
العرب والإتحاد الأوروبي : ماذا بعد انقلاب بروكسل على "إعلان برشلونة"
الإتحاد الأوروبي يفقد مكانته الدولية ولم يعد بوسع الساسة الأوروبيين أن يسوقوا "النموذج الأوروبي" في الدول الضعيفة، ومنها الدول العربية
كتب محرر الحقول ـ خاص / الوطن العربي : تخلى "الإتحاد الأوروبي" عن التوازنات القديمة مع الدول العربية، التي أرساها في "إعلان برشلونة" في تشرين الثاني/ نوفمبر 1995. كان "الإتحاد" فتياً حينذاك، فاقتنص فرصة قيام النظام الدولي الأحادي القطب، وسيطرة النيوليبراليين على الحكم في روسيا، لكي يحاول إقامة منظومة إقليمية عربية ـ أوروبية، تحت مسمى "الشراكة الأورو ـ متوسطية"، متفرعة من النظام الإقليمي الشرق أوسطي، الذي كانت الولايات المتحدة الأميركية تستولده من "حرب تحرير الكويت" و"مؤتمر مدريد للسلام" العربي ـ "الإسرائيلي" (1991).
بعد ثلاثة عقود على ذلك "الإعلان" صار الإتحاد الأوروبي كياناً هرماً. لقد فقد بسرعة كبيرة حيوية الدور الدولي والإقليمي. على مسرح الصراع العربي ـ الصهيوني، ظلت بروكسل حبيسة الرؤية "الإسرائيلية" للقضية الفلسطينية. لقد افتقرت الى الإرادة السياسية لإرغام "اسرائيل" على تطبيق "اتفاقية أوسلو" وإقامة "الدولة الفلسطينية" المزعومة. كما رأينا على مدى تلك العقود وإلى اليوم، تفكك السياسة العربية للإتحاد الأوروبي، وإطاحتها بـ"الإستقرار الإقليمي"، نتيجة تسامح بروكسل مع الإستيطان الصهيوني في الضفة الغربية والتساهل مع الحصار الصهيوني على قطاع غزة في فلسطين المحتلة. بالإضافة إلى التواطؤ الأورو ـ "إسرائيلي" على تهميش الدول العربية لتصبح طرفاً في نظام إقليمي يقع مركزه في "إسرائيل".
وبعد طوفان الأقصى في تشرين الأول/أوكتوبر 2023، شاركت معظم الدول الأوروبية في حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني في غزة، بالقتال المباشر أو بإمداد الجيش "الإسرائيلي" بحاجاته الحربية. لكن فشل السياسة الخارجية الأوروبية كان قد ترسخ قبل ذلك. فمنذ بداية الفوضى السياسية التي عرفت باسم "الربيع العربي" عام 2011، تخلت بروكسل بسرعة مفاجئة، عن "الشراكة الأوروـ متوسطية" التي قررها "إعلان برشلونة"، وخصوصاً ما ورد فيه عن " عدم التدخل المباشر وغير المباشر في الشؤون الداخلية للدول" المشاركة في "الإعلان".
لقد انتقل الأوروبيون من خلال حركات "الربيع العربي" إلى التدخل الديبلوماسي والأمني والحربي وبناء التحالفات الإستراتيجية والسياسية لإسقاط الحكومات بل الدول في تونس، ومصر وليبيا وسوريا واليمن والجزائر والسودان. هذه الرغبة الأوروبية في مغادرة "مسار برشلونة" مع الدول العربية أو الإنقلاب عليه، تعود إلى شدة الإرث الكولونيالي في السياسة العربية للإتحاد الأوروبي. لكنها رغبة نابعة من إلحاح المصالح الإمبريالية الأوروبية. فاستغلال "الربيع العربي" والإستثمار في قواه السياسية والإجتماعية، فتح مساراً آخر، ينتهي بتقسيم الجيوبوليتيك العربي واستضعاف دوله أو تدميرها، وهذا ما خلق الظروف المثلى التي تسعى إليها الدول الإمبريالية لتحقيق التراكم الرأسمالي من المصادر الخارجية.
