفضي إلى تكثيف فائض القيمة. إن ما يحصل هو عملية إفقار وسلب للإرادة، , وليس من فرق بين الفقير الذي لا يستطيع التحكم أو التفاوض وبين العبد. لذلك، فإن عملية الاستغلال التي نتعرض لها في بلادنا أعلى بكثير من أي عملية استغلال أخرى،, وهذا بالضبط ما أركز عليه.
أريدُ أن أتوقّف قليلا عن مفترق أهمية الزراعة للتنمية من المنظور الماركسي. الزراعة في الدول النامية تعاني من مشاكل بنيوية بما في ذلك التقنية المتدنية واضطهاد الملاكين والمرابين. هذا يؤدي إلى عدم تجاوب الإنتاج الزراعي للطلب المتزايد مما قد يؤثر على ارتفاع الأسعار. لذلك يكون الإصلاح الزراعي وتأمين السيولة للفلاح هما ضمانات لزيادة الإنتاج. كذلك توسع الصناعة يفرض توسع الإنتاج الزراعي لسبب بسيط، ألا وهو إطعام العمال الصناعيين. وهكذا نرى إن الطلب على الغذاء لا يؤدي إلى ارتفاع الأسعار من جراء قلة الإنتاج الزراعي. وبهذا يكون القطاع الزراعي رافدا للتطور الصناعي بعمالة أقلّ كلفة وأكثر رفاهاً. كما أن الأسعار الغذائية الأقلّ كلفة ستكون محفّزا على زيادة الطلب على المنتوجات الصناعية. وهنا يأتي مربط الفرس، فبما أن التضخم الناتج عن ارتفاع أسعار الأساسيات يكون مقيّدا بزيادة الإنتاج الزراعي، يصبح لدى الدولة هامش أكبر للتوسع النقدي الذي يغذي عملية التنمية. مسألة تمويل التنمية بموارد وطنية كانت ولا زالت رئيسية. لذا، إن إعادة صوغ العلاقات بالإصلاح الزراعي وزيادة الإنتاج الزراعي يحرران سياسة الدولة المالية. هذا منظور الإقتصاد الكلي للمسألة الزراعية وهو منظور متوازن يربط بين التنمية ويردم هوة تفاوت الدخل.
المكوّن العسكري مرتبط  بالبنية المالية و التجارية التي تعمّق الانقسام بين الجنوب و الشمال. منظمة التجارة الدولية و المفاوضات التجارية التي تجري حولها تتوقف عند المسألة الزراعية. هل يمكنك تفسير هذه الأمور من منظور طبقي، من منظور بنية السوق، ومن منظور القيمة كقيمة اجتماعية مقابل القيمة التي يعطيها السوق.
الحروب في ظلّ الإمبريالية الحديثة أي الاحتكارية المالية أو النقدية تختلف عن سابقاتها فكل إمبريالية تتحدد بالفترة الزمنية التي تنوجد فيها. بدأ الأمر مع خلق الاحتكارية فائضا اقتصاديا وماليا كبيرا يجب إعادة استثماره وتحريكه. وقد كان بالإمكان تحريكه في بناء الصناعة،, الصحة،, والتعليم وغيرها أو كذلك تحريكه في الحروب التي هي أكبر فئات الهدر وآليات تراكمه. إذن،, إن أساس الحرب وشعلة إطلاقها هي الفائض المالي الكبير. وعلى سبيل المثال، يذهب البعض إلى أن حرب الرأسمالية ضد الاتحاد السوفييتي لم تكن حربًا مدفوعةً بالكراهية للشيوعية بقدر ما كانت حاجة ملحة لتحريك الفائض ودفعه للتداول. لكن كما ذكرت سابقا، الحرب أداة لحل التناقض الأول بين قوى وعلاقات رأس المال وهذه هي النقطة المحكّ في الجدليّة التي يستعملها لينين. ليس المهم توصيف النقاط الخمس كتركيز وتكثيف رأس المال في التنظير. هذا نمط تحليلي شكلي، المهم هو التناقض الرئيسي أي الدافع للمنظومة. هنا تكمن عبقرية لينين في اكتشافه أن الحرب أداة لتوسيط أزمة رأس المال فهذه عملية أو صيرورة جدلية. عدا عن كونها أداة، فإن الحرب كذلك هي غاية في ذاتها من حيث أنها صناعة تنتج القتل أو الهدر بعمالة مأجورة وبتقنيّة عالية. جدواها الإقتصادية مستمدة من فائض القيمة الناتج عن استغلال الإنسان بقتل الإنسان وهذه حالة رئيسية في نمط الإنتاج الرأسمالي. الحروب تجعل من الإنسان العمل الحي والميت في آن واحد وهي بهذا أكثر علاقة مؤاتية لفائض القيمة. ولا بد من لفت النظر إن القيمة من مفهوم اقتصاد سياسي ليس بالخيرة والجيدة. القيمة هي الناتج الهدري أو القتل الذي نستهلكه لإنتاج أنفسنا. لقد ذكر فرانز فانون أن الإنسان يعيد إنتاج نفسه بالعنف، وهو كان على صواب من حيث فائض القيمة التي تتمثل بالربحية غير الموسّطة "unmediated profit". إن رأس المال ينتج السلعة وينتج الإنسان الذي يستهلك السلعة حتى لو كانت سُمّاً وقتلا.
