… عن انتفاضة السليمانية في شمال العراق (الأكراد يتمردون على نظام المافيا العائلية)

أفول الحريرية : الورَثة على درب الإفلاس …
الانسحاب من أفغانستان من منظور إسرائيلي.. “الضعف الأميركي سيكلّف إسرائيل ثمناً باهظاً”!
استطلاع فصلي نشره مصرف لبنان : تراجع صناعي … وركود تجاري و … بطالة

لم يكن مستغرباً، بل كان متوقعاً، أن يصل صدى الثورات الشعبية التي عمت، وتعم، بعض البلدان العربية إلى الإقليم الكردي من العراق. فهذه البقعة، مثل العراق في عمومه، تعاني من سائر الأمراض التي فتكت بجسد المجتمعات العربية وأدت إلى الإنتفاض. كما في تونس ومصر وليبيا واليمن، وسواها، يسود في إقليم كردستان المظاهر ذاتها من الفساد وطغيان السلطة السياسية والحكم العائلي والتوريث والفقر الإقتصادي لعامة الناس والتفسخ الإجتماعي وهيمنة الزعيم الأوحد.

ولم يكن غريباً أن تبدأ الإضطرابات في السليمانية، معقل رئيس الجمهورية العراقية وزعيم الإتحاد الوطني الكردستاني منذ أكثر من أربعين عاماً.

إنشق جلال طالباني عن الحزب الديموقراطي الكردستاني وزعيمه التاريخي مصطفى البارزاني مبرراً ذلك بسعيه إلى إحداث قطيعة مع الماضي وترسيخ الميل إلى التقدم والعصرنة والإرتباط بالمعسكر الإشتراكي. وهو إتهم البارزاني بالتخلف والرجعية والعمالة للإمبريالية والصهيونية. وهذه بالضبط كانت مبررات الإنقلاب على الملكية في مصر وليبيا على يد جمال عبدالناصر ومعمر القذافي. ولكن سرعان ما ظهر أن المقولات البراقة لم تكن سوى شعارات قادت إلى التسلط وهيمنة الزعيم على كل مفاصل المجتمع. وترافق ذلك مع ظواهر كم الأفواه وقمع الحريات وعسكرة المجتمع وسيطرة الحزب، ومن ثم العائلة والأقارب، على كل شيء. ولهذا كان لابد للتناقض أن يصل إلى ذروته يوماً فينفجر وتنكسر الحلقة وينقشع الحجاب عن الأعين فينكشف واقع الحال أمام الجميع.

ثمة جوانب شبه تشد الوضع السائد في إقليم كردستان إلى مجريات الحال في البلدان العربية. المنطقة الخاضعة لسيطرة مسعود البارزاني، الذي ورث الزعامة من أبيه، تشبه بلدان الخليج العربي من حيث الطابع المحافظ والروابط القبلية والسلوكيات التقليدية. ثمة، والحال هذا، نوع من الإنسجام بين القول والفعل. فالبارزاني لا يعمد إلى ممارسة التضليل بإستعمال الشعارات الكبيرة بل هو يشدد على التروي والحفاظ على التقاليد وإحترام الروابط المجتمعية. في الجانب الآخر إستمر طالباني في التحدث من دون حرج عن التعددية والديموقراطية وحرية الإعلام وما شابه. غير أن الوضع على أرض الواقع يصطدم بالشعارات الخلابة في كل لحظة. طالباني هو الزعيم الأوحد منذ تأسيس الحزب وحتى الآن، وعلى غرار ما كان سائداً في تونس ومصر وليبيا، تستحوذ العائلة الطالبانية على مفاصل حاسمة في السياسة والإقتصاد. تدير زوجة الرئيس شركة خاك للتلفزيون والصحافة. ويسيطر الإبن الأكبر على الأمن فيما يقوم الإبن الآخر بدور ممثل طالباني في واشنطن. وتسيطر العائلة على شركات جبارة في النفط والإسمنت والهاتف النقال والمقاولات ( شركتا نوكان وآسيا سيل، مثلاً).

والحال أنه منذ البدء لم يكن ثمة ميزان يقيس حركة الساسة الكرد سوى طموحهم الشخصي. لقد إندفعوا إلى العمل السياسي و”الكفاح المسلح” هرباً من البطالة على جاري المثل الكردي: “القتال خير من البطالة”. ولن ننسى أن شرارة التمردات الكردية الأولى جاءت رداً على قيام الحكومات المركزية بفرض الضرائب على المناطق التي يسكنونها.

