
الأب يواكيم مبارك خـرج مـن طائفة الحجر إلـى كنيسة البشر
عاد الأب يواكيم مبارك إلى لبنان من أجل إصلاح الكنيسة المارونية وتجديدها، ولكن بعض غلاة الانعزالية اتهموه بأنه «عاد إلى مارونيته بعد رحلة طويلة في الإسلام...».
كتب الأستاذ سركيس أبو زيد ـ بيروت / الحقول : في حقبات تاريخية مختلفة، واجهت البطريركية المارونية أبناءها المبدعين والمجددين والروّاد في الثقافة والفكر والسياسة. واصطدمت بالمبادرات الجريئة والحرة التي أقدم عليها رجالات عظام أمثال جبران خليل جبران ويوسف بك كرم وأحمد فارس الشدياق والبساتنة وأمين الريحاني وأسعد الشدياق واليازجي والأب ميشال حايك وغيرهم. وأصدرت الحرم بحق بعضهم ومنعت كتاباتهم ولجأت إلى محاربتهم ومنع الرعية من مقاربتهم أو قراءة أعمالهم.
لكن التاريخ والجمهور الماروني الواعي أنصفهم والتفّ حولهم وكرمهم، فاضطرت البطريركية المارونية بعد ذلك، إلى الاعتراف بدورهم، فتبنّتهم وأشادت بهم، متجاهلة القضايا الأساسية الطليعية التي اختلفت عليها معهم. فأضحى جبران الكافر وكرم المتمرد والشدياق الهرطوقي من رموز الموارنة ونوابغ الطائفة، فأُقيمت لهم المهرجانات والمناسبات الفولكلورية بعد تمييع قضيتهم وتجهيل أفكارهم وآرائهم. وهذه الحالة تكررت أخيراً مع الأب يواكيم مبارك، حيث استقبل جثمانه بالترحيب والإكرام خلافاً لرغبته ووصيته، وهو الذي فضَّل الغربة على أن يكون شاهد زور على أوضاع الموارنة السيئة وجمود كنيستهم.
وللأب مبارك مع البطريركية قصة طويلة سوف نتوقف عند محطات منها. كانت عودته مناسبة لرفع الصوت في سبيل فتح أبواب ثلاثة موصدة بوجهه؛ وقد عدّدها كما يلي:
الباب الأول: التراث والهوية الأنطاكية. الباب الثاني: الإصلاح الكنسي. والباب الثالث: الزهد النسكي.
عاد إلى لبنان، ليطرح مشروعه الإصلاحي بعد أن رأى المارونية تتراجع وتتقهقر وتتدهور للأسباب التالية حسب رأيه:
أولاً، ما حل بالمارونية من جراء الحرب لا مثيل له في تاريخها. فالتهجير الذي سببته هذه الحرب يمثِّل أول تراجع للمارونية في امتدادها المتواصل من شمال سوريا إلى لبنان وإلى الأراضي المقدسة والشرق فالغرب، خصوصاً أن هذا التراجع الجغرافي يخبئ وراءه تراجعاً أكثر خطورة على صعيد الإيمان والأخلاق الخاصة والعامة.
ثانياً، لأن انتشار المارونية المستمر والمتزايد خلال الحرب أصبح خطراً في حال تمادت الهجرة وأفقدت المارونية قاعدتها اللبنانية.
وثالثاً، لأن الوضع الكنسي أصبح مهدَّداً بالفوضى على مثال الوضع السياسي والاجتماعي، إذا عدلت السلطة الكنسية عن تبنّي المشاريع الإصلاحية المنطلقة من القاعدة، ومهدَّداً بالتحجر إذا تناولت السلطة هذه المشاريع واكتفت بتدبرها سلطوياً أي بطريقة قانونية صرفة، ولم تسمح للقاعدة العلمانية منها والإكليريكية بتداولها ملياً وإبداء آرائها وتقديم مقترحاتها.
خلاصة تجربته ومسيرته، جسّدها في مشروع حياته وهو الدعوة إلى «المجمع اللبناني الثاني» ـ المجمع اللبناني الأول عقد في عام 1736 ـ على أمل أن يكون المجمع الطريق إلى الإصلاح والتجديد من أجل إحداث نهضة في الكنيسة المارونية تعيدها إلى دور الريادة بعدما رأى المارونية تتراجع وتتقهقر وتتدهور. وكان قد عضّ على الجرح والتزم الصمت طوال أربعين سنة وأكثر، مع زملاء له عملوا من أجل كنيسة البشر لا الحجر.
