
"حرب باهالجام" وعملية فتح أوراسيا ...
تدعم الإستخبارات التركية منظمات "إخوانية" كبيرة بنغلادشية على اساس العداء للهند، وقد نستيقظ في يوم قريب، لنجد نسخة ثانية معدلة من "حرب باهالجام"
كتب علي نصَّار / خاص ـ الحقول / بيروت : ركزت التقارير الصحفية على وقائع المواجهة الحربية التي اشتعلت بين الهند وباكستان عقب العملية الإرهابية في مدينة باهالجام في الجزء الهندي من إقليم كشمير، وأسفرت عن قتل 26 سائحاً مدنياً، يوم 22 نيسان/ ابريل الماضي. لقد سارعت قوات البلدين إلى الإستنفار والإشتباك عبر الحدود المشتركة بينهما، بناء على اتهامات مألوفة، ينقصها التحقيق الشفاف عن الجهات المتورطة، فعلاً، في الجريمة.
من المرجح أن تكون رهبة الخوف من أهوال الصدام النووي، هي الدافع الحاسم إلى كتمان "فورة الغضب" في نيودلهي وفي إسلام آباد، حيث أوقفتا إطلاق النار وأعادتا الجيوش إلى ثكناتها في أيام قليلة. إلا نجاح إرهابيي باهالجام في هزِّ الأمن الإقليمي ـ الدولي، بسرعة خاطفة، يستوجب النظر التحليلي في بعض العوامل الخارجية التي تغذي ديناميات صراع "الأخوة الأعداء" في شبه القارة الهندية.
يحفل تاريخ الهند وباكستان بالحروب. حرب عام 1947 ـ 1948 كانت حرب تقسيم الهند التي أدارتها بريطانيا الكولونيالية، وقد انتهت بـ"وساطة بريطانية" بينهما لتقسيم إقليم كشمير. ثم حرب عام 1965 انتهت بإحباط الولايات المتحدة إنذار الصين للهند دعماً لباكستان. وأخيراً، حرب باكستان الشرقية عام 1971 التي انتهت بدعم الإتحاد السوفياتي للهند فاستسلمت باكستان أمامها، واقتُطِعَتْ دولة بنغلادش من أراضيها التي كانت تحمل اسم باكستان الشرقية.
كل تلك الحروب وقعت بين الهنود والباكستانيين قبل أن يدخلوا عصر الصناعة النووية، ويرسموا حدود الردع النووي بينهما، خصوصاَ بعد عام 1998. ولذلك، يبدو الآن، وكأن إرهابيي باهالجام أو بالضبط من يقف خلفهم، هم الذين فرضوا المواجهة الأخيرة، على حكومتي البلدين النوويين اللتان سارتا في نهج التصعيد العسكري لنحو اربعة أيام، قبل أن تتوصلا إلى اتفاق لوقف إطلاق النار يوم 10 أيار الماضي.
وبغية تحري ملامح القوى الخارجية التي تغذي مشروع حرب "الأخوة الأعداء" في جنوب آسيا، مع إدراكها لوفرة السلاح النووي تحت أيديهم، لا بد أن نذكِّر بأن الحروب الثلاث السابقة، التي شكلت مدار التاريخ الجيوبوليتيكي الهندي ـ الباكستاني الحديث، قد نشبت بين نيودلهي وإسلام آباد في السياق الإقليمي ـ الدولي، الذي فرضته توازنات النظام العالمي الثنائي القطب الذي قام أثناء "الحرب الباردة".
أما "حرب باهالجام" فقد وقعت في سياق انتقال دول العالم إلى النظام الدولي المتعدد الأقطاب، وانقسام هذه الدول بين كتلة "الجنوب العالمي الكبير" و"كتلة النظام الدولي الأميركي" أو "الغرب الجماعي". وهذا هو التغير الجذري الكبير في الديناميات الخارجية لهذه "الحرب" وللصراع الهندي ـ الباكستاني عموماً. وكما بتنا نعلم جميعاً، فهذا الإنتقال العالمي، يتم بخوض الحروب، ليس حرباً واحدة، بين كلا الكتلتين.