 إذا كان الانسان المهدور سلعة والسلعة تتوسع كقيمة من ذاتها يصبح توسع الهدر والقتل الامبريالي عملية توسع إقتصادية. بناء عليه يصبح التوغل الصهيوني توسعاً للقيمة، أي تراكم. لذا مفهوم السلام مع الصهيونية فارط لأن ذلك يوقف الاسس التي يبنى عليها بناء الثروة .
إذن هناك ربط رئيسي بين الفائض المالي وبين الحرب التي تُعتبر من أهم أدوات تشغيله. فالحروب تخلق بدورها فائضا ماليا كبيرا حيث هامش الربح فيها أوسع وكذلك تؤمّن الحروب العملية التراكمية الحربية- التي تحدثت عنها روزا لوكسمبورغ- التي تطوّر التكنولوجيا خالقةً التفوّق التكنولوجي الأوّل الذي هو التفوّق العسكري والحربي. ولذلك فإن هذه القوة الحربية المتعاظمة يمكن استغلالها للتدمير أو لإضعاف الدول بغية فرض شروط وسياسات معينة عليها كفرض الدولار أو دولرة اقتصادياتها وأصولها. هذه الدولرة تجعل من اقتصادات الدول المسيطر عليها رافدا لاقتصاد المركز أو الاقتصاد الأميركي تحديدا وكأنه تملّكها. لذلك فإن الدولرة مرتبطة بالسلطة المتأتّية من الحرب والقوة التكنولوجية التي تخلقها. وهنا يظهر لنا جيدا عنصر أولوية السياسة أي أن عامل القوة سبّاق على الريع. الرأسمالية المتوحشة بوجهها الإمبريالي تفرض سلطتها أولاً ثم تفرض ضريبتها، أي أن العامل الإقتصادي محدِّد في البرهة الأخيرة. لو ترك الأمر لجشع وتدبير كل رأسمال على حدة، أي لو ترك ليفعل ما يشاء من أجل الربح السريع، لكان خلق ظروف اندثاره بالزمن القليل. لكن رأس المال منظم له مؤسساته وفكره ومرونة سياسية يشتري بها الذمم والزمن.
والحرب كذلك على المستوى النظري هي الشكل الأبرز لتمظهر قانون القيمة بمظهره الأكثر عنفا. أي أن قانون القيمة في حيزه التهذيبي للطبقة العاملة يذهب بعيدا إلى حد إلغاء جزء من الطبقة العاملة بكل ما فيها وبما في ذلك قواعد إعادة إنتاجها الإجتماعية. ولما كان قانون القيمة يمارس لإنتاج القيمة، أي لتكثيف ساعات العمل الضروري في الإنتاج وبما أن الإنتاج هنا هو حصد الأرواح فورا أو بزمن اجتماعي مقلّص تكنولوجيا، يكون فائض القيمة من عملية الدمار والتبديد من أفضل الحالات الإنتاجية الإجتماعية. تاريخ الرأسمالية هو عبارة عن مراحل همجيّة من تاريخ الإنسان، ربما أكثرها همجيّةً، وقد انتهى بنا إلى أزمة بيئية وجوديّة تشكلّ منظومة فائقة الهدريّة "system of high entropy". 
تخلق الحرب فائضا نقديا كبيرا خصوصا في ظلّ نظام التجزئة المصرفية Fractional Banking حيث يمكن للمصارف أن تسلّف أكثر مما تحتفظ به من ودائع وبالتالي يتم خلق فوائض نقدية هائلة تعود وتُصرف في خوض حروب أخرى تخلق بدورها فوائض إضافية. فمثلا إذا افترضنا أن الولايات المتحدة قد صرفت حوالي 6 تريليونات دولار كسندات خزينة على حروب العراق وأفغانستان وغيرها فإن كمية الأموال التي تحرّكها والفوائض التي تخلقها أكبر من ذلك بكثير. إذن إن عملية ربط الحرب بالاحتكارية والأموال هي عملية واحدة كونهما جزءين لعملية واحدة.
