المطران ايلاريون كبوجي: “حارس القدس” البهيج

المطران ايلاريون كبوجي: “حارس القدس” البهيج

الاقتراب المجدد للروس من إفريقيا : قراءة مختلفة
مصر : محمد أنور السادات يسرب وثائق رسمية إلى سفارات أجنبية!؟
الجزائر : فرنسا تتعهد بتسريع تسليم الأرشيف الاستعماري وبتطهير مواقع التجارب النووية

"أبتِ… رسول هذه الارض من دمنا"

السيرة الذاتية للمطران جورج كبوجي، المشغولة ضمن حبكة مسلسل درامي سوري، يُبث في الموسم الرمضاني الحالي، تناقش اشكاليات انسانية وفلسفية وتاريخية مركبة تنعكس في شخصية المطران السوري الحلبي المقاوم، الذي عاش زمنه في مجموعة ازمنة، بحيث تنقلنا هذه السيرة الى احداث تاريخية شهدتها بلادنا العربية افضت الى تحولات جيوبوليتيكية كبيرة:  نكبة فلسطين وتقسيم بلاد الشام وحرب التحرير وثورة يوليو والوحدة بين سوريا ومصر وانفكاكها والحروب الاميركية في المنطقة وليس آخرها الحرب على سوريا.

 في "حارس القدس" نعيش زمن المطران "الزهراوي، المحب، الخدوم، صاحب الدم الخفيف" كما يحلو لوالدته ان تنعته بهذه الصفات، فيصبح المطران هو الراوي للاحداث والمتفاعل معها لا سيما مع قضية العرب الاولى فلسطين كأنه هو التاريخ والقضية معا.

لعل المخرج باسل الخطيب والكاتب حسن م. يوسف، قد نجحا في تقديم السيرة بصيغة الزمنين زمن الرواية لحياة المطران والزمن الحالي المتمثل بالحدث الابرز وهو تحرير مدينة حلب في العام 2016 من نير الارهاب.
 

رشيد عساف يعود إلى الدراما البدوية! | جنوبية

لم يكن للمطران هيلاريون – وتعني بالعربية " البهيج"، لقب يتناسب مع روحه المرحة وشخصيته المحبة للضحك والطرائف- ان يقطع خلوته الدينية من مقر اقامته في روما في العام 2016 لولا ان المكالمة آتية من الشهباء حلب، يبثه فيها محدثه النبأ السار الذي انتظره الا وهو تحرير مدينة حلب من رجس الظلاميين، إغتبط وفرح وشكر الرب، وعاد بذاكرته الى سنوات فتوته في مسقط رأسه، يتيم الاب، يطرح اسئلة وجودية حول الموت وما بعده، وتلميذ مدافع شرس عن المظلوم الى درجة اتهامه بالمشاغب. في عمر الورد، ايقن ان الفرنسي مستعمر حين اعتقل استاذه المفضّل الذي لا يتوانى عن كتابة مقالات منددة بالمحتل الفرنسي وسلطة الانتداب، وهو استاذ اللغة العربية الذي جعله يُحب الشعر العربي فأتقن الفتى جورج حفظ الشعر وإلقائه امام زملائه وعلى مسمع والدته الفخورة به.

اهمية هذا العمل الدرامي، المتقن في صناعته كتابة واخراجاً، تتأتى من محورين اساسيين،  الاول انه يستعرض سيرة رجل دين مسيحي عربي من الكنيسة العربية، سيرة انسان ومناضل وناطق بالحق وداعم للشعب العربيوعلى وجه الخصوص الفلسطيني والسوري ومعتقل في سجن الكيان المغتصب لفلسطين لمدة اثني عشر عاما ومُلاحق من جهاز استخبارات العدو حتى آخر ايام حياته. اما المحور الثاني فيتمثل بعرض المسلسل الذي انتجته المؤسسة العامة للسينما والتلفزيون في سوريا على وقع ما سمي بـ " صفقة القرن" والتي ترتب عليها اعلان مدينة القدس عاصمة كيان العدو "اسرائيل" والرفض التي ووجهت به في مجتمعنا العربي.

لا ريب ان دور الكنيسة العربية في مرحلة تقسيم المنطقة، استهدف خدمة الانسان  والمجتمع وليس السلطة المنتدبة من قبل المحتل، هذا الدور الطليعي هو احد سياقات العمل الدرامي الذي يذكرنا بلاهوت التحرير  في دول اميركا الجنوبية. ان مساهمة الكنيسة في صناعة الوعي الوطني والقومي كانت ترتبط ارتباطا وثيقا بقيم الدين الاخلاقية التي تحرّض على الخير والحق والرجاء.