تبنت الرابطة الكهنوتية مشروعه، وتعاونت مع علمانيين وجامعيين وإكليريكيين من أصدقاء الخوري يواكيم مبارك وقريبين من روحانيته وفكره. وبعدما كسروا الصمت، اضطرت البطريركية المارونية إلى التجاوب مع مساعيهم وأنشأت لجنة مجمعية وسمّت الخوري يواكيم أميناً عاماً من أجل تهيئة الأجواء لعقد مجمع عام لإعادة النظر في شؤون الكنيسة، فانكبّ في صومعته في قنوبين على كتابة تطلعات الكنيسة لتحديثها، فوضع الخطوط العريضة للعمل الإصلاحي. وقد حددها كما يلي:
الخط الأول: «تتبُّع الأصالة الأنطاكية في العمق الروحاني وتجلّي الوحدة المسكونيّة في إحياء التراث السرياني الأنطاكي، لأنّ هذا العمق الروحاني الذي هو في أساس كلّ شيء في الكنيسة هو بالفعل ما يجمع إلى الآن كل العائلات الأنطاكية على تنوعها رغم اختلافاتها».
الخط الثاني: إطلاق الرسالة الإنجيلية في الشهادة والتعليم والنشر والإبداع الثقافي، لأن «الرسالة الإنجيليّة من شأنها أن تغيّر صورتنا الكنسية التي تشوهت في الحرب».
الخط الثالث: الالتزام الوطني المرتبط، «كهدف أساسي بالمسيرة المجمعية، بالرسالة الإنجيلية والتجدّد الإنساني والروحاني». «من هنا التزامنا بلبنان؛ لأن لبنان في فهمنا الماروني هو عينه في الفهم الإنجيلي وعينه في التزام جميع اللبنانيين بلبنان. والفهم الإنجيلي، الذي دائماً ما ردده على مسامعنا قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، هو الذي يحمينا من التقوقع في الطائفة المغلقة والخلط الأصولي المرفوض، وهو الذي يقتضي منا الانفتاح والمشاركة والارتباط مع الغير لنكون مثالاً عالمياً للعيش الواحد الكريم والحر».
الخط الرابع: الترقي الاجتماعي والاقتصادي، حيث يقول الأب يواكيم «إنّ الأصالة المارونيّة التي نتوخاها من مسيرتنا المجمعية لن تتمّ ما لم تسخّر كنيستنا كل طاقاتها في سبيل الترقي الاجتماعي والاقتصادي وفي سبيل الإنماء، أي ما لم تحقق كنيستنا تضامنها الفعلي مع عامة الناس، تضامناً يردّ دعوتها في الإنجيليّة إلى أصالتها الشعبيّة».
الخط الخامس: تنظيم البيت الماروني، «أي إعادة النظر في بنيتنا الكنسيّة وفي طريقة تنظيم المارونية، أنطاكياً واغترابياً، بنوع يفتح أمام كل ماروني باب المشاركة المسؤولة في الكنيسة ويضمن للسيّد البطريرك، وهو المرجع الأوّل والأخير، أمام أبنائه وأمام الكرسي الرسولي، مسؤوليته كاملة».
الموارنة الرافضة
في أعماله وكتاباته، أضاء الأب يواكيم مبارك على مشاركة الموارنة الفعالة في مجالات النهضة العربية. وهو القائل: «كان المطران جرمانوس فرحات بين حلب وروما ولبنان، أول واضع للقواعد العربية في الحداثة، أي سابقاً بأكثر من قرن، عمل أهل الشام ولبنان عندما أطلقوا الحداثة العربية في وادي النيل. وهذا هو بالفعل الحدث الأكبر الذي يجعلنا نتعرف إلى أئمة النهضة في أعمال بطرس البستاني وأحمد فارس الشدياق وخليل سركيس وأمين الريحاني وجبران خليل جبران ومي زيادة».
ويستخلص: «خصصت الموارنة بهذا العرض لأشير بوضوح إلى أن جميع الذين ذكرتهم وغيرهم كثير، هم من الأقحاح الموارنة، لأنهم من الموارنة الرافضين الإستبلشمنت الماروني... هذا إذاً البعد الثقافي الماروني الأصيل في النهضة، وهذا هو البعد الرافض في حقيقته المثالية وفي صحته الإبداعية، أي في النقد الذاتي الذي هو في أساس كل ثقافة وتلاق ونهضة».
الخوري يواكيم مبارك هو استمرار لبعد ماروني أساسي تَجسَّد في التاريخ والتراث، «هو بُعد العصيان والتمرد والرفض... فالموارنة هم أولاً وأخيراً من العصاة والرافضين والمتمردين...» حسب قوله.
ويتابع الأب يواكيم استعراض مسيرة الرفض الماروني التي تُعاكس المفاهيم السائدة فيقول: «وليس من الصحيح أن الموارنة والوا الفرنجة بالطريقة المبسطة التي تتناقلها كتابات قديمة وحديثة، فهي أقرب إلى الدعاية منها إلى التاريخ. أولاً، لأن الموارنة لم يتفقوا يوماً على شيء، وثانياً لأن حكم الموارنة في مرحلة الصليبيين حكم سائر الفئات المشرقية التي تعاملت معهم وفقاً لمصلحتها، قيادات وجماعات. وحتى في أيام المتصرفية التي يقال إنها صُنعت لحماية الأكثرية المارونية في لبنان القديم، فإني فخور بانتماء عائلي يشدني إلى حروب يوسف بك كرم، أي إلى الذي ناهض المتصرفية، لا لأهداف شخصية أو طائفية، كما يزعمون، بل لكونه لم يقبل أن يُحكم لبنان، في ظل الدول الكبرى، إلا لحاكم لبناني. والمتمرد الإهدني هذا هو الذي راسل من منفاه ذاك المنفي الجزائري الكبير في خلوته الدمشقية، وكان موضوع المراسلة بين يوسف بك كرم والأمير عبد القادر قيام مملكة عربية».