وإذا عدنا قليلا إلى الخلف لنربط الهدر الزراعي بالهدر العام يمكننا القول أن فشل منظمة التجارة الدولية (WTO) يتركز في الزراعة واتفاقات التبادل التجاري الزراعية. إن دول الشمال كالدول الأوروبية مثلا تقوم بدعم مزارعيها وزراعتهم رغم الكلفة المرتفعة أحيانا ولا تقوم باستيراد غذائها من الجنوب وذلك للحفاظ على الأمن الغذائي وديمومته. الأمن الغذائي بالنسبة للشمال هو عملية تحكّم ومكوّن للسيطرة التي تمارسها هذه الدول على العالم وليس مجرّد عملية مالية. تتضح الصورة أكثر إن أخذنا بعين الإعتبار أن الإتحاد الأوروبي ينفق حوالي 200 مليار دولار على المعونات الزراعية كي لا يتكل ولو جزئيا على العالم الثالث، فأي اتكالية كهذه من الممكن أن تهدر قوّته التي تعزز ريعه الإمبريالي. ولا ننسى هنا إن النفقات الغربية على المعونات تُقدّر بتريليون دولار في بعض المصادر بينما كلفة سد العجز الغذائي الكوني للقضاء على المجاعة لا تتعدّى الستّين مليار دولار.
إن حصة التبادلات التجارية الزراعية قليلة جدا مقارنة بالسلع الأخرى كالنفط والتكنولوجيات وغيرها، ذلك أن السلع الزراعية منخفضة الأسعار ولا تنطوي على قيمة مضافة كبيرة،, ولذلك فهي ليست أولوية تجارية. هذا يؤكد أن الإمبريالية هي عملية سوسيولوجية وأنها عملية تحكّم وإعادة تسليط لرأس المال على المجتمعات الدولية. إن رأس المال يعي علاقة التسلط هذه وأن مسألة الغذاء هي مسألة تحكم وسيطرة. ولذلك يُضحي تجويع العالم في هذا السياق أمرا ضروريا كدعاية آيديولوجية لتقسيم الطبقة العاملة الدولية. إذ إن رؤية مواطن دول الشمال لجوع الناس خارج حدود دولته يُنتج ردا انعكاسيا في ذهنه وزهوّا بتقدم مجتمعه ودولته معتبرا أن تدهور حالة المجتمعات الأخرى وجوع مواطنيها ناتجة عن "ثقافتهم". والتحديد السوسيولوجي للإمبريالية لينينيّ صرف. صحيح أن لينين شرح مراحل  ظاهرة الإمبريالية بتحولاتها الإحتكارية والنقدية، لكنه أصر على أن توزيع الفائض الإمبريالي على الإمبرياليين متعلق بقوة كل إمبريالي على قدر أكبر. القوة تحدد الريع والقوة تتحدد سوسيولوجيا. لهذا فإن أساس النظرية الإمبريالية لم يبرح كونه إجتماعي أولا، يولي الأولوية  للسياسة وممارسة العنف بما في ذلك الوطأة الأيديولوجية لتسيّد الحضارة الغربية من خلال ثقافتها التي تغاير الآخر لإفنائه وليس لتهميشه. فما توسعت به هنا هو أن للرأسمال حركة إنتاجية تنتج الهدر للهدر. وبما أن الإفراغ السكاني- نتاجاً للحرب مباشرة أو من خلال سياسات التقشّف- يمثّل أبرز أنواع الهدر تصبح الحرب الإمبريالية- التي صورنا مسبقا كغاية لذاتها- صناعة تدرّ أرباحا مباشرة بالنفقات العسكرية وبفائض القيمة. ولذا فإن عملية إظهار الجوعى وقتلى الحروب هي أداة دعائية آيديولوجية لدعم قوة التسلّط الأيديولوجي للإمبريالية. إذن هناك عاملان ثابتان يرتبطان ببعضهما البعض هما: التحكم والإيديولوجية.
