عن "رحلة الاديبة نجوى زيدان الى منزل املي نصر الله"

عن "رحلة الاديبة نجوى زيدان الى منزل املي نصر الله"

رساله أخرى إلى أحفادي : إبنتي الحبيبة زينة أهدتني كتاباً عنوانه : “هذيان فتاة في العشرين”
في الطريق الى بيت إملي*
“هذيان فتاةٍ في العشرين” سردٌ رشيق تنقصه المتعة

إلى احفادي:
إقرأوا هذه الكلمات، في حال ما زلتم تقرأون وتكتبون العربية بأحرف لاتينية. لا عليكم يمكنكم قراءتها باللغة التي تتقنونها بعد ان يترجمها لكم الكمبيوتر.
ما علينا، اقول التالي: قرأت للكاتبة الاديبة نجوى زيدان ما نشرته في الجريدة الالكترونية الحقول تحت عنوان " في الطريق الى بيت املي" المؤرخ في التاسع من ايلول 2018، وقد سبق لي ان قرأت كتابها بعنوان " هذيان فتاة في العشرين" الذي جذبني فحواه وامتلأت مخيلتي بكلماته الرقيقة العذبة. حينها لخصت لكم احساسي وما تذوقته من ادب هذه العاشقة وما اصابني من انجذاب لدى قراءته. انه الشعور عينه لدى قراءتي مقالها حول زيارتها لبيت الاديبة الراحلة املي نصرالله. لن اوجز لكم ما كتبت حول رحلتها من بيروت الى قرية الكفير في البقاع الغربي، بل سأعرض لما لفتني من تعابير لمست فيها معانٍ فلسفية للحياة، انها مقتطفات من كلمات تجري جريان مياه الثلوج في السواقي عند منحدرات السفوح.
في مواجهتي مع المقال، طالعتني جملة فيها من قوة المعنى ما يُغني عن كتاب في علم الفلسفة، سكبت فيها الكاتبة عُصارة ذكريات طفولتها قائلة" انه ماضينا الذي يبقى حياً فينا ما دمنا احياء"، هي كلمات المس معانيها و انا في عمر يتجاوز منتصف الثمانين ( إحسبوها انتم).
احفادي، لم يبق في جعبتي سوى ذكرى اتشاركها معكم علها تنفع. في الطريق الى بلدة الكفير اتت نجوى عبى ذكر حرب بيروت وقاذورات بيروت وما تعلمته من " مصاف الحب الذي وصل حتى جمام العشق"، استوقفتني هنا كلمتين اخيرتين في وصف ما تعلمته الكاتبة من العشق الذي بلغ حدّ الجمام. لم اعد ادري ما هو جمام العشق الذي ذكرته وليتها تكتب عنه الكزيد لأستعيد معه ذكريات العشق الذي اصابني يوماً وابحث بين جمامه علّني اجد فيه ما فاتني.
هي الطريق الى قرية الكفير، تلك التي اعرفها جيداً من خلال رحلاتي ايام زمان، لاصطياد عصافير الدخن اوقات المبيت، اعتباراً من منتصف فصل الصيف. كنت في عمر الشباب، اذهب حينها مع عائلتي والاقرباء من هواة الصيد لملاقاة طيور آب وايلول، نحط رحالنا بين مروج سهل البقاع اينما وجدنا الفيء او مكان مناسب للراحة.
في طريقها الى قرية الكفير الجميلة، قرية الاديبة الكبيرة الراحلة املي نصرالله، اجادت الكاتبة في الغمز من قناة اهل بيروت، ممّ صادفتهم، المتأنقين في رحلاتهم الى اماكن الترفيه والتسلية، كما عادت بذكرياتها الى ايام الحب والمظاهرات. هذه العبارات من المقال، اعادتني انا ايضا بالذاكرة الى زمن سحيق، زمن انجرافي في المظاهرات مع طلاب مدرستي المقاصدية، حيث كنت ارافقهم دون معرفة السبب احياناً، او انه كان دافعي العميق هو المرور بمحاذاة منزل الصبية التي لفتتني رؤيتها خلال الصيف حين تبادلنا النظرات. نحن في طريقنا الى ساحة البرج ( كما كانت تسمى في ذاك الوقت)، نسير في المظاهرة، وأطلّت معذبتي من فوق شرفة منزلها تراقب المظاهرة وضجيج اصواتها، لمحتني ولمحتها ورأيت افترار ثغرها، ثم ابتسامة عريضة، كما لاحظت اشارتها بيدها الى اخيها الصغير بجانبها، وكأنها تقول له انظر هذا هو جارنا في الصيفية (وكانت قريتنا الصيفية مشهو بأخوتها: اخوت شاناي). هنا استعدت اعتدال قامتي وسرت سير جنود الجيش في استعراض عسكري. اتابع بنظري ومن طرف خفي ما كان يصل الي من تأثير مشاهدة فتاتي لي في هذا الموكب.
اعود الى كاتبتنا وما شاهدت في طريقها بين ظهر البيدر وسهل البقاع من سكة الحديد المتهالكة وبقاياها المهترئة، لقد تخيلت المسافرين ايام زمان " حاملين الصرر والسلال، والرجال بشراويلهم وعقالاتهم" ولكنها لم تذكر الطرابيش الحمر التي تميل الى جانب الرأس بشراباتها كما الشنب باستدارتهمرفوعاً الى اعلى.
قالت الكاتبة في حديثها عن وصف الصباح في سهل البقاع " تنشر الشمس صباها فوق السهل الذي شوّهه العمران" تاركة لنا محاولة الاحتفاظ بجمال صورته. مرّت بطريقها الى الكفير بقرى ما عرفتها من قبل، انها طريق متعبة، لكن الزيارة تستحق العناء: انه مشروع حضاري بتحويل المكان الذي نشأت فيه الاديبة املي نصرالله،  " بيت طيور ايلول"، الى متحف يمثّل رمزاً من رموز لبنان الادبية والثقافية. وكماقالت الكاتبة انه "مشروع ينقذ الريف من القحل والمحل".

جدكم عبد الرحمن

بيروت، نهاية تشرين الاول 2018

بقلم عبد الرحمن القيسي، ناقد أدبي، عربي من لبنان، مواليد بيروت 1935.