
واشنطن تفترس حلفاءها بِرِضَاهُم : "تناقضات الرأسماليين أنفسهم"؟!
إن مقولة "التناقض بين الرأسماليين أنفسهم" هي اشبه ما تكون بـ"الشرط النظري" الضروري لفهم "الوضع العالمي" الراهن
كتب الأستاذ علي نصار / خاص ـ الحقول/ بيروت : تتعدد ملفات الحرب التجارية الناشبة بين الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية. وهي تبدأ بالحديد والصلب ولا تنتهي بتكنولوجيا الذكاء الإصطناعي. إن كل ملف هو جبهة مفتوحة. أما الحرب نفسها، فإنها عملية تكييف شاملة، تعيد احتواء اقتصاد أوروبا وأمنها في ما يسميه تشومسكي، "النظام الدولي الأميركي" المهيمن على دول الغرب.
وتقارن هذه العملية بنظام الإندماج الإقتصادي ـ المالي (مشروع مارشال) ومنظومة الأمن السياسي والعسكري (حلف شمال الأطلسي/ "ناتو")، الذي فرضه الأميركيون على اوروبا، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية. التي توقفت، منذئذٍ، عن "الإعتماد على الذات" في المجالين الإقتصادي والعسكري، بعدما حررتها الجيوش الأميركية، وكذلك، بل أساساً جيوش روسيا السوفياتية، من هيمنة جيوش الرأسمالية الإمبريالية الألمانية، وضمتها إلى مناطق نفوذها.
يمكن أن تكون الـ Trumpism /"الترامبية" قد أججت الحرب التجارية بين "الحلفاء" على ضفتي المحيط الأطلسي. الأورو ـ اميركية. لكن تراكم عواملها، يرجع إلى نهاية "الحرب الباردة". فالـ"المشروع الأوروبي"، كان طموحاً في بعض مراحله ـ خصوصاً بعد توحيد ألمانيا عام 1990 ـ إلى حد "معاكسته" الهيمنة الأميركية، التي "قادت" ازدهار واستقرار دول القارة العجوز، إبان الصراع الرأسمالي ـ الإشتراكي بين واشنطن وموسكو، الذي امتد إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
وما يجدر بنا إدراكه، هو أن عملية إعادة احتواء "دولة الإتحاد الأوروبي" الجارية، راهناً، ضمن "النظام" المذكور، تمتد طيلة عهود حكم "حزب السلطة" الأميركية بفرعيه "الجمهوري" و"الديموقراطي". إذ يتفق كلاهما، على وجوب بقاء القوى الأوروبية قاصرة عن امتلاك مقومات الأمن الأوروبي المستقل. وهذا القصور يسبق، بالطبع، انفجار "المسألة الأوكرانية" عام 2022، ومن ثم تفجير شبكة الطاقة الرخيصة (نورد ستريم 1 ونورد ستريم 2) التي كانت تربط السوق الروسية بالأسواق الأوروبية، لا سيما السوق الألمانية.
والأمثلة على القصور الأوروبي متعددة. في إحدى دورات "مؤتمر ميونيخ للأمن"، قبل نحو عقدين، وضع دونالد رامسفيلد، وزير دفاع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن (جورج المخمور)، "فيتو" على مشروع إنتاج طائرة نقل عسكرية أوروبية ثقيلة وأحبطه في مهده. في وقت لاحق، منعت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، الحكومة الإيطالية من اقتراض المال من الصين.
مؤدى ذلك، أن إعادة إحتواء أوروبا في دائرة النفوذ الأميركي، اليوم، تلبي حاجة أميركا إلى الإحتفاظ باحتكار "صناعة الحرب والأمن"، و"صناعة الطاقة" و"صناعة التكنولوجيا العالية" و"صناعة الفضاء" إضافة إلى "صناعة الدولار"، التي تديرها حكومة واشنطن دون مضارع في الخارج. ولذلك، نُعرِّف القصور الأوروبي في هذه "الصناعات"، بأنه قصور دولتي. من أبرز نتائجه في النظام الإنتقالي الدولي الحالي، تشديد الهيمنة الأميركية على دول التحالف الأطلسي، بما في ذلك حرمانهم من الدعم الحاسم، الذي يرومونه في الملفات الجيوبوليتيكية المتفجرة أو المتحركة التي يواجهونها.
