2025-04-24
Alhoukoul
هل هو انسحاب أمريكا من النظام العالمى وكيف؟

هل هو انسحاب أمريكا من النظام العالمى وكيف؟

القوة العالمية الآفلة

22-04-2025

كتب الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى / الحقول ـ القاهرة : يتواتر عدد من الشواهد فى الفترة الأخيرة, وأبرزها القرارات الأمريكية برفع معدلات التعريفة الجمركية على الواردات من العالم الخارجى خاصة من الدول ذات القدرة التنافسية المرتفعة بالمقارنة مع تلك الأمريكية، فى كل من آسيا (الصين بالذات..) وأوروبا وكذا أمريكا اللاتينية- على حدوث ما يمكن أن يطلق عليه نوع من «الانسحاب « من النظام العالمي. فإلى أى حدّ يعتبر ذلك صحيحا..؟.



ونرجو ألا يكون ذلك بمثابة «مصادرة على المطلوب» إن قلنا إننا نميل إلى مقولة «الانسحاب» تلك. على أنه نوع من عملية (الانسحاب التدريجى –المنظم وغير المنظم- من أدار الزعامة التى اعتادت أمريكا القيام بها فى النظام العالمى المعاصر لما بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى فى مطلع التسعينيات من القرن المنصرم.

ومقولة الانسحاب الأمريكى المذكور، المزعوم ربما، من النظام العالمى تتضمن عدة أبعاد:

أولا : هى عملية بمعنى أنها تتم كتيار متدفق من خطوات مختلفة، مستهدفًا إحداث تحول فى موقع أمريكا من المنظومة العالمية المعاصرة. فهى إذن ليست حالة ذات طابع (استاتيكي)، ولكنها ذات طابع (ديناميكي) عميق، متحرك و«لولبي» فى نفس الوقت.

ثانيا: أن الانسحاب المشار إليه، كمشروع، يتم، أو يفترض أن يتم، بصورة تدريجية، وليست فجائية على كل حال.ومن ثم لا نتوقع حدوث تغير (دراماتيكي) فجائي، على الدوام وإنما نتوقع خطوات مختلفة، هنا أو هنالك، بما قد يشى بنوع من التباطؤ أحيانًا. وإن بدا فى بعض اللحظات أن التغير المذكور متسارع بهذه الدرجة أو ذلك، فإن ذلك سيكون فى إطار التحول (الديناميكي)، ملموسًا أو غير ملموس أخري.

ويعود ذلك، إلى الضغوط الممارسة من خارج دائرة صنع السياسة الخارجية الأمريكية، كمدخلات من مختلف الفاعلين المؤثرين على أمريكا و من حولها، وينعكس ذلك فى ضغوط متفاوتة النوعية والقرار، من داخل النظام السياسى الأمريكى نفسه، عبر أدوار جماعات المصالح وقوى الضغط، واهتزازات التوازن القلق بين مؤسسات النظام السياسى الأمريكي، لاسيما الحكومة و الكونجرس وأجهزة ما قد يسمى (الحكومة الخفية) وغيرها. أضف إلى ذلك دور المؤسسة العسكرية ممثلة فى البنتاجون، وكذا مؤسسة الاحتكار الصناعي، أو ما أطلق عليه الرئيس الأسبق أيزنهاورفى خطاب الوادع، (المجمع الصناعى – العسكري) والذى خشى منه على حاضر ومستقبل النظام الأمريكي. كل ذلك يمارس تأثيره العميق على عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية، وعلى القائمين بها، صعودًا ونزولاً، حتى مستوى رئاسة الجمهورية وما حولها من قوى المشورة وغيرها، بما لها من الضغوط ذات الأثر الفعال.

ثالثا: مزيج من الطابع المنظم وغير المنظم :إن الانسحاب المشار إليه، وإن كان طوعيّ الطابع، إلا أنه مدفوع بقوى يصعب، إن لم يكن يستحيل مقاومتها فى المدييْن المتوسط والبعيد .