فهل كانت حرب الهند ـ باكستان في أيار الماضي، جزءاً من حروب الإنتقال إلى النظام العالمي المتعدد الأقطاب الذي يريده "الجنوب العالمي"، أم هي جزءٌ من حروب "الغرب الجماعي" الذي تقبض الولايات المتحدة الأميركية على أَزِمَّتِهِ وقياده؟. يصدر هذا السؤال عن واقع العالم المنقسم بين ثلاثة حروب كبرى :
ـ الأولى، حرب توسع حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا التي تشنها أميركا وبريطانيا والإتحاد الأوروبي مع كندا وأوستراليا وتركيا ودول أخرى.
ـ الثانية، حرب "إعادة تشكيل الشرق الأوسط" التي تشنها "إسرائيل" على فلسطين وسوريا ولبنان واليمن والعراق، بدعم تام، من أميركا وبريطانيا ودول "الغرب الجماعي.
ـ الثالثة، الحرب المؤجلة ضد الصين، التي تتهيأ لها الولايات المتحدة الأميركية، مع أوروبا وبريطانيا واليابان واوستراليا وكندا، وتبني أحلاف سياسية عسكرية، في جوار الصين، تمهيداً لشنها.
في إطار مناقشة السؤال، نلاحظ أن هذه الحروب هي حروب "الغرب الجماعي" لغزو أوراسيا. لفتح أوراسيا. فقد نشأ ميزان قوى عالمي جديد، اقتصادي ـ تكنولوجي اساساً، في أوراسيا، أدى إلى إضعاف "النظام الدولي الأميركي" الذي كان يضمن أمن الهيمنة الراسمالية الغربية على دول العالم.
لن نتوسع في هذه النقطة، ولكن هذه "الحروب الغربية" هدفها كسر توازن القوى الدولي الجديد الذي يؤلف الدينامو الرئيسي في تكون "الجنوب العالمي الكبير" ووجوده. فهناك مربع للقوة الإقليمية والدولية في الجيوبوليتيك الأوراسي أعمدته روسيا والصين وإيران وكوريا الديموقراطية. في هذا "المربع" نمت وتنمو قدرات إنتاجية متطورة وجاذبة لدول "الجنوب". ولذلك، فإننا إذا نظرنا إلى حروب غزو أوراسيا التي يشنها "الغرب"، سنتأكد من أن جوهر أهدافها إحباط هذه القدرات، من خلال كسر "الأعمدة" أي الدول نفسها. ومن أجل هذه الأهداف الإمبريالية، يقود "الغرب الجماعي" حربان في أوكرانيا وفي "الشرق الأوسط" ضد روسيا وإيران، ويؤجل حرباً ثالثة ضد الصين وكوريا الشمالية.
إن التدرج في هذ التحليل يضيء الزواية المعتمة أمام نظرنا، حيث تخفى، بعناية، مصلحة دول "الغرب الجماعي" في تفجير "حرب باهالجام". بغاية عرقلة أوراسيا الناشئة و"الجنوب العالمي" الذي تنتظم دوله في إطر دولية وإقليمية أوراسية مثل منظمة "بريكس" و"منظمة شنغهاي للتعاون". وكما نعلم فالهند عضو مؤسس في "بريكس" والهند وباكستان بلدين عضوين في "منظمة شنغهاي" منذ عام 2017.
وليس هناك أدنى شك في أن هذه المنظمات الأوراسية الدولية الفتية هي أدوات فعالة في إنهاء "النظام الدولي الأميركي" الذي شيدته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ثم أعادت تشكيله بعد انهيار الإتحاد السوفياتي عام 1991، لتفرض نظاماً دولياً أحادي القطب. من هذا المنظور الأوراسي التحرري من نظام الهيمنة الأميركي ـ الغربي، جاءت الحرب الهندية ـ الباكستانية قبل شهرين، كمصلحة أميركية وبريطانية وغربية و"أطلسية" أكيدة، لتدمير وحدة الدول الأوراسية وتخريب الدينامو الأوراسي في "الجنوب العالمي الكبير".
من المفيد للتحليل الإستراتيجي أن يأتي على العلاقات السرية بين الإستخبارات البريطانية وجماعات الإرهاب التكفيري من "اللندنستان" إلى أنحاء أوراسيا، ما يبرر اتهام "الإنكليز" بدعم العملية الإرهابية في باهالجام. والأضرار السريعة التي أحدثتها هذه العملية بالسياسة الأوراسية كبيرة، وتبين أن "حرب باهالجام" هي ربح صاف في كيس الأميركيين والبريطانيين وعموم الكتلة "الأطلسية".