عاد الأب يواكيم إلى لبنان من أجل إصلاح الكنيسة المارونية وتجديدها، ولكن بعض غلاة الانعزالية اتهموه بأنه «عاد إلى مارونيته بعد رحلة طويلة في الإسلام والمسكونية والسياسة».
وفي الاتهام إشارة إلى غوصه بعمق وانفتاح على العالم الإسلامي، فكان مؤلفه الشهير «الخماسية الإسلامية المسيحية» الصادر في عام 1972 واهتمامه بالحوار المسيحي – الإسلامي وصداقته مع كبار رجال الدين والعلم في الإسلام، ومنهم الإمام موسى الصدر وكمال جنبلاط؛ وتبوؤه مركز مستشار ومعاون في «معهد دار الإسلام» (جامعة الأزهر) في القاهرة (1954 – 1975) كما كان يدافع عن حق الشعب الفلسطيني والقضايا العربية العادلة. ولم «يتسامح مع من ينادي بلبنان الصغير المنحصر بين نهر الموت وجسر المدفون». ورفض أن تتحول المارونية من كنيسة إلى طائفة لا يُنظر إلا في مصالح أعضائها.
ما هو مفهومه للعروبة التي رفعها إلى قضية؟
التزم يواكيم مبارك بالعروبة كقوة لقاء واتحاد تنتشر دون أي تفرقة وتمييز على مجمل العالم العربي وسكانه. فإلى المسلمين يحتاج المسيحيون لتشكيل أمة المؤمنين التي نادى بها القرآن. ويستخلص: «إنّ الالتزام الصادق بالعروبة يتطلب في آنٍ واحد تحرير المجتمعات المسيحية والإسلامية من التأثير الطائفي ومن كل آثار الأنظمة الدينية البالية، لتتطور نحو نموذج مجتمعي ديموقراطي متساوٍ، يؤمِّن للجميع الحقوق والآمال نفسها».
عذراً أبونا يواكيم مبارك، رغم مساعيك وبعد حوالى 30 سنة على غيابك، ما تزال أبواب الإصلاح والتجديد في الكنيسة المارونية غير مشرعة، وأنت الموجود في الوجدان الأنطاكي والمسكوني مغيَّب عن الحضور في الوعي العام لأبناء الرعية والجمهور المشرقي. فأين الكنيسة اليوم من دعوتك إلى الهوية الأنطاكية والتنسك والزهد وقسم كبير من رجال الدين غارق في الترف والاستهلاك والمظاهر؟
هل الكنيسة المارونية عصيّة على التطور؟
في الذكرى المئوية الأولى لولادة الخوري يواكيم مبارك نُجدد الدعوة إلى إنصافه:
أولاً، اعترفوا بدوره الرائد في الإصلاح الديني.
وثانياً، التزموا نهجه الفكري الأخلاقي التجديدي.
وأخيراً، كرّموه ولو في غيابه.
هذا النداء موجَّه أولاً إلى الكنيسة التي نذر حياته فيها وأعطاها وزنات وازنة من فكره وزهده. كما أدعو محبيه إلى تجسيد نهجه في مبادرات وأعمال تُعيد الروح إلى رسالته الأنطاكية وتجدِّد دوره في مشروع للآتي يشمل الإصلاح الكنسي، والموالفة المسيحية الإسلامية، والعلمانية المشرقية، والعروبة الحضارية.
عذراً أبونا يواكيم مبارك، أعادوك إلى كفرصغاب لأن أبواب محبيك مفتوحة لك؛ لكن أبواب الإصلاح والتجديد في الكنيسة المارونية ما تزال مقفلة.
في الختام نردد مع المطران منير خيرالله - كان الخوري آنذاك – الذي قال في ذكرى تكريم الأب مبارك عام 1996: «أبتِ قررت أن تعود إلى صومعتك الباريسية بعد محطتك اللبنانية المجمعية، لأن كنيستك لم تفهمك، إذ كنت سباقاً في فكرك ولاهوتك ونبياً يصرخ في صحراء لبنان». وتمنى أن لا يكون مصيره «مثل الأدباء والكتاب الموارنة رواد النهضة العربية الذين سبقوا عصرهم، فخرجوا من كنيستهم ولم يعودوا إليها إلا ليُدفنوا».
* مقتطف من مقدّمة الكتاب بقلم المؤلف سركيس أبو زيد
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
أضف تعليقاً