والأحزاب التي ظهرت، في ما بعد، بدت بمثابة مجموعات غايتها الأولى، والأخيرة، السلطة والجاه والغنى. إن الدافع إلى العمل السياسي لم يقم على التعطش للحرية أو تحقيق الرفاه للناس البسطاء من الشعب. وكانت المصلحة الشخصية، ومن ثم العائلية، هي البوصلة الرئيسية التي قادت الخطوات. كان العمل الحزبي و”النضال” التحرري نوعاً من سلوك نفعي. وعليه فقد كان الحزب والوطن والتحرر مصطلحات رمزية جوهرها الرزق والكسب “الحلال”.

وليست بعيدة عن أذهاننا الصراعات الضارية بين حزبي البارزاني وطالباني (إقرأ: عائلتي البارزاني وطالباني) على الموارد والنفوذ والتي لم يتورع فيها الجانبان عن إقتراف جرائم حرب بحق الناس من الطرفين. كما لم يتورع كل منهما من الإلتجاء إلى “أعداء” الشعب الكردي لحماية مصالحه الخاصة. وقد توصل الجانبان في نهاية الأمر إلى خلاصة مفادها ضرورة تقاسم المال والنفوذ بدل التقاتل عليها طالما أن من غير الممكن حسم الصراع بإندحار طرف وإنتصار الطرف الآخر وطالما أنه أياً منهما لن يقبل بأن يتحول إلى معارضة سياسية كما تقتضي اللعبة الديموقراطية عادة.

إنهم يريدون كل شيء الآن وهنا وتحدوهم الرغبة الجامحة في السيطرة المطلقة على كل زاوية من البلد الذي يستحوذون على موارده كما لو كانت مزرعة مملوكة لهم.

نشأت سلالة حاكمة ضخمة من الأبناء وأبناء الأخوة وأبناء العم والخال وما بعدهم من الأقارب. والثروة الفلكية التي تراكمت في العائلة أتاحت لها تأسيس إمبراطورية متماسكة دعامتها المال والقوة فيما نشأت على ضفافها حاشية من المصفقين والوصوليين والمتزلفين من كل صنف ولون.

وتقوم إستراتيجية العائلة على مبدأ الترغيب والترهيب. عليها أن تجعل الناس أمام خيارين: إما أن يشكروها على ما تمنحهم من فضلات أو أن يخافوا منها. ولقد تعلموا من النظام الذي سبقهم قاعدة ذهبية تقول: إن كنت لا تخيف أحداً فلن يرهبك الناس وعندئذ تكون نهايتك.

وأدرك زعيما الحزبين الكرديين الرئيسين أن من يتحكم بالمال يتحكم بالناس. وهما توصلا إلى هذا الدرس من تجربتهما الخاصة. فلطالما تزلفا إلى الحكومات والدول، القريبة والبعيدة، بما في ذلك إسرائيل، كي تمنحهما الفرصة للحصول على المساعدات. فالمرء يكون في موقع القيادة حين يستطيع التحكم بالأرزاق والمصائر.

بعد سقوط حكومة صدام حسين وتبوؤ جلال طالباني سدة الرئاسة في العراق، وضعت عائلته نظاماً محكماً لبسط النفوذ وتوزيع الأتباع. وخارج الدائرة الضيقة للعائلة، (المكونة من الرئيس وإبنيه، بافل وقباد، وأخوته وأبناء أخوته والسيدة الأولى هيرو خان وأختها شهناز خان) يقف الباقون من مسؤولي الحزب، من المكتب السياسي واللجنة المركزية واللجان الفرعية وسواها، كضيوف شرف يمكن لأي واحد منهم أن يرحل في أية لحظة. هؤلاء وسواهم لا وزن لهم إلا بقدر إقترابهم من العائلة المالكة. ومن يفكر في إظهار أقل قدر من الإعتراض أو التململ يلقى المصير المنتظر: الطرد، أي الحرمان من المال (حين إعترض نوشيروان مصطفى على سلوك جلال طالباني وسياساته تم تأليب الآخرين عليه ثم جرى طرده فأسس حركة التغيير وهدد بكشف فضائح طالباني الأمر الذي دفع الأخير إلى دفع مبلغ خمسة عشر مليون دولار أميركي كصفقة ثمناً لسكوت غريمه).