وتعني الظروف الإمبريالية المثلى، حصراً، خفض كلفة نهب الموارد والأسواق في الدول الضعيفة إلى حدود الصفر. وهذا هو أول وأهم سبب للحروب المدمرة في العراق وسوريا واليمن والسودان ولبنان وفلسطين المحتلة. يُمكن أن نعثر في الأخبار اليومية في هذه الدول على الكثير من الأمثلة المناسبة. يكفي أن يتتبع أحدنا نشاط الشركات الأوروبية في قطاع الطاقة في العراق أو في ليبيا وفي لبنان، ليفهم أن ضعف أو غياب الدولة هناك، هو الظرف الأنسب لمضاعفة أرباح هذه الشركات، ولبسط النفوذ الجيوسياسي لحكومات الدول الأوروبية الكبرى.
لقد رجعت إيطاليا إلى ليبيا، الكولوني/ colonie الطليانية السابقة، بعد انهيار نظام ودولة الرئيس السابق معمر القذافي عام 2011. رغم أن رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني قد سافر في العام الذي سبق، من روما إلى مدينة سرت الليبية ليقبّل يد العقيد القذافي أثناء القمة العربية التي عُقدت فيها عام 2010. أما "فضيحة" تمويل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي حملته الإنتخابية عام 2007 بأموال ليبية فقد أوقعته في قبضة القضاء الفرنسي و"جعلت حياتي جحيماً" حسبما قال. وفي سوريا التي انهارت تحت وطأة التدخل الإمبريالي والصهيوني، باتت "فضيحة" تعاون شركة "La Farge" الفرنسية مع إرهابيي "داعش" طمعاً بالأرباح الطائلة، معروفة للجميع. والقضاء في فرنسا ادعى على هذه الشركة "العريقة" وحاكمها بتهمة تمويل الإرهاب.
لقد وُقّع "إعلان برشلونة" في ظروف دولية مؤاتية للأوروبيين. فقد استغلوا اندفاع الولايات المتحدة لبناء "النظام الإقليمي الشرق أوسطي" بنسختيه "الجديد" ثم "الكبير"، لكي يوسعوا النفوذ الأوروبي في الدول العربية، لا سيما تلك المطلة على البحر المتوسط. بل إنهم استفادوا من الهيمنة الأميركية على "النظام الدولي الجديد" الذي أعلن الرئيس جورج بوش الأب عن قيامه في عام 1991، لكي يغيروا الحدود في القارة الأوروبية نفسها. ولم يتورع الأوروبيون الإمبرياليون عن إحراق الدولة اليوغوسلافية الفدرالية وتفتيتها إلى دويلات متعددة. وقد جرى هذا التغيير تحت سقف توسيع مساحة الجيوبوليتيك الأطلسي، وبقيادة الولايات المتحدة الأميركية، لتطويق روسيا والسيطرة على مناطق نفوذها التقليدية في وسط أوروبا والبلقان وساحل بحر البلطيق، مع أنها قبلت بتوحيد ألمانيا والإنسحاب من تلك المناطق.
لقد اتسم "إعلان برشلونة" بنزعة إمبريالية صريحة. إذ تضمن شروطاً على طبيعة النظام السياسي المناسب للدول العربية. كما حمل "الإعلان" تفضيلاً للنظام الإجتماعي ـ الإقتصادي ـ السياسي الأوروبي ودعوة لتطبيقه كـ"نموذج" في الدول العربية. وهناك حملات وضغوط بل وحروب ناعمة ودامية موثقة، نظمها الأوروبيون لإرغام العرب على الإنصياع لهذه الدعوة، والتخلي عن تجربتهم في مسائل الوحدة القومية والتنمية المستقلة والتحرر الوطني التي جربتها الأمة العربية وخاضت معاركها طيلة القرن العشرين.
ما يجب الإلتفات إليه هو أن اتباع الأوروبيين هذا السلوك الإمبريالي العنصري لم يقتصر على دول العرب، وإنما شمل شعوب دول أخرى، خصوصاً في القارة الإفريقية. نحن لا نكتب في تاريخ وواقع العلاقات غير المتكافئة بين الأفارقة والأوروبيين. وإنما نذكر مثالاً من الحال الراهن. لقد تبين بعد طرد الفرنسيين من دول الساحل الثلاث، وتشكيل كونفدرالية دول الساحل وهي النيجر ومالي وبوركينا فاسو، أن النخبة السياسية الوطنية هناك، قد استدلت من خلال السياسة الخارجية الأوروبية، على فساد "النموذج الأوروبي" وتعارضه مع المصالح الوطنية لشعوب هذه الدول. لقد تم إخراج شركة "أورانو"/ Orano، وكان إسمها "اريفا"/ Areva سابقاً، من سوق التعدين في النيجر، بعدما تبين أن هذه الشركة تنهب مناجم اليورانيوم وتحرم البلاد من مداخيل مالية وموارد صناعية هائلة. كانت "أورانو" تعطي حكومة نيامي 12 في المئة من مداخيل مناجم اليورانيوم وتستولي على 88 في المئة منها. حتى أضحت الأصول المالية للشركة الفرنسية أعظم من حجم الناتج الوطني للنيجر. كما أن فرنسا باتت مصدرة للطاقة الكهربائية بفضل اليورانيوم النيجري، بينما شعب النيجر غارق في الظلام والبؤس.