إن عامل التحكم الذي سبق شرحه هو عامل تحكم طبقي كون الإمبريالية طبقة بما هي من تكثيف لرأس المال. ويكون التحكم بإعادة تشكيل العلاقات الطبقية بما يخدم المصالح الإمبريالية. أما من ناحية التقييم فإن تحكم الإمبريالية بالسلطة وتحكمها بالنقد ومخزون المدخّرات الدولي الذي هو الدولار هو نتيجة تحكمها بمنابع النفط والدول التي ينبع فيها. ونتيجة لذلك تكتسب الإمبريالية قدرتها على التحكم بكل أسعار السلع في العالم كونها تتحكم بأسعار الصرف لارتباطها بالدولار. وكذلك إن مديونية الدول خصوصا الضعيفة منها تسمح للإمبريالية باستعمال سلاح التحكم بسعر الصرف لخفض قيمة العملة وتدمير اقتصاد دولة معينة دون اللجوء إلى أساليب كلاسيكية كاستخدام الجيوش. لذلك فإن عملية التقييم السعري للسلع تتم من خلال الدولرة والتحكم بالأجور ومعدلات الفائدة وأسعار الصرف.
تخفيض السعر للمنتج الأولي هو نتاج لبنيان القوى الطبقي بما في ذلك القوة الإمبريالية التي تشارك الكومبرادور المحلي بتسعير المنتج المحلي لما هو أدنى مما هو متوجب على أية عملية إنتاج. أي إفراز ما هو ضروري لتمكين الناتج الأولي من الكفاف وعادة ما يتم سلخ فائض القيمة بأساليب استبداد مطلقة؛ أي أن لفائض القيمة علاقة أقوى بالاستبداد منه مع منظومة الأسعار. عادة ما تُكمم القيمة من خلال حسابات الأسعار، لكن التناقض بين القيمة والسعر لا يؤدي إلى تماثل ما بين الإثنين. فبادئ ذي بدء، إن منظومة الأسعار محددة بمدى الإحتكار أو القوة، فإذن لا يمكن الحكم على الإنتاجية الكلية من خلال تسعيرة وصفها رأس المال. مما لا شك فيه إن المكننة تزيد الإنتاج في مرحلة من مراحل الإنتاج، لكن ليست المكننة التي تحدد فائض القيمة بل العمل الضروري. ثانيا، تبقى المكننة في ظل الرأسمالية حالة مستلبة في إدارة العمل أي أنها تحدد العوامل الوجودية لإنتاج القيمة ولا تقرر القيمة المضافة. لا أريد الغوص في هذا المضمار لكن الدورة المحددة للقيمة هي دورة العمل وهذه الدورة تتحقق بتحقق سلطة طاقة العمل. أي أن الدورة الاقتصادية تُقفل بتحقق طاقة العمل وقيمة العمل الضروري المناط بها. العمل الضروري هذا هو الأجر المعيشي الذي يعيد أولا إنتاج الإنسان؛ وهنا بيت القصيد: عندما لا تعيد إنتاج الإنسان تنتج القيمة وهذا يعود لفصل العامل عن سلعة طاقة العمل. بالنسبة إلى عدم إعادة إنتاج الإنسان أو حذفه فهذه مسألة تعامل المجتمع مع قوته الإنتاجية وربط تشغيلها بقانون القيمة؛ القانون الذي يعمل على تنفيذ ما تتطلبه السوق، أي أن سلعا تتبادل فيما بينها تتقمص الأنسنة وتشكل حتى أصناما (fetishes) تُملي على المجتمع التعامل مع قواه الإنتاجية بما تريد هي. إذا نحن مجتمع محكوم بحركة أشياء تأمرنا كالالهة وتأمر مجريات التاريخ. طبعا كل هذا بغياب الوعي الثوري. المفرق النظري الرئيسي هنا هو إلغاء الذات، إلغاء الوعي الثوري في معادلة الصراع الطبقي التي تعكس إلغاء الذات في علاقة القيمة، تلك العلاقة بين الذات والموضوع أو بين العام والخاص التي تتوسع بوحشية وعنف من أجل توسع القيمة. إن عنف التنافر بين القيمتين الاستعمالية والاستبدالية هو الميكروكوزم الذي ينعكس عنفا جماعيا في كل حلقات الإنتاج الاجتماعي.