في مدينة السليمانية، معقل جلال طالباني وعائلته وحزبه، تغيرت الأشياء في السنوات الأخيرة بشكل مذهل. كانت المدينة تعتبر، منذ نشوء الدولة العراقية وحتى آخر يوم من حكم صدام حسين، مركزاً للثقافة والفنون الكردية ونموذجاً للنظافة والرقي، وهي أصبحت الآن بؤرة للركود والتفسخ. بإستثناء الأحياء التي يسكن فيها المقربون من العائلة الحاكمة، حيث تتوفر أسباب الراحة والرفاه فإن المدينة باتت عرضة للإهمال. العائلة وحاشيتها لاتجد الوقت للإنشغال بالثقافة أو المسارح أو الفنون فهي في عجلة من أمرها لإمتصاص الموارد والإستحواذ على مصادر الثروة وتحويلها إلى المصارف في الخارج.

ويتسابق المقاولون والمنتفعون للسيطرة على كل فسحة وتحويلها إلى شركات ومعامل. تظهر أبنية إسمنتية غير متناسقة كما الدمامل. بنايات دميمة وغير متناسقة متناثرة هنا وهناك من غير أي إعتبار للوجه الجمالي للمدينة. لقد تغير كل شيء في السنوات الأخيرة وحدث ذلك بوتيرة سريعة وبشكل غير متوقع وبات الناس يستشعرون ذلك من دون أن يدركوا كنه ما يجري.

لا لقد طرأ تحول في العلاقات بين القوى والأحزاب، التي كانت تشكل تحالفات سياسية في ما بينها. الآن ظهرت تحالفات تضم عائلات مستقلة بعضها عن بعض غير أنها ترتبط من خلال خدمات مالية مشتركة. وبدلاً من البرامج الحزبية السابقة باتت هناك الآن جداول للواردات والمصاريف ولجان لإدارة الأعمال وتقاسم الأرباح. يجري الآن تبييض المال السياسي من دون الإضطرار إلى المرور بالسياسة كما كان الأمر في السابق. إن عائلات مثل طالباني والبارزاني وزيباري ودزيي وسنجاري وسواها باتت الآن تحتل المشهد العام في الإقليم كله. وعلى مثال عائلات المافيا الإيطالية فإن ثمة تأرجحاً حميمياً بين حميمية أبوية ومنافسة دموية. ويمكن في أية لحظة أن ينقلب التفاهم الأخوي إلى إقتتال رهيب.

يقوم الجميع بالتسابق على شراء كل شيء. لقد خرج هؤلاء من الحرب ونزلوا من الجبال وشرعوا من فورهم في توطيد حضورهم المالي والمتاجرة بكل شيء: السلاح والعقارات والكحول والألبسة والمأكولات والدخان والأسمنت ومولدات الكهرباء. وندع جانباً الأموال الخرافية التي يتم الحصول عليها من الحكومة المركزية في بغداد فضلاً عن إستخراج وبيع النفط سراً وعلناً وتهريباً.

والشركات الخارجية التي تريد الإستثمار في الإقليم مجبرة على دفع حصة من الأرباح إلى العائلة المالكة. وترتبط عائلة طالباني بعقود ضخمة مع شركات كبيرة من تركيا وإيران.

إن العائلة المالكة شركة متعددة الوجه كثيرة الأغراض تتحكم بالسوق وهي قادرة على سحق أي منافس سواء من خلال القوة أو عبر التحكم بالأسعار(هناك رادع القوة الذي يضبط علاقات العائلات المتنفذة بعضها ببعض ولهذا نادراً ما يحصل إصطدام بينها وإن حدث فسرعان ما يتم حل الإشكال بطرق ودية).

ومع أن هناك احتمالاً دائماً بوقوع صدام علني بين العائلات المالكة، ليس لأسباب سياسية أو إيديولوجية بل لتضارب المصالح، فإن المصلحة المشتركة تقتضي التوفيق بينها وإخماد نار الخلافات بسرعة قبل أن يستشري فيهدد الجميع بالهلاك. ولهذا فثمة إتفاق مضمر في الحفاظ على الستاتيكو القائم والعمل على عدم الإخلال به تحت أي ظرف. ويتمسك الجميع بالإستراتيجية الوحيدة المربحة وهي جني المال بأسرع ما يمكن وكسب ثقة المستثمرين ورجال الأعمال قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه.