لقد وصلت المسيرات التائهة من أوكرانيا إلى بولندا، منذ أسبوعين، وأغلقت المطارات فيها. ولم تحصل بروكسل ووارسو، إلا على الدعم الكلامي من واشنطن، مشفوعاً ببيان تأييد من الأمم المتحدة لم توقعه إلا 47 دولة من بين 192 دولة عضواً فيها. أما "اقتراح ضم جزيرة غرينلاند" إلى السيادة الأميركية، الذي قدمه الرئيس دونالد ترامب إلى مملكة الدانمارك، فلم يلق صداً "وجودياً" من الإتحاد الأوروبي، كما هو مفترض. على كل حال، اقتراح ترامب ليس مفاجئاً. فوزارة الخارجية في عهد الرئيس الأميركي السابق أندرو جونسون (1808 ـ 1875)، أصدرت تقريراً عام 1867، يشرح الأهمية الاستراتيجية لجزيرة غرينلاند ذات الموارد الواعدة، وأن استحواذ الولايات المتحدة عليها يتناسب مع مصالحها القومية.
هذه المصالح كانت في مرحلة النظام الدولي الأحادي القطب السابق، تعلو، دائماً، على مصالح الإتحاد الأوروبي، رغم اجتماعهما معاً في إطار "التحالف الأطلسي". لكن مع اضطراد المرحلة الإنتقالية في النظام الدولي الراهن، نحو عالم متعدد الأقطاب، باشرت واشنطن بافتراس دول هذا "التحالف" منفردة ومجتمعة. وهذا أمر ملحوظ. فـ"الترامبية" كمذهب قومي أميركي، تبتغي إدارة الأزمة العامة للنظام الرأسمالي الإمبريالي على حساب دول "الحلفاء" الإمبرياليين وما تحت الإمبريالية. حتى أن الإفتراس الأميركي للأوروبيين، صار إحدى سمات هذه المرحلة التاريخية الخطيرة في السياسة الدولية.
تصوروا كيف كان لدولة أوروبية مثل بلجيكا، ألا تنقسم إلى دولتين أو ثلاثة من دون الحماية الأميركية. كذلك، كندا وإسبانيا. وإذا عدنا بالذاكرة إلى لحظة ولادة النظام العالمي الأحادي القطب، فمن بعد "اختفاء" تشيكوسلوفاكيا، جرى تفكيك دولة يوغوسلافيا السابقة، بإرادة أوروبية سامية، وتحديداً ألمانيا والفاتيكان. لكن الخارطة النهائية التي أرادتها واشنطن، هي التي تحققت، بالفعل.
لقد حسم الأميركيون بتدخلهم الحربي الكاسح ضد صربيا، عام 1999، مصير هذه الخريطة الجيوبوليتيكة الجديدة. حينما رسموا بأقدام جنودهم جيوبوليتيك دويلات ما بعد يوغوسلافيا، في البلقان. وحتى السيلان الجيوبوليتيكي المتمثل باضطراب خرائط مولدوفا، وأوكرانيا، فإنه ما زال معلقاً بالإرادة الأميركية لا الإرادة الأوروبية، وهو ما أكدته مباحثات قمة آلاسكا الأميركية ـ الروسية في منتصف شهر آب الماضي.