تطرقت الحلقة الثالثة من "حارس القدس" الى بيان مؤتمر الكاثوليك المشرقيين، الذي قرأ نصه كاهن الكنيسة في حلب للفتى جورج كبوجي من جريدة الشهباء الحلبية، وفيه مواقف وطنية وقومية بحته، منها ضرورة مشاركة الكنيسة في نهضة سوريا والمنطقة العربية وفي الدفاع عن الظلم اللاحق بالفلسطينيين ورفض انحياز الغرب للصهاينة.

ان انصاف هذا الرجل المقاوم من خلال دراما تلفزيونية، والذي لعب دوره في مرحلة الشباب الممثل اللافت الحضور ايهاب شعبان ثم الممثل القدير رشيد عساف في مرحلة انتقاله الى دمشق في العام 1965 الذي اضفى بصوته الاجش كراوٍ لمفاصل السيرة، هيبة رجل الدين ونبرته المقنعة التي تدخل الى القلب والنفس معاً، واتقانه لخطابه الذي لا يكتفي بالموعظة بل يتجاوزها الى اهمية التجربة. وهل المعرفة التي توصلت اليها الانسانية الا نتاجا للتجربة.

"حارس القدس" عنوان جميل لمسلسل ما ان ينتهي "الجنيريك" وهو من قصيدة الاعتراف للشاعر يوسف الخطيب، يتوجه فيها بالكلام الى غبطته،  حتى نقرأ كلمة للمطران مكتوبة على جدار السجن وموقعة بيده تقول "في الصبر نصر". وقد وجد هذا العمل التلفزيوني منصات جديدة للبث على قنوات اليوتيوب، متحديا نفوذ الفضائيات العربية، وهو عمل يحمل في طياته رسالة الى الجيل الجديد الذي يتعرض لما يشبه القصف الاخباري كل يوم من خلال كل وسائط الاعلام والاتصال بشتى الاخبار والفيديوهات المزيفة وبالدعاية السياسية والشائعات المغرضة، بغية اعادة تشكيل وعي الجمهور والعمل على تفكيك ذاكرته الوطنية وتشتيتها، لذلك ان انتاج هذا النوع من الاعمال اصبح ضرورة في زمن ارادوا فيه اخراج القضية الفلسطينية من المعادلة ومن الذاكرة.

"حارس القدس" هو رد تاريخي موثق بمراجعة الاب الياس زحلاوي كمستشار ديني وتاريخي للعمل، على اعمال درامية خليجية مشبوهة تعبث بعقول العرب في "دول التعاون الخليجي" وتحديدا مسلسل " ام هارون" الذي موّل انتجه كل من السعودية والامارات ويتحدث عن يهود الكويت بخطاب تطبيعي واضح المعالم ومسلسل "مخرج 7" من انتاج المملكة العربية السعودية وفيه اتهام للفلسطينيين ببيع ارضهم في تزييف واضح للتاريخ، يتصدى له مسلسل "حارس القدس" من خلال شخصية عميل سمسار يزين لسكان القرى والمدن الفلسطينية بيع دورهم واراضيهم لليهود بالترغيب والترهيب، ومنهم ام عطا المرأة المقدسية الفقيرة قائلا لها "خذي قرشين واتركي دارك احسن ما تتركيه ببلاش فيما بعد".

كان المطران مدافعا عن فلسطين السليبة كما كان مدافعا عن سوريا من خلال مشاركته في الندوات واللقاءات الاعلامية، معتبرا ان سوريا هي الام وجميع الاديان المنتشرة فيها يجب ان تدين لسوريا كما تدين لله متحدثا عن موقع سوريا الجيوسياسي منددا بـ "الربيع العربي" واهدافه التآمرية محييا الجيش السوري مترحما على الشهداء. تحدث دائما كسوري وطني فخورا بوطنه داعيا الى بذل التضحيات من اجله. وجدناه يحفز العرب في الاغتراب على جمع التبرعات لسوريا ودعم طلابها وطلاب فلسطين ومصر في ايطاليا.

ان تشكل وعي المطران كبوجي استند الى المحبة كقيمة روحية وانسانية ، لكنه تفلسف في فهم المحبة ليس في الشعور العاطفي فقط بل في التضحية وفي العمل من اجل الآخرين وهذا الوعي لازمه حتى النهاية، حيث كان يقول كلمته حرا كما دائما امام الاعلام الغربي والعربي مترجما هذا الوعي الذي يعتبره اساس في العلاقة مع بلده، لانه كان يرى نفسه صاحب فكر.

فالمطران الانسان، الطالب المتفوق، الفتى الرافض للظلم، ثم الكاهن هيلاريون الداعم للقضية الفلسطينية، المعتقل في سجون العدو "الاسرائيلي" من اجلها، المنفي الى روما وفيها يلتقي بابنة احد المعتقلين الذين رافقوه في السجن وترك ارشيفا حول نضالاته وتصريحاته اتت به الابنة كهدية للمطران كبوجي المبشّر بالحق، صوت سوريا.

