عن الحرب على الإرهاب والنموذج التونسي … وابن عمتي نوفل

السودان : احتجاجات ضد غلاء المعيشة ورئيس جامعة يضرب طالبتين أمام الكاميرا!
في غزة.. دهرٌ بمئة يوم
المطران غريغوار حداد : قضيتي ترجع الى افكاري التي ناقشها الفاتيكان وأصدر حكما ببراءتي

تعدّدت في السنوات الأخيرة حالاتالتوقيف التّعسّفي والاعتقال دون تُهَم مُعلنة وخارج الأطر القانونية للحقّ العام،طالت جمْعاً هامّاً من أبناء تونس وبناتها. لا نملك تفاصيل حيثيات كل هذه الأحداث، لما أحاط بها من سرّيّة وتعتيم، ومن امتناعالسلطات المسؤولة عن الإدلاء بأي معطيات مفيدة، لكنّنا نعلم حقّ العلم ما عانتهأسرهم من آلام، وما تحمّلته من عذاب ومن خوف على حال «المخطوفين» وعلىمآلهم.

بعد غياب يمكن أن يدوم أسابيع أو أشهراً، حسب حظّ المعني بالأمر، وحسب قدرة ذويه على التأثير في الجهات النافذة، يظهر المختفي أو المختفية في سجن منسجون البلاد في ثوب المتّهم بارتكاب أعمال لا يصدّق من عايشه أنه ارتكبها. فتكونآثار الجراح الدّفينة في تعابير وجهه وفي اللامنطوق من كلامه وفي نظراته حينمقابلته لذويه، تكاد تنسي ما خلّفه الضّرب المبرح من علامات بيّنة علىجسده.

عَلِم كاتب السطور باختفاء ابن عمّته من مقرّ عمله في العاصمةتونس خلال شهر حزيران/يونيو 2006. بقي نوفل ساسي والد الأطفال الأربعة بعد اختطافهفي زنزانات البوليس السياسي مدّة أسبوعين جابت خلالهما السيدة زوجته مكاتب المصالحالرسمية المعنيّة تسأل عن مكان زوجها فيجيب المسؤولون بنفي وجوده عندهم. فكانت فيكلّ يوم تعود، مصرّة على توجيه السؤال لكلّ الرسميّين من أدنى أعوان السلطة حتىأعلى هرمها، معلنة غيرتها على حقوق زوجها وحقوقها، ملقّنة درساً في الشجاعةوالكرامة والوفاء لكلّ من نسي ما هو نفيس في نفسه.

بعد خمسة عشر يوماً،نُقِلَ نوفل من دهاليز وزارة الداخلية إلى السجن المدني في العاصمة، فتأكّدتالعائلة من أنه حيّ. كان هذا الخبر بمثابة البشرى في أوّل الأمر، ثمّ لمّا عُلِمبما تعرّض له من تعذيب ومن إهانات (وفيها ما كان يخجل من وصفه أثناء المقابلاتالقصيرة المسموحة تحت رقابة السجّانين)، ولما عُرف ما كانت تحوكه أجهزة الأمن منسيناريوات للزجّ به وبغيره في صفقة أمنية دولية لا دور له فيها غير دور حطب النار،انقلبت البشرى شؤماً والفرحة خوفاً، ثم غضباً بارداً.

قضى نوفل سنة ونصفالسنة في السجن قيد التوقيف التحفّظي، توفّي خلالها والده. وها هو تقرير ختم البحثيأتي بالتهم المنسوبة إليه وبحيثيات إثباتها، فإذا بها مستندة كلّها إلى شهاداتأنكرها أصحابها حالما مثلوا أمام قضاء التحقيق، أي حالما انتُزِعوا من أيادي أعوانالأمن المكلّفين الاستجواب. وإذا بفقرات كاملة من التقرير منسوخة حرفيّاً من ملفّتحقيق محاكمة جرت سنة 1990 وتمّ بتّها، وإذا به خاوٍ من أيّ عنصر من عناصر البرهانالقضائي المتداولة والمقبولة… لكن هزالة التهم واهتزاز مقوّمات الإدانة في بلادنالا تحمل الطرف المدافع آليّاً على التّفاؤل كما في باقي الدول، فهي تشير لكونمحدّدات المحاكمة لا تمتّ للقانون ولا لقواعد الإجراء القضائي ولا لحقيقة الأحداثبصلة،لذا وجب توسيع رقعةالدفاع.