إن حالة الإفتراس التي تمارسها الولايات المتحدة، قد استعرت مع "الترامبية"، التي تتجلى في إدارة الرئيس دونالد ترامب، وفي تيار MAGA القومي الأبيض. وهذه الحالة العدائية لـ"الحلفاء" تتولد من حاجة أميركا إلى تعويض القدرات الدولتية والإستراتيجية التي خسرتها، بفعل تناقضات النظام الرأسمالي الأميركي والدولي نفسه، وتدهور المكانة العالمية للولايات المتحدة الأميركية أمام الدول الأوراسية الكبرى وتحالفاتها.
وتَجِدُّ أميركا "الترامبية" في إضعاف أوروبا والسيطرة على اقتصادها. وبهذا الإندفاع الجيواستراتيجي، الذي لا يقيم وزناً لمصالح "الحلفاء" في القارة العجوز، تستدعي إدارة ترامب الرأسمال الأوروبي، مخفوراً، للخدمة في أسواق الولايات المتحدة الأميركية. باستخدام أدوات مختلفة وصنوف معينة من القوة، من بينها "حرب الرسوم الجمركية".
فما أشبه ما يجري اليوم على ضفتي الأطلسي بالبارحة. إن الإقتصاد السياسي الأوروـ أميركي، يشهد نوعاً من الإندماج أو إعادة الإندماج الرأسمالي بالقوة والإكراه. ويكشف تحليل الإتفاقات الأوروبية ـ الأميركية، جملة ووحداناً، عن "سخرة" إقتصادية أوروبية، لصالح الشركات الأميركية العملاقة في القطاعين المدني والعسكري. وهذه "السخرة" تتيح انتقال الفائض في حوض الأطلسي من الشرق إلى الغرب.
وعلى الذين يرون رأياً مغايراً، أن يفسروا، مثلاً، سبب "رضى" ألمانيا ودول أوروبية أخرى، بشراء الغاز الأميركي المسال بأسعار غير اقتصادية، وصمتهم عن تفاقم أزمة الطاقة وعن ركود الإقتصاد الأوروبي. فهذا "الرضى" الذليل، الذي يقارب حدود الإخضاع، يبين أن افتراس الرأسمالي الأميركي للرأسمالي الأوروبي ينطوي على سلب الإرادة السياسية للقيادة الأوروبية المتمركزة في بروكسل.
ينجم عن عملية التكييف القسري التي تديرها أميركا للإقتصاد السياسي الأوروبي، كاريكاتورية السياسة الخارجية للإتحاد الأوروبي. لقد أتت قمة آلاسكا بأدلة كاشفة. فمن بعد اختتامها، بايام قليلة، قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، استضافة "فيديوكونفرانس"، جمع فيه قادة بريطانيا، وألمانيا، وإيطاليا، وثلاثة آخرين أقل شأناً، بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، بالإضافة إلى رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي/ "ناتو" مارك روته.
كان الهدف الأساسي لهذا "الكونفرنس الأطلسي" إقناع الرئيس ترامب بـ"التنسيق" مع "تحالف الراغبين"، في شأن التفاهمات التي عقدها مع نظيره الروسي، خصوصاً حول أوكرانيا في قمة آلاسكا. فيما كان من واجبهم، من منظور المصالح الأوروبية، أن يضغطوا عليه للكف عن إصراره على إضعاف الإقتصاد وارتهان السياسة في الإتحاد الأوروبي لمخططات إدارته.
ولم يكن هذا "الفيديوكونفرانس" ليخفي كاريكاتورية الصورة الأوروبية. إذ تناقل الإعلام، بعد نحو أسبوعين، خبر الحادثة التي وقعت مع فوندرلاين أثناء سفرها إلى بلغاريا. فقد طرأ عطل على جهاز تحديد المواقع العالمي (GPS) في الطائرة التي أقلتها، وضاع مسار الطيران، فلجأ الطيارون إلى الخرائط الورقية لاستبيان سمت الهبوط. وقد هبطت المسؤولة الأوروبية، بالفعل، إنما في مدينة بلغارية أخرى على البحر الأسود.