ذلك أن الاقتصاد الأمريكى بالذات، يعانى مصاعب جمة، ومشكلات ذات طابع هيكلي، خاصة من جراء النزعة الاحتكارية المهيمنة على الاقتصاد بشدة، مما يؤدى إلى ما أطلق عليه بعض المفكرين الأمريكيين من اليسار المعاصر، تآكل «الفائض» أو تدهوره من خلال التسلح المتعاظم والتدخلات العسكرية الأمريكية والحروب التى تلجأ إليها الولايات المتحدة (وآخرها حربا العراق وأفغانستان). كل ذلك يؤثر خاصة على معدلات النمو الاقتصادي، وتركزها فى جيوب احتكارية ضيقة، جنبًا إلى جنب، تآكل نسبى فى بعض مقومات القدرة الابتكارية– التكنولوجية، والضعف الملحوظ فى البنية الأساسية «للاقتصاد»، بدءا من الطرق والجسور إلى الموانيء والمطارات ومعامل البحث والتطوير المدنيةR&D .

أضف إلى هذه النقاط الداخلية للضعف الاقتصادي، ضغوط المنافسة من الخارج، خاصة من الصين، التى اجتذبت شطرا مهما من القوة الفعالة للعديد من القطاعات الديناميكية للاقتصاد، مما أثر على «القوة العاملة» فى الداخل الأمريكي. وليس ذلك من الصين فقط، ولكن من بلد مثل تايوان، التى أخذت تحتكر صناعة «الشرائح الدقيقة» إلى جانب الصين وغيرها.

هذه الجوانب الهيكلية المؤثرة على القدرة التنافسية الأمريكية على الصعيد العالمي، تجعل من الصعب على صانع ومتخذ القرار الإستراتيجى تجاهلها. ويمثل دونالد ترامب صوتًا من الأصوات الداعية إلى إعادة النظر فى حجم ومدى عمق الدور الأمريكي، دور الزعامة أو القيادة الممارس طوال ثلاثة أرباع القرن الماضى بما يؤدى إليه من تحمل عبء باهظ على ميزانيات الدفاع و مخصصات التطوير الإنتاجى للدولة الأمريكية. ولربما يكون الاقتصاد والمجتمع، والنخبة، قد بدأت تصل إلى ضرورة الانتقال بأمريكا، تدريجيًا إلى وضع «الجزيرة النائية» المؤثرة، بدلاً من وضع «النواة النووية» المحركة للاقتصاد والمجتمع العالمى ككل، على نحو ما جرى بعد 1945 وحتى الآن تقريبًأ.

رابعا: أن الانسحاب المشار إليه، كمشروع، يكون على هيئة خطوة إلى الأمام، خطوتين إلى الخلف، أى أنه مزيج من التغير المنظم وغير المنظم مما يصعب من علمية الاستشراف والتوقع والتنبؤ طويل الأجل.

خامسا: إن ذلك الانسحاب ليس انسحابًا كليا من المنظومة العالمية، ولكنه أقرب إلى الانسحاب من أدوار الزعامة الكبرى، خاصة المكلفة اقتصاديًا بدرجة عالية.

فهل يمكن أن يساعد ذلك فى تسهيل عملية التحول إلى نظام عالمى متعدد الأقطاب فى المستقبل؟ هذا ممكن، ولكن أى أقطاب تلك يا تري؟ هل هى أقطاب نزاّعة إلى الشرّ والحرب والتسلح والقتال الشرس المتبادل، أم هى أقطاب ساعية إلى «الرفاهية المشتركة»؟ أكبر الظن أنها ستكون مزيجًا من هذا وذاك، حتى يتغير العالم حقًا، إلى عالم جديد، عالم «إنسانى» حقيقي– ولكن غالبا بعد أمد بعيد!.


محمد عبدالشفيع عيسى، أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية

أستاذ الاقتصاد فى معهد التخطيط القومى ـ القاهرة ـ مصر

الثلاثاء‏، 22 نيسان‏، 2025


التعليقات (0)

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

أضف تعليقاً

يرجى إدخال الاسم
يرجى كتابة تعليق