
الإرث الكولونيالي في التعليم اللبناني: هيمنة معرفية وظلم تاريخي
إن التحوّل نحو استخدام الحروف اللاتينية لكتابة اللغة العربية هو تآكل ثقافي يزيد من حدّة التفاوت اللغوي. إن هيمنة اللغات الأوروبية تعزز الهيمنة الثقافية والفكرية الغربية وتنتج «عقلية مستعمرة»، و«ظلماً معرفياً».
كتبت الدكتورة تاليا عراوي ـ الحقول / بيروت : لطالما سعت القوى الإمبريالية لتقديم نفسها كقوى تحرير وتنوير، لكن الواقع غالباً ما يكشف عن استمرار آليات الهيمنة بأشكال متجددة. في لبنان، لا يزال النظام التعليمي يعاني من إرث استعماري/ colonial عميق، لا يقتصر تأثيره على الجوانب السياسية والاقتصادية، بل يتغلغل في بنية المعرفة ذاتها، مشكّلاً تصوراتنا عن التاريخ والهوية. تسعى هذه المقالة لتسليط الضوء على هذه البنية المعرفية الاستعمارية، مفترضةً أن هيمنة الروايات الغربية وتهميش التواريخ المحلية في المناهج اللبنانية تعيد إنتاج هذا الإرث، وتؤدي إلى ما يمكن تسميته «بالظلم المعرفي». هذا الظلم يتجاوز مجرد غياب المعلومات ليشوّه آليات إنتاج المعرفة، مستبعداً أصواتاً ووجهات نظر ضرورية لهويتنا الوطنية.
ديناميكيات القوة الاستعمارية وتأثيرها على المناهج
بالاستناد إلى رؤى إدوارد سعيد النقدية، يمكننا تحليل كيفية إعادة إنتاج ديناميكيات القوة الاستعمارية في التعليم اللبناني، خصوصاً في مواد مثل التاريخ والأدب واللغة، فكما بيّن سعيد في «الاستشراق»، لم يكن «الشرق» كياناً جغرافياً فحسب، بل «اختراعاً أوروبياً» خدم أغراضاً استعمارية. هذا «الاختراع» رسّخ علاقة هرمية، صورت المستعمِر متقدماً والمستعمَر متخلّفاً. هذه العلاقة، كما أشار سعيد أيضاً في «الثقافة والإمبريالية»، لم تقتصر على القوة العسكرية والاقتصادية، بل امتدت لتشمل الثقافة والأنظمة التعليمية التي بررت التوسّع الإمبريالي.
إن وجود أعمال أدبية غربية مثل رواية «روبنسون كروزو» في المناهج اللبنانية خير دليل على استمرار هذه الآليات. فخلف قصة المغامرات، تتجلّى أيديولوجية استعمارية واضحة: الأوروبي «المتحضر» يخضع الطبيعة والسكان الأصليين (مثل «فرايدي»)، مبرراً التوسّع باسم «التقدم» و«جلب الحضارة». هذه الرواية تكرّس فكرة التفوّق الأوروبي، وتؤثر عميقاً في وعي الطلاب اللبنانيين تجاه أنفسهم ومكانتهم.
يزداد الأمر تعقيداً مع التصور السائد في لبنان بأن الشهادات والمناهج الغربية أفضل من الوطنية، مما يدفع الطلاب للتخلّي عن البرنامج الوطني. كما أن السماح للطلاب ذوي الجنسية المزدوجة بالانسحاب من دروس اللغة العربية يعزز الانفصال عن التراث الثقافي.
طمس التاريخ وتشويه الوعي
تكشف نظرة سريعة على المناهج الدراسية هيمنة الروايات الأوروبية لأحداث مثل سايكس بيكو ووعد بلفور، بينما يتم تهميش تواريخ حاسمة مثل تجريد الفلسطيني من ممتلكاته، والاستعمار الفرنسي والبريطاني، وقمع حركات التحرر. فبدلاً من فهم الانتداب الفرنسي كفترة هيمنة، يتم تقديمه كمهمة حضارية، مع تجاهل قمع الانتفاضات المحلية.
وبالمثل، يتم التقليل من شأن وعد بلفور وتداعياته، بينما تعطى الأولوية لروايات المجازر ضد اليهود دون سياق كافٍ حول تشريد الفلسطينيين. هذا التعتيم يعيق فهم الطلاب لتاريخهم ويكرّس صورة مشوّهة للماضي.
كمثال، يجهل العديد من طلاب الجامعات مجازر صبرا وشاتيلا، وهو ما يعكس «نموذج التعليم المصرفي» «banking concept of education» الذي انتقده فريري، حيث يكون الطلاب متلقّين سلبيين للمعرفة. ويمتدّ هذا الانتقاء إلى الأدب، حيث تستبعد أعمال الكتاب العرب الذين يقدمون روايات مضادة.