أطلقت فوندرلاين تصريحاً عن "مؤامرة روسية" كمنت وراء تلك الحادثة. أما في واقع الأمر، فكان عليها أن تنظر إلى افتقار قيادة الإتحاد الأوروبي للإحتراف السياسي والديبلوماسي في مواجهة الإحتواء الأميركي. فالساسة والموظفون الأوروبيون كانوا يكثرون من الثرثرة الفارغة حول "الخطر الروسي" وأحياناً حول "الخطر الصيني" أو "الخطر الإسلامي" من إيران أو حتى تركيا. وفي الوقت ذاته، كانوا يغدقون المساعدات العسكرية والمالية على أوكرانيا خدمة لسياسة إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن (جو النعسان). وحينما قرر خلفه ترامب جباية ثمن هذه "المساعدات" من حكومات دول "تحالف الراغبين"، انصاع قادة هذا "التحالف" الخائب، بكل طواعية.
لا نتحدث هنا عن تهديد أو تجاهل القادة الأوروبيين للمصالح الحيوية لموسكو أو بكين أو طهران ولا حتى أنقرة. بل نتحدث عن تجاهلهم للمصالح الحيوية لشعوبهم ولدولهم. إن لجوء الساسة الأوروبيين إلى التسلح الجامح لوقف التدهور الأوروبي الداخلي والخارجي، هو رهان أرعن وأحمق. لأن الإتحاد الأوروبي تعوزه قدرات الإنتاج العسكري، كما يشكو من عجز مالي فادح يمنعه من تمويل هذا الإنتاج. إلا اذا مضت البيروقراطية الأوروبية في الضغط على الموازنات العامة، وقبلت بتدني مستوى المعيشة وبتفشي الإضطراب السياسي في "الديموقراطيات الأوروبية".
لقد انشغل اليساريون في زمن "الحرب الباردة" بتحليل تناقضات النظام الرأسمالي العالمي، وكان أحدها هو "التناقض بين الرأسماليين أنفسهم". وهذه مقولة نظرية مجردة، تتجلى، الآن، في كل مظاهر "الحرب التجارية" الراهنة بين الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، وهي، كما قلنا، عملية افتراس الرأسماليين الإمبرياليين الأميركان للراسماليين الإمبرياليين الأوروبيين.
فما تفعله واشنطن هو تجاهل مصالح الشعوب الأوروبية. فيما يصبح من المنطقي أن تتولى الرئيسة فوندرلاين حماية هذه المصالح والعناية برفاه الشعوب الأوروبية. فلا تتخذ القرارات الإستراتيجية على أساس القواعد الأيديولوجية للنخب الليبرالية البالية. بل تستهدي بالمغزى الواقعي لهذه المقولة.
إن مقولة "التناقض بين الرأسماليين أنفسهم" هي اشبه ما تكون بـ"الشرط النظري" الضروري لفهم "الوضع العالمي" الراهن. والطريف أنه حتى الحكومات العربية قد تدرك قيمة وأهمية هذا "الشرط" وتعيره "أذناً واعية"، بخلاف الحكومة الأوروبية في بروكسل. وقد ظهر هذا الإدراك في اتفاق الدفاع المشترك بين المملكة العربية السعودية وباكستان، الذي وقع منذ أيام.
إن هذا الإتفاق هو درس بليغ للرئيسة فوندرلاين، التي لا تزال أسيرة الأيديولوجية الليبرالية التي جعلتها تسير في ركاب إدارة بايدن بشكل أعمى. والتفسخ الأوروبي البائس، الذي نجم عن هذا "الديبلوماسية الأيديولوجية"، سيغدو أقسى وأظلم على جمهور الناخبين، إن لم تتجرأ بروكسل على التصدي للإفتراس الرأسمالي الأميركي ...
علي نصَّار
مدير موقع الحقول
الإثنين، 30 ربيع الأول، 1447 الموافق 22 أيلول، 2025
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
أضف تعليقاً