ولذا يجب فهم القضية من خلالسياقها العام، وربط الاهتمام بمصلحة المُقاضَى، دائماً، بالتزام همِّ المصلحةالعامّة. قضيتنا تبتدئ جلساتها يوم ٤ يناير/كانون الثاني ٢٠٠٨.

لا يمكنلأيّ متابع لأساليب إدارة شؤون الدّولة في بلادنا إلّا أن يلحظ نزوع قوى الأمنوجهاز القضاء المتنامي منذ بضعة سنين لاتخاذ مقولة «مواجهة الإرهاب» ذريعة لتطبيقشتّى أشكال التنكيل والتعذيب، وحجّة لإرساء الإجراءات الاستثنائيّة قاعدة دائمةللممارسة الأمنية، وللاستعفاء من القوانين الحامية للمواطنين، بل من كلّ القيمالأخلاقية والاعتبارات الحضارية المكوّنة لوعينا وهويتنا وكرامتنا.

لا تقتصرآلة القمع المتسترة وراء «مكافحة الإرهاب» هذه، على ضرب بعض المعنيّين من الناشطينالسياسيّين أو غير الناشطين وذوي قرباهم، بل إنّها بمثابة شفرة السّيف المسلَط علىشعب بأسره، تبثّ فيه الفزع وتحقن في أعمق طيّاته مخدِراً لتلك الفطرة التي تجعلالناس يتآزرون على الصعاب ويتضامنون في المآسي.

هكذا يصبح الجار يتعامى علىما يحلّ بجاره خشية من التورّط في «مساندة الإرهاب» (الفصل 17 و19 من قانون مكافحةالإرهاب الصادر في 10 كانون الأول 2003)، والأخ يمتنع عن نصرة أخيه، ولو كانمظلوماً، تحاشياً لتهمة «التواطؤ بقصد عمل إرهابي» (الفصل 13 من القانون نفسه)،ويصبح الابن مُخْبر شرطة على أبيه.

وبهذا تُستَورَد بذرة الحقد والكراهيةبين المضطهدين وإدخال بوادر الحرب الأهليّة إلى عقر ديارنا وإلى صميم أسرنا، فيكاديكتمل المشروع العَوْلمي المتمثّل في تعميم و«دمقرطة» الحرب الأهلية الدائمة. أمّاالإنجاز النهائي للمشروع إياه، فلن يُعلَن قبل أن يصبح فم الواحد منّا ينْهَشساعِده، وقبل أن تتوجّه رجْلايَ لأقرب مخفر أمن للوشاية بانحيازي الكامل لخطالمقاومة في لبنان وبما يغمر قلبي من تعاطف مع المقاومة الشعبية العراقية ومايتضمّنه ذهني من إكبار لصمود الشعب الفلسطيني وإبائه، علماً بأنّ هذه المشاعروالتعبير عنها قد يمكن إدراجها ضمن «القيام بالدّعاية لاقتراف جرائم إرهابيّة» (الفصل 12 من قانون 2003).

هذا التطوّر يتجاوز طبعاً الحدود التونسية. فقدأضحى التعاون (الأمني والقضائي والعسكري) في مكافحة الإرهاب هو المجال الأساسيلإعادة ترتيب وضبط جهاز الهيمنة المعولمة على شعوب الأرض وخيراتها. لكن تونس، هذاالقطر الصغير المتوسّط للبحر المتوسّط، بسبب موقعه الجغرافي وانفتاحه الثقافيوالاقتصادي والتركيبة الإدارية والسياسية للسلطة فيه، يكتسي أهمية نموذجيّة في نمطإنتاج وتراكم التقنيّات الأمنية وآليات السيطرة على الأجساد والنفوس.