إن البيانات البريطانية عن العمل مع الأميركيين لوقف الحرب بين الهنود والباكستانيين، ثم إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب استجابتهم البلدين لطلبه منهما وقف إطلاق النار، لا يتماشى مع الحقائق المعروفة عن السعي الأميركي ـ البريطاني لتخريب الهيكل الأوراسي. لقد كشف باحث اوروبي في مقابلة مصورة عام 2014، أن الولايات المتحدة الأميركية عرضت على الهند في عام 2010، أن تحل محلها في قيادة السيطرة البحرية الدولية في المحيط الهندي، والوقوف بوجه الصين، لكن الهنود رفضوا العرض.
هذه المعلومات تبرهن أن دفع الهند إلى مواجهة الصين مباشرة أو من خلال باكستان، بند رئيسي في جدول أعمال الديبلوماسية الأميركية والبريطانية. لأن استراتيجية التنمية الأوراسية أو العولمة الأورواسية ترتكز في أحد وجوهها على الإستراتيجية الصينية المعروفة باسم الحزام والطريق. ونحن نعلم أن الحزام البحري يمر قرب مرافئ الهند كما يشمل بعض مرافئ باكستان. ولا شك أن إشعال "حرب باهالجام" من خلال الجماعات الإرهابية، يتناسب مع الرغبة الأميركية والبريطانية بتخريب استراتيجية الصين لفتح موانئ وخطوط نقل آمنة في المحيط الهندي، في الجزء الذي يمتد من موانئها إلى البحر العربي.
لقد توقفت الحرب التي كان الأميركيون والبريطانيين يتوقعونها أو يتمنونها في شبه القارة الهندية. ولكن لعبة فتح أوراسيا مستمرة. وإذا كانت حرب الهنود والباكستانيين لم تحقق أهداف واشنطن ولندن، فإن هذا لا يلغي الأهداف بل يبدل أدوات الوصول إليها. إن شبه القارة الهندية محاذية للصين وإيران وآسيا الوسطى وكذلك الدول العربية وتركيا، التي تشكل الجناح الجنوبي في حلف شمال الأطلسي. هكذا يجب أن نقرأ موقف تركيا من "حرب باهالجام". لقد وقفت أنقرة بجانب إسلام آباد، وقيل أنها زودتها بالأسلحة. وهذا الإنتصار التركي لباكستان، يتلطى بعنوان "الأخوة الإسلامية"، لكنه في الواقع، يمثل تكراراً لما تفعله الحكومة "الإخوانية" في تركيا، في كل من سوريا ولبنان والعراق ودول عربية أخرى، حيث تعمل تركيا كجناح فعال لحلف شمال الأطلسي، يكسر أو يضعف القوى الأوراسية الإقليمية ويحاصرها.
إن صب تركيا الزيت على نيران "حرب باهالجام" في شبه القارة الهندية، هو بديل عن حرج الأميركيين والبريطانيين أو عجزهم عن القيام بذلك. ورغم وقف إطلاق النار بين الجيشين الهندي والباكستاني، إلا أن أنقرة تواصل القيام بوظائفها الأطلسية. فهناك تقرير مفصل عن سعي تركيا لتكرار "التجربة السورية" في بنغلادش. إذ تدعم الإستخبارات التركية منظمات "إخوانية" كبيرة بنغلادشية على اساس العداء للهند، وقد نستيقظ في يوم قريب، لنجد نسخة ثانية معدلة من "حرب باهالجام" تحري تحت عناوين "إسلامية"، بين بنغلادش أو جماعات بنغلادشية تكفيرية وبين الهند "الهندوسية". إن الأوضاع الإجتماعية ـ الإقتصادية المتدهورة في دول الإتحاد الأوروبي وأميركا واليابان، وفي تركيا أيضاً، تجعل حكومات هذه الدول بحاجة لشن الحروب في الخارج، خوفاً من قيام الرأي العام بمحاسبتهم أو عزلهم في الداخل. وهذا، أي تصدير الأزمات إلى الخارج، هو أحد أهداف "الحروب الغربية" الجارية والحرب المؤجلة وكذلك ... "حرب باهالجام".
مركز الحقول للدراسات والنشر
الجمعة، 10 ذو الحجة، 1446 الموافق 06 حزيران، 2025
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
أضف تعليقاً