      
ما هو دور الهدر في الإنتاج الرأسمالي وعلاقته بالإنتاج الزراعي؟. كيف ينشأ التناقض بين المركز الإمبريالي والأطراف، في مجال الزراعة وما ارتباطه بنظريتك عن الدور الذي يلعبه الهدر في الإنتاج الرأسمالي؟
الهدر غاية بحد ذاته وهو مكوّنٌ للقيمة. فالهدر سلعة ومكوّنٌ لقيمة السلعة. فمثلا إذا أنتجنا سلعة ما وقمنا ببيعها بدولار واحد، قد نكون في موازاة ذلك قد سمّمنا البيئة بمقدار عشرة دولارات. لذلك إن كمّ الهدر الموجود في الكون يتمثل بالسم أو التلوث في الكون وهو ما نعرف جزءا بسيطا منه لسيطرة آيديولوجيا البرجوازية على مجالات البحث العلمي. ليس خفيا أن لدينا كمية كبيرة من الهدر البيئي إلى حد بتنا في أزمة وجودية كبشر نتيجة التغيّر المناخي والتدمير المزمن للبيئة. وهنا نعود كذلك إلى ضرورة دراسة القيمة لفهم عملية الإنتاج الاجتماعية. لماذا؟ كانت هناك جهود عديدة لإلغاء القيمة من تطور الاقتصاد الكلي وجُلّ من اتبع هذا المسار كانوا من الريكارديين الغربيين. إلغاء  مفهوم القيمة من دورة الإنتاج هدفه إلغاء العالم الثالث بكل ما يقدمه للإنتاج برزقه وأرواحه التي تبقى قليلة السعر من الناتج الكلي الدولي. وهذا معناه أن أوروبا قادرة على العيش من دون العالم الثالث الذي يشكل بدوره عبئا عليها. لكن ماركس تكلم عن القيمة كعلاقة وكذلك تكلم عن القيمة غير المدفوعة الثمن. وهنا تدخل أكلاف البيئة التي لم تكن مدفوعة أصلا لكن كونت مدخولا في الإنتاج على المدى الطويل لتؤكد تواجد القيمة كمدخول يُوسط في السوق في زمنه الاجتماعي. فالإنسان جزء من البيئة التي هي طبيعة اجتماعية. والطبيعة جزء من التكوين الإنتاجي للإنسان وإنتاج الإنسان. فكما ذكرت سابقا، البيئة لا تستغلّ ذاتها إنما تُستَغلّ بالعمل الاجتماعي الذي يوثق بالزمن الاجتماعي على الزمن الكرونولوجي. يعني هذا أن أزمة رأس المال التي تتطلب تسارع تردد التبادل وتختزل المسافات بالزمن هي كذلك تركز إستهلاك العمل الضروري بالزمن الذي تتحكم به. إن تحكم رأس المال بالزمن هو المؤشر لقوة رأس المال أو انعدامها.
هنا تظهر الإشكالية حول القيمة والتمييز بينها وبين السعر. القيمة لا تُكمّم لأنها تنطوي على علاقة اجتماعية ولها ذات وموضوع. نحن يمكن أن نقدّر ذاتياً قيمة السلعة ولكن تقييم أي سلعة يمكن القول أنه مستحيل لدخول عدة متغيرات في العملية. وكذلك فإن التقييم السعري للسلعة عرضة لمتغيرات كثيرة إذ يمكن لموازين القوى أن تؤثر في عملية التسعير من حيث فرض الأقوى لشروطه وأسعاره على الضعيف. نحن اليوم مثلا ندفع دولارا ثمنا لتنكة الكولا، هذا آنيا أما في الزمن الاجتماعي أو الحقيقي نحن ندفع أو سندفع أكلاف الحروب للاستيلاء على معدن التنك وثمن التلوث الناتج عن الكيميائيات التي تُطلى بها التنكة وكذلك التنكة الفارغة كنفايات وملوثات بيئية تؤدي إلى أمراض أكلافها عالية. أي أن السعر الحقيقي للتنكة هو 10 دولارات مثلا، 9 منها هي القيمة التي كونت مدخول إنتاج التنكة والتي بدل أن يدفعها المنتِج تمكن بقدرة رأس المال على إخفاء هذه الحقائق وتغييبها زمنيا وعلى أن يحوّل ضررها إلى المستهلك.