لاتملك تونس من الخيرات الطبيعية ما يمكن تصديره والانتفاع من بيعه ومن اقتصاص عمولةالسمسرة من ثمنه إلا القليل. لذا، إلى جانب الاتجار بما بقي من خيرات عامّة بعدخصخصتها، وهي لا تكاد تفي بأدنى الحاجات المعيشيّة للعِبَاد، فقد اختصّ الماسكونبزمام جهاز السلطة في تطوير منظومة الإدارة الأمنية للمجتمع، وابتكار الأدواتالبوليسية والقضائية والاستعلامية المناسبة للعهد الأمني الديموقراطي السعيدالقادم. تُعَدّ هذه المهارة أهمّ عناصر القيمة التفاضلية التي يمتاز بها النظامالتونسي في التقسيم الدولي الراهن للعمل، يتقاضى مقابله ما يحتاج إليه من مساعداتمالية ودعم سياسي من مراكز الأمر والقرار العالميّين.

فأصبح تراب الجمهوريةالخضراء ميدان تجارب، وسكّانها جرذان مختبر لإنتاج البضاعة الأمنية وتوزيعها علىالسوق العربية الإسلامية، ولتزويد «الشركاء» الأميركيّين والأوروبيّين بروايات عنشبكات ومشاريع إرهابية لا إثبات ولا براهين على وجودها غير اعترافات يتعذّر التحقّقمنها بسبب غياب كلّ شروط المحاكمة العادلة وانعدام احترام حقوق الدفاع. بل إنّهيصعب على أي مراقب للقضايا المعنية لم تُشْترَ ذِمّته، ألّا يقتنع بأنّ أغلبالاعترافات مصطنعة ومنتزعة تحت التعذيب، ولا سيما أنّ كل المعترِفين تقريباً يصرخونحالما تسنّى لهم الكلام خارج زنزانات التحقيق، مؤكّدين أنه لا علاقة لهم بما جاء فيمحاضر الاستجواب وأن توقيعهم قد اقتُلع منهم بواسطة أشكال عديدة من التعذيب. ثميهمّون بوصف تلك الأشكال، وإذا بها متشابهة من متّهم لآخر ومن قضية لأخرى، ومطابقةلماهو بمثابة مجلّة إجرائيّة جديدة محدِّدة لفنون التعذيب، يبدو أنها قيد الإتماموالتعميم لتصبح مرجعاً من مراجع المعايير الإجرائية الدولية.

قد يرى القارئفي هذا الوصف شيئاً من المبالغة، وقد يجد أنه لا حاجة لمختبر تونسي (أو أردني، أوإماراتي…) بما أن الأميركيّين يقومون بالعمل نفسه، بدرجة عالية من الضمير المهنيوالإتقان في أبو غريب وغوانتنامو وباغرام وغيرها من الأماكن ذات الأسماء الغامضةالمثيرة.

نقول للقارئ متآسّفين لعدم قدرتنا على طمآنته آّننا لسنا منالمولعين بالتّنديد والتّظخيم الشّعاراتي والحسرة والإكتئاب، ولسنا من الّذينيريدوا لآنفسهم ولقضاياهم شرعيّة مستمدّة من صفة الضّحيّة المغلوبة على آمرها، لذافإنّا لا نسوق آمرا لم نتثبّت منه و لم ندقّق البحث فيه ولو كان يعيننا على إدانةآعدائنا، فدقّة التّصويب و سداد الرّاي يساعدان على إدراك المرمى، لا المغالاةالملامة والبكاء.

ونقول له بأسف آشدّ آنّ الهدف الاستراتيجي لعدوان التحالفبالزعامة الأميركية ليس الاكتفاء بزرع بعض المواقع المحصّنة في ميادين المواجهةالعسكرية المباشرة، يمارس فيها من الأعمال الشنيعة والبشعة ما يُنسَب إلى الوجهالمظلم الاستثنائي لقوّة يمكنها بالتزامن أن تكون مروِّجاً للسلام والحرية والرّخاءلباقي الإنسانية. إنّ المرحلة اللاحقة للحملة الوقائية الكونية هي تطبيع ذاكالاستثناء ونشره على امتداد البسيطة، إلى أن تُفَكَّ كلُّ روابط التضامن بين النّاس (الوطنية والطبقية والدينية، وحتّى العائلية والودّية)، وتُذَوَّب كلّ عوامل حصانةالشعوب والأمم والجماعات. يصبح آنذاك الإذعان الكامل لقوّة الاستبداد وحدها، والخوفوالاستسلام الدائمان، سنن حياتنا. لذا وجب توسيع رقعة الدفاع.

COMMENTS