لقد تصدعت السياسة الخارجية للإتحاد الأوروبي في أوروبا نفسها، وبالذات، على "مسرح الحرب الأطلسية في أوكرانيا" المستمرة منذ عام 2014. لقد أظهرت أوروبا كسلاً فظيعاً في صناعة الأمن الذاتي، وبخلاً في الإنفاق العسكري، ما خلا تلبية حاجاتها إلى التدخل العسكري في الدول العربية أو الدول الإفريقية وفي دعم "إسرائيل". ويستمر الأوروبيون بالإعتماد على الولايات المتحدة الأميركية لضمان الأمن الإستراتيجي في اوروبا وخارجها. وهذا التصدع ينتشر بسرعة، بعد فشل رهانهم على هزيمة روسيا في أوكرانيا، ونهاية القطيعة في العلاقات الروسية ـ الأميركية. وهناك إجراءات عاجلة اتخذتها فرنسا وألمانيا، وكذلك بريطانيا، لإنعاش اسواق الإنتاج العسكري وتقوية البنى العسكرية البشرية، إلا أن التعجل في هذا المسار لن يقود إلى نتائج سريعة وحاسمة على صعيد الإستراتيجية العسكرية والأمنية الأوروبية.
إن فشل السياسة الخارجية الأوروبية، يُعزى، في الأصل، إلى فشل السياسة الداخلية للإتحاد الأوروبي. يعبر عن ذلك حال القطب الإقتصادي الأول، اي ألمانيا. يرى كريستوف ب. روزنبرغ في "مجلة تمويل وتنمية" التي يصدرها صندوق النقد الدولي، نسخة 16 أيار الحالي، أن "التأمل" في حالة ألمانيا الراهنة، يقود إلى "تساؤلات حول جدوى النموذج الاقتصادي الألماني نفسه لما بعد الحرب" العالمية الثانية. ويستحق "النموذج الأوروبي" أن يُقابل بنفس التساؤلات أيضاً، طالما أن ألمانيا أصبحت "قاطرة الاتحاد الأوروبي الاقتصادية"، منذ عام معاهدة شينغن 1995.
اما فرنسا وهي القطب الأوروبي الثاني، فإن "الوضع المالي الحرج فيها، جعلها عاجزة تماماً عن ترشيد إنفاقها وعن تمرير إصلاحات ضرورية لتحسين أدائها الاقتصادي والمالي، نظراً لحدة الاستقطاب الداخلي فيها. وهناك تساؤلات مشروعة حول قدرات فرنسا على ترجمة أقوالها إلى أفعال، وعلى تمويل برامجها الدفاعية، وهناك مخاوف أوروبية من استخدام فرنسا لملفات الدفاع الأوروبي لكي تفرض سياسات تحقق مصالحها القومية الضيقة".
ختاماً، فإن الإتحاد الأوروبي يفقد مكانته الدولية، مقابل نهضة "الجنوب العالمي الكبير". ولم يعد بوسع الساسة الأوروبيين أن يسوقوا "النموذج الأوروبي" في الدول الضعيفة، ومنها الدول العربية، كما فعلوا وقت صدور "إعلان برشلونة". والسؤال الموجه إلى الدول العربية، وخصوصاً لبنان وسوريا والعراق وفلسطين المحتلة وغيرها، حيث يسيل لُعاب الشركات الأوروبية على "التهام" مواردها وأسواقها : هل من يستخلص الدروس ويرسم رؤية إلى العلاقات العربية ـ الأوروبية تستند، فعلاً، إلى الندية وإلى توازن المصالح بين ضفتي البحر المتوسط.
مركز الحقول للدراسات والنشر
الإثنين، 23 ذو القعدة، 1446 الموافق 20 أيار، 2025
التعليقات غير متاحة لهذا المقال