المرتزقة والمرتشون والمريدون أصبحوا مثل علقات طفيلية تتكاثر من دون توقف في الإقليم الكردي. وشرع الزعيم وأتباعه يغدقون العطايا على صحافيين وكتاب مهمتهم الوحيدة تلميع صورة القائد ورسمه في هيئة الأب الحنون الذي لا يخطئ. لقد ظهرت كتب وكراسات تشيد بطالباني والبارزاني وتمدح عظمتهما وتحلل حكمتهما على يد أشخاص لم يسبق أن كان لهم شأن في الكتابة من قبل. وبدّل صحافيون، أكراد وعرب، مواقعهم وأخذوا يدبجون المقالات الوردية عن طالباني والبارزاني. وفيما أخذ هؤلاء على نظام الرئيس السابق صدام حسين شراء ذمم الصحافيين في ما أطلق عليها فضيحة كوبونات النفط فإنهم يغرقون حتى آذانهم في مستنقع كوبونات طالبانية وبارزانية.

يقولون أن الحياة في الإقليم الكردي باتت كالمنجم وينبغي أن يكون المرء سريعاً وحاذقاً كي يعرف كيف وأين يحفر قبل أن يكون الوقت فات. ويصير وجود العائلة في سدة السلطة ضامناً للإغتناء والإثراء ولهذا يأخذ هؤلاء على عاتقهم أمر الحرص عليها والاشادة بها وتقديم الولاء لها.

وتجري المحاولات للحيلولة دون تحول الناقد، المعزول أو المسجون أو المقتول(نعم، جرى قتل العديد من الصحافيين الكرد على يد المخابرات الكردية ) إلى ضحية في عيون الناس ولمنع كلمته من الإنتشار. وكثيراً ما يظن الناس أن تهديد إنسان أعزل وحيد لا يملك سوى القلم بالموت هو عمل أحمق وساذج وأن ذلك يضفي الشك على العائلة ويمنح الصدقية لأفكار القتيل. ولكن لا. إستراتيجية العائلة حاسمة ولاتقبل التردد: قتل واحد يؤدي إلى إسكات الآخرين. الخوف يقتل. والحزب الديموقراطي الكردستاني ومعه الاتحاد الوطني الكردستاني، هما الحزبان الأساسيان في إقليم كردستان، ويهيمنان على المشهد السياسي هناك. ولكل من الحزبين “الأسايش” الخاص به (والكلمة حرفياً تعني “الأمن”). ويتولى الأسايش المسؤولية الأساسية عن المشتبه بهم في قضايا متصلة بالأمن، وأيضاً عن الأشخاص المشتبه بعضويتهم أو صلتهم بجماعات المعارضة النشطة في إقليم كردستان. وقد وجدت “هيومن رايتس ووتش” أن الغالبية العظمى من قضايا الاحتجاز الخاصة بسلطات أسايش، لم توجه السلطات الكردية فيها للمحتجزين أية اتهامات، ولم تسمح لهم بتوكيل محامين، أو جعلتهم يمثلون أمام قاضي تحقيق، أو وفرت لهم آلية تمكنهم من الطعن في احتجازهم، أو لكي يمثلوا أمام المحاكمة خلال فترة زمنية معقولة. وقد أفاد المحتجزون بتعرضهم لأشكال كثيرة من الإساءات، ومنها الضرب باستخدام أدوات مثل الكابلات والخراطيم والعصي الخشبية والقضبان المعدنية. كما وصف المحتجزون كيف يفرض عليهم عناصر من الأسايش البقاء في أوضاع جسدية مرهقة لفترات مطولة، وكيف يضعون عصّابات على أعينهم ويقيدونهم باستمرار لأيام متواصلة.

فهل نستغرب بعد كل هذا إذا ما بدأت حركات الإحتجاج في الإقليم تتوسع وتتجذر وتصل إلى النهايات المعلومة؟

نزار آغري، كاتب كردي

‏الخميس‏، 03‏ آذار‏، 2011

المصدر :

http://www.annahar.com/content.php?priority=3&table=kadaya&type=kadaya&day=Thu

COMMENTS