ولأن الحرب في الإمبريالية هي عملية ذاتية ضرورية، فإن عملية الحرب وإعادة إنتاج الحرب هي بحد ذاتها عملية إنتاجية. الحرب من أجل الحرب والهدر من أجل الهدر، الأولى هي حلقة ما تحت الفئوية "sub-category" وفي الثانية سيرورة أساسها المنتج الثاني لرأس المال. فالمنتج الأول هو السلع والمنتج الثاني هو الإنسان المسلّع الذي يستهلك ذاته بإستهلاك المنتوج الهدري. ربما كانت هذه القدرة الأيديولوجية لرأس المال على إنتاج مجتمعات تضع هوية مدمرة للذات كهيكل للوعي فوق أنثولوجيا Ontology الوجود، أو وعي من أجل البقاء في زمن هدري بإمتياز، هي عملية إنتاج الدمار عبر تشغيل الإنسان وتدمير البيئة والإنسان. والسعر والهدر البيئي وغير ذلك هم ضرب للأسس الحياتية لإعادة إنتاج الإنسان. فالإنسان يتضرّر من الهدر البيئي وعندما يكسب أقلّ يعيش أقل. وفي جميع الحالات هناك عملية إفراغ سكاني بدأت مع الرأسمالية كنتيجة لما يلي: معدل الأرباح الذي يجب زيادته دوما يُملي على التاريخ ما يفعل. ويكون قانون القيمة الأداة التنفيذية التي تخلق الأرضية لإعادة إنتاج الأرباح- وليس رأس المال- ولتغطية معدل الأرباح يقتل الطبيعة والإنسان لأنهما القيمة المكوّنة للسلعة المنفعية أو القيمة الاستعمالية. لذلك فإن الحرب هي أكبر عملية لإنتاج القيمة وأكبر عملية استغلالية ثمّ يليها الهدر المتأتّي من إنتاج السلع الاستعمالية. الحرب هي الهدر بصفاته الشبه مكتملة وعلى عكس الهدر البيئي التدريجي، للحرب أثر اقتصادي آني وظرفي، أي أن لها عدة دورات اقتصادية منها كما ذكرت تتحقق في السوق بحياة القتلى وماكينات الحرب التي تتولاها إصدارات سندات الخزينة. ومنها ما يتجلى على مدى أطول بما في ذلك الأثر التدميري على القيمة المحفوظة بالطاقة الكامنة للعمل، أي بقدرة الحرب على تقصير الأعمار حدّ سلبها من دون إعادة الاستثمار في الطبقة العاملة. إن اللون السوداوي هذا هو اقتباس من واقع سوداوي يتعاظم بالإفراغ السكاني المتعلق بمصلحة رأس المال. فنحن عندما نقول إن رأس المال تحكّم بالتاريخ وأن التاريخ قوة غير مشخصنة وموضوعية، تُسقط عن التاريخ الإملاءات الأخلاقية. فالتاريخ ليس كالإنسان، هو لا صح ولا خطأ، إنه ليس شخصا، وكذلك قانون القيمة والقيمة فهما إتيقيا أو أخلاقيا ليسا على السوء من شيء. لكنهما من منظورنا نحن آفات لا تمت للخير بِصلة أي أنهما سلبيان بكل كيانهما. وهذا ضمنا رد على المقولة المبسطة التي تدعي أن هناك قيمة سلبية وقيمة إيجابية، كأن الصيرورة التاريخية تُقيَّم كأنها كيلو بندورة. لو كان التاريخ بالشّوال أو بالطن لكان المحاسبون، مع احترامي للمحاسبين، قادرين على حل كل مشاكل البشرية منذ اليوم الأول. قوانين التاريخ لا تقاس بنسبية الشكل المنطقي أو الرياضي، فالتاريخ محصلة القوى الاجتماعية المجردة لكن الحقيقية في آن واحد. من الممكن أن تُعقلَن لكنها من غير الممكن أن تُقاس من دون تحيّز.

ما العلاقة بين عملك ونظرية الإمبريالية كما طرحتها أوتسا وبراهبات باتنايك؟
إذا نظرنا إلى الكتاب الأخير لأوتسا وبراهبات باتنايك، نظرية الإمبريالية، وهي صديقة عزيزة وأحد أهم المفكرين،, نجد فيه قوة وعمقاً كبيرين. إلا أن الكتاب ينطلق من مسلّمة مفادها أن للإمبريالية قواعد مادية وأن هناك بعض السلع الزراعية التي يحتاجها المركز لا تُنتج إلا في العالم الثالث. وبما أن سعر عرض هذه السلع يرتفع مع الزمن، فإن الإمبريالية مهتمة دائما بإعادة تخفيض هذه الأسعار من أجل زيادة الريع الإمبريالي. بالإضافة إلى نقطتين أخريين في الكتاب عن الإمبريالية، لكنهما مرتبطتان بهذه الفكرة. وهذا الطرح صحيح إلى حد ما، فنحن أمام حالة تاريخية يحاول الغرب بكل ما أعطي من قوة أن يخفض سعر القيمة المستمدة من العالم الثالث. كما أنه بحاجة ماسة لهذه السلع الشبه إستوائية في نمط استهلاكه. هذه حالة ترابطية ما بين العقلاني والتاريخي، لكنها تتناسى قانونا آخرا بالجدل الذاتي ألا وهو قانون الانتقال من المجرّد إلى المجسّد أو الملموس، أي التمفصلات المنضوية تحت  التقلبات في العلاقات الاجتماعية المنسوبة لتركيبة طبقية كعلاقات تطور من ذاتها رغم ارتباطاتها المادية. فكذلك ضروري أن تتوحش الامبريالية لقمع تطور الوعي العالم-ثالثي وتسرب المعرفة الصناعية له. إن التفسخ والتلاصق في علاقات قوى الإنتاج يهيئ الظروف الثورية التي طالما كانت جاهزة لكن غير مستغلة استغلالا صحيحا رغم نضوج الظروف الموضوعية.