الظل الاستعماري في التعليم العالي والطب
لا يقتصر هذا الظل الاستعماري على المدارس، بل يلقي بظلاله على الدراسات الجامعية أيضاً، خاصة في التعليم الطبي بلبنان. فالنماذج التعليمية الاستعمارية تقدّم نظرة مشوّهة للصحة لا تتناسب مع واقع العنف الدائم. بينما تُناقش فظائع الأطباء النازيين في المناهج، يغيب إدراج فظائع مماثلة ضد العرب، مثل قتل المرضى وتدمير المستشفيات وأخذ الأعضاء من السجناء. لقد أصبحت الحرب حالة مستوطنة تفكك النسيج الاجتماعي وتنتج النزوح والمعاناة، لكن المؤسسات الطبية غير مستعدة لمواجهة هذه الحقائق، وتتجاهل مناهجها تحديات البيئات التي مزّقتها الحرب، وتركّز على الأمراض الفردية بدلاً من صحة المجتمع، مما يكشف عن فشل في فهم الترابط الإنساني.
يكمن الخلل في المركزية الأوروبية للمعرفة الطبية، والتركيز على المرض الفردي، وإهمال المحددات الاجتماعية للصحة، وديناميات القوة الهرمية، والافتقار إلى منظور نقدي لدور الطب في الاستعمار. تؤدي هذه التركة إلى عدم كفاية الاستعداد لقضايا الصحة المتعلقة بالنزاعات، وهجرة الأدمغة، والانفصال بين مقدمي الرعاية الصحية والمجتمعات. يتطلب إلغاء استعمار المناهج الطبية دمج المعرفة المحلية، واعتماد نهج شمولي للصحة، وتعزيز التفكير النقدي، والتركيز على الاحتياجات المحلية.
إن مقياس النجاح في كليات الطب، القائم على عدد الأطباء العاملين في الغرب وتخصصاتهم، يجسّد نظرة اختزالية للطب ويحوّله إلى سلعة. إن هجرة الأطباء تعيق تطوير الرعاية الصحية في العالم العربي. إن الدعوة إلى ممارسة الطب في المناطق المحتاجة هي دعوة لإعادة تعريف النجاح في الطب واستعادة أبعاده الإنسانية والأخلاقية.
التآكل الثقافي والواجب الأخلاقي
إن التحوّل نحو استخدام الحروف اللاتينية لكتابة اللغة العربية هو تآكل ثقافي يمحو جمال الخط العربي ويزيد من حدّة التفاوت اللغوي. إن هيمنة اللغات الأوروبية تعزز الهيمنة الثقافية والفكرية الغربية وتنتج «عقلية مستعمرة»، و«ظلماً معرفياً» بأشكاله المختلفة، مما يمنع سماع أصوات المهمّشين ويعيق فهماً متعدد الأوجه للتاريخ.
للأسف نرى ذلك كثيراً في الإعلانات وفي محادثات الـ«واتساب»، حيث تُستخدم الحروف اللاتينية لكتابة اللغة العربية.
يشكّل هذا الوضع عنفاً معرفياً وجودياً يفصل المستعمَر عن تاريخه ويقوض هويته وقدرته على تحديد مصيره. إنه هدم منهجي للروايات التأسيسية للماضي، وسلب اللهوية، وإجهاض لمستقبل أصيل. هذا العبث بالذاكرة الجماعية هو أداة من أدوات الهيمنة الاستعمارية. لا سبيل لتربية جيل متمكّن إلّا بتحرير المعرفة من براثن الاستعمار.
إن قضية تحرير المناهج الدراسية متشابكة مع القيم الأخلاقية والدينية في جوانب العدل والمساواة، واحترام الهوية والكرامة الإنسانية، والأمانة الأكاديمية، والوحدة والتسامح، والمسؤولية تجاه الأجيال القادمة. إن إدامة الإرث الاستعماري في التعليم يحرم الأجيال القادمة من فهم حقيقي لتاريخهم ويعيق قدرتهم على بناء مستقبل أفضل وأكثر عدلاً واستقلالية.
إن تحرير المناهج الدراسية واجب أخلاقي وديني لضمان حصول الطلاب على تعليم شامل وعادل يحترم هويتهم ويعزز قيم العدل والتسامح والوحدة.
د. تاليا عراوي، كاتبة واخصائية في الأخلاقيات
المقال منشور في جريدة اللواء، يوم الثلاثاء، 22 تموز/يوليو 2025
(ملاحظة المحرر : نؤكد على أن كلمة الإستعمار لا تعطي ترجمة صحيحة لكلمة Colonialism . فالكولونيالية، تعني مرحلة الإحتلال العسكري الإستيطاني الذي أتته الدول الأوروبية في الدول والبلاد الإفريقية ـ الآسيوية والأوسيانية أيضاً، بفضل الثورة الصناعية. حيث استطاعت أن تكبل تلك الدول بقيود الهيمنة الإجتماعية ـ الإقتصادية والسياسية والثقافية، في سياق تأسيس النظام الرأسمالي الدولي. ونحن نفضل استخدام كلمة الكولونيالية كما هي في اللفظ اللاتيني وبهذا المعنى التاريخي، مثلما نستعمل كلمة الإمبريالية، أو الإستراتيجية أو التكتيك ألخ. إن كلمة استعمار مشتقة من عمر وعمران وعمارة. وهذا اشتقاق يتنافى مع المعنى الفعلي للكولونيالية).
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
أضف تعليقاً