 قوة الدراما هنا تكمن في القضية التاريخية وموقعها في الوجدان والساحة العربية التي ارتبطت باسم شخصية دينية لم تساوم عليها ولم تخذلها. في " حارس القدس" جعلنا نرى المطران كبوجي مناضلاَ تفرّد في تجربته الوطنية ومواقفه القومية ودعمه للمناضلين منذ بدايات تشكل وعيه السياسي وقدرأيناه مخاطرا بحياته في مرات عديدة من اجل قضايا امته العربية لاسيما في اخفاء وتهريب المطلوبين من الاحتلال الفرنسي، الرافضين لسلخ لواء اسكندرون عن سوريا.

زاهدا بالطعام نحيلا داعما لابناء القدس الذين شكلوا نواة المقاومة الاولى لهيمنة اليهود الصهاينة على فلسطين، خارقا لقوانين الدير الذي "درّسه الحياة الى جانب اللاهوت" كما كتب لوالدته، فكان مهتما بمعرفة ما يجري خارج اسواره، شاهدا على تفاوت القوة بين المقاومين الفلسطينيين واعدائهم. لكن ثورة الضباط الاحرار في مصر جعلته يتفاءل وزرعت فيه الرجاء الذي نقله دوما الى نفوس المحيطين به. وكان المطلب الوحيد الذي طلبه لنفسه من  عبد الحميد السراج هو لقاء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وقد تحقق له ما اراد.

صحيفة السياسة | إيهاب شعبان يراهن على العودة إلى mbc

آمن المطران كبوجي الذي رُسم كاهنا وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ان فلسطين هي ارض المسيح، " المناضل الفلسطيني الاول" فيها ولد وفيها عاش وفيها صُلب، ورأى ان حماية فلسطين هي حماية لسوريا.

 في مشهد النكبة، يُطرد الاهالي من دورهم وارضهم وتكون ام عطا من بين اللاجئين الى المخيمات التي زارها المطران وشاهد مشقة الاقامة في العراء مع الاطفال والنساء، متعاطفا مساعدا مبلسما للجراح، زارعا الامل بالعودة في النفوس ولطالما اعتبر نفسه الزرّاع الذي يريد لغيره ان يحصد. افجعته النكبة وجعله بكاءه في مناجاته للسيد المسيح يفقد وعيه امام مذبح الكنيسة ليلة كاملة " هؤلاء ابناؤك لماذا اخضعتهم لهذه التجربة؟"..

رمزية مفتاح بيت ام عطا، المرأة الفلسطينية الذي جعلته يرى ان السيدة مريم تتجسد في كل امرأة فلسطينية في صبرها على الالم، مفتاح بيتها في القدس الذي اعطته اياه كي يعود اليها. ثم موت ام عطا حسرة على فلسطين بعيدة عن القدس، جذّرت حبه لفلسطين التي بقيت في قلبه وصلواته وعظاته وتوجيهه لطلابه. لكنه لم يكتف بالصلاة والتبرعات وتعليم البنات كما الصبيان ومكافحة الفقر والجهل في الارياف والقرى، بل حمل السلاح الى الفدائيين في فلسطين غير آبهاً باثني عشر عاما امضاها في السجن فداء لفلسطين.

"حارس القدس" مقاربة غنية لسيرة المطران كبوجي، تستحق التقدير لما تعكسه من التزام بمنظومة القيم الاجتماعية والانسانية والاخلاقية والحقوقية من ناحية، وبالسياق التاريخي المشرّف لشخص وهب نفسه لخدمة فلسطين قضية كل العرب ولخدمة وطنه الام سوريا التي ما زالت تنتج اعمالا داعمة لفلسطين، مناهضة لكل اشكال التآمر على تصفيتها ومنها "صفقة القرن".    

     

*المطران جورج كبوجي الذي حمل لقب القديس الغزاوي الراهب هيلاريون (291  ـ 372 م.)، الذي عاش في قرية "ام التوت" قرب مدينة غزة في فلسطين المحتلة، حيث ما زالت معالم المكان الاثرية وديره، شواهد على تجذر المسيحية في الشام والوطن العربي. ولد المطران كبوجي في العام  1922 في حلب وتوفي في منفاه في روما في العام 2017.

**يُعرض مسلسل "حارس القدس" خلال الموسم الرمضاني 2020، على قناة دراما السورية وقناة الميادين اللبنانية التي ساهمت في انتاجه، وايضا على قناة الظفرة الاماراتية التي توقفت بعد الحلقة السادسة عن تحميلها على يوتيوب.  

نجوى زيدان، كاتبة وصحفية عربية من لبنان
الثلاثاء، 12 ايار/ مايو 2020