لذلك أنا لدي وجهة نظر مختلفة. أعتقد أن نظرة لينين إلى الإمبريالية هي نظرة سوسيولوجية وليست اقتصادية فقط. لقد استندت في رأيي على ورقة أنور عبد الملك عن الإمبريالية. فما معنى أن تكون سوسيولوجية؟ أي أن رأس المال واعٍ لمصلحته ولإعادة تكوين سلطته الفعلية والأيديولوجية ولذلك هو دائماً مستمر في الضرب وفي القتل. وهذه العملية ليست اقتصادية، بل هي عملية إنتاج قوة رأس المال الفعلية والأيديولوجية. لأن سيطرته الفعلية والأيديولوجية لها الأولوية على العامل الاقتصادي. ويرتكز عبد الملك في طرحه إلى تراث ماركسي لينيني عالم-ثالثي أي ذلك الفكر الذي يرتكز بتحليله على مدى تطور قوى الإنتاج وخاصة المكننة كأرضية للتحوّل الإشتراكي، أي أن المجتمعات الغربية الأكثر تطورا "تقنيّا" مهيّأة أكثر للتحوّل الإشتراكي. لقد أثبت التحول التاريخي إن هذه المجتمعات الغربية شكلت أرستقراطية قضت على الفكر الاشتراكي. علاقات الإنتاج تتعدى تلك المحصورة بالمكننة وكان فشل كومونة باريس سنة 1871 مؤشرا لماركس كي يعيد قراءة الأمور بالتركيز على الآسيويين. 
هذا هو فهمي لهذا الموضوع وقد ناقشته مع أوتسا. وقد كانت منفتحة لأنها عالمة كبيرة وقد أوضحت وجهة نظرها. وقلت لها على كل الأحوال أن الحرب في المجتمعات الطبقية عملية ضرورية وأنها في المجتمعات الرأسمالية ضرورة ذاتية: هي ذاتية من ذاتها وليست وظيفية فقط. حتى لو لم تكن هناك سلع، فالحروب تُشنّ لأسباب أخرى،, هدريّة مثلا. فمسألة الهدر تبرر القتل دون سبب. الهدر للهدر، أو الحرب من أجل الحرب. كما سبق وعرفت هذه المسألة والتي تحدد على خطين متوازيين: الأول كما قلت إن للمهدور قيمة تُوسط بالسوق في زمن اجتماعي، أي إن القتل والهتك سلعة ذات ثمن. والثاني، هو إلغاء الذاتية "subjectivity" أي سلخ تحقيق الذات الإنسانية في الممارسة الإجتماعية والتي تشكل فيها العبودية أقصى المراحل. وفي كلتا الحالتين نجد أن قانون القيمة بشكله الأكثر عنفا، أي بتجسده من خلال حروب الإنتهاك الإمبريالية التي تحصد أرقى مراتب القيمة المضافة إن بالإفراغ السكاني أم بالتسليع. وبهذه الأخيرة أعني انتقال الإنسان من ذات إلى غرض موضوعي كأي وسيلة أخرى.
هذه وجهة نظري والموضوع الرئيسي الذي أركز عليه. بالطبع، قد يكون الفرق بين المنطقتين قد أثر على الاختلاف. أنا أقدر أوتسا و براهبات باتنايك، ولكن في هذا الصدد نحن نختلف قليلاً. إنه نوع من تقسيم العمل في رؤية الإمبريالية من دون تناقض جذري.
وختاما وجب القول أن ما سبق لا يكوّن سردا كسيرة للأحداث فيها الحسن والقبيح، السيء والجيد، إنما هو جدلية سلبية أي أن الأوضاع ساءت إلى ما نحن عليه وهو أخطر من تهديد للوجود. فالوجود كان دائما عرضة لامحائه، والأزمة كانت وجودية من الحجر الأول للرأسمالية كمرحلة تاريخية. لينين عنون كراسته عن الإمبريالية بأنها آخر مراحل الرأسمالية وهي فعلا كذلك لأنها محت من الوجود الكثير من البشر والبيئة حتى أصبح كم الضرر يساوي أضعاف الثراء والتقدم الرأسمالي. حتما، أي بالحتمية التاريخية لم تكُ الرأسمالية تقدمية للحظة. آنجلز في مقولته توخى خيراً لأسباب آيديولوجية، لكنه يورد نظريا إن البربرية هي المسار الآخر للتاريخ. لقد أفرزت الحركة الشيوعية الخروتشفية التي أدخلت حيدر علييف ويلتسن وغورباتشوف إلى الحكم وأدانت ستالين وماو تسي تونغ، وضعت هذه الحركة المزيفة الذات الثقافية فوق الطبقة فألغت الذات وألغت الطبقة.
المراجعة لا زالت سطحية، فالتنافر المعرفي تمتثل له أحزاب اليسار كما اليمين. لقد خرج الإتحاد السوفييتي من الحرب الثانية منهكا ولكن منتصرا، وكان عبء القطيعة مع الماضي الإنتاجي والدمار على كاهل القيادة كارثيا؛ كانت تعلم القيادة آنذاك أن الضغوط الخارجية ستولد انحلالا لقيادة الشعب. وكما فُرض السادات على مصر، فرضت الإمبريالية الغربية خروتشيف على الاتحاد السوفييتي فضاع التوازن بين بناء الاشتراكية في الدولة الواحدة وتمدد الفكر الاشتراكي وخنقت الصين. ففي سنتي التوتر الأولى في 1961 و1962 انخفض معدل نمو الصين بمقدار الربع. مارس الاتحاد السوفييتي آنذاك الإمبريالية الاجتماعية ورمى بمقدرات مليار من البشر منظمون في مجتمع اشتراكي شكل أكبر معجزة في تاريخ البشرية حيث انتشل وثقف خمس سكان الأرض بدفعة واحدة. ها هي الصين اليوم تكسر الحاجز الكولونيالي والتخلف التكنولوجي مرة واحدة. معجزة أخرى تحققها الصين، فهي ستخوض حرب الشعب بتقنية عالية وسباقة على الإمبريالية. المراجعة قاسية، فكيف رحل غورباتشوف إلى سدة الحكم على سلم ولّده خروتشيف بسباقه الاستهلاكي مع أوروبا بينما العالم الثالث يتلوع من الجوع. هذه الصفات اقتبستها معظم الأحزاب الشيوعية في العالم ولا زالت تَسِمُ سلوكها. والمسلك الأخطر هو عدم تمكين الكوني أو الأممي من خلال تغليب الخاص أو الهوية الثقافية، أو بالأخرى كيف لنا أن نجعل من ممارسة هويتنا الثقافية عملية لا تنمي الذات أو الخاص إنما تجعل من التعاون الأممي في النضال ضد الإمبريالية الأسبقية أو الأولوية. لمَ لا يكون لنا اشتراكية بألوان عربية كما في الصين اشتراكية بخاصية صينية؟ أوليس صعود الصين اليوم قالبا للموازين ومزعزعا لخمسة قرون من الهمجية الأوروبية، الثقافة المهيمنة في مرحلة الرأسمالية. أوليس هذا لمصلحتنا نحن في العالم الثالث؟ فإذن، ألم تكن ممارسة الاشتراكية بخاصة صينية عملية هزت أركان الإمبريالية وكونية المآل؟ قالها أندريه غوندر فرانك إن حروب التحرير الوطنية باءت بالفشل عندما صُنّفت الصيغة الوطنية قبل صيغة التحرير. وكذلك عندما تقع الهوية فوق الطبقة تذهب الطبقة والهوية. والطبقة كالبيئة ليس لها باسبور فهي عابرة للحدود. عملية الإنتاج الاجتماعية تربط الكون ببعضه، فبقدر ما تنتج العمالة المنتجة تسحق العمالة الزائدة بعملية إنتاج هدرية أكثر مدرارية من بيع السلع. كما أن الإنتاج يتطلب عدم الإنتاج "منطقيا وتاريخيا" وكذلك بما أن حصة الأجور حصة اجتماعية تؤتى بالعمل السياسي وقوة العمل يصبح الكل منتجا حتى بما يسوّغ لنا بأنه غير منتج، كالأم التي ترضع طفلها. على ما أظن إن السبب الرئيس في فشل الماركسية هو التنظير المخطئ الذي اعتمد التنشيء المقترن بالفلسفة التجريبية كمنطلق وبهذا التبسيط ألغى العلاقات الاجتماعية كعلاقات قوى وعلاقات تاريخية. وللحديث تتمة وشكرا.

مركز الحقول للدراسات والنشر
18 حزيران / يونيو، 2019