2025-09-15
Alhoukoul
بعد

بعد "رسالة أوجلان" : نظرة عربية إلى آفاق العلاقة التركية ـ الكردية (1 ـ 2)

تركيا والأكراد: انهيار التسويات وغياب الحلول

14-09-2025

كتب علي نصَّار/ خاص ـ الحقول / بيروت : يوضح عبد الله أوجلان أن الرسالة الموسعة التي وجهها يوم 9 تموز/يوليو المنصرم، إلى رفاقه في "حركة حزب العمال الكردستاني" ترسم لهم "طريقاً لحل الأزمات التي باتت تعيشها الحركة في الوضع الحالي". والطريق الجديدة، كما عرضت في الرسالة المصورة، التي تلاها أوجلان بنفسه، تقطع بين مرحلة "استراتيجية حرب التحرر القومي، لتأسيس دولة كردية مستقلة"، وبين مرحلة "استراتيجية السلام والمجتمع الديمقراطي".


حيرة الأكراد : من الإنفصال إلى الإندماج

شجع أوجلان في رسالته أكراد تركيا على الإنتقال إلى "السياسة الديمقراطية" فيها، لأنه يأخذهم إلى "مرحلة تحديد مصير". وهو، يرى أنها ستبدأ "بتشكيل لجنة واسعة ومسؤولة داخل البرلمان التركي، من أجل نزع السلاح [الكردي] بشكل طوعي وفي إطار قانوني. وهذه الخطوة الحساسة، لا بد ان تكون بعيدة عن المنطق الضيق، وهي بادرة حسن نية، لفتح أبواب جديدة [مع الحكومة التركية] واتخاذ خطوات عملية واضحة [من جانبها]".

ويؤلف "الحل الإندماجي" في الدولة التركية محور رسالة أوجلان إلى أنصاره. فهو يقول : إن "تحقيق هدف السلام والمجتمع الديمقراطي، لا يتحقق إلا بتبني منظور اندماجي إيجابي". ويضيف أنه : "بناء على ما سبق، نستنتج أن حزب العمال الكردستاني قد تخلى عن هدف بناء الدولة القومية [الكردية]، وبالتالي تخلى عن الحرب، أي حل نفسه. وفي المرحلة التاريخية الراهنة، هناك آمال بتحقيق المزيد من التقدم".

ولكن بلوغ هذا "الحل" بقي غامضاً، بحسب صاحب الرسالة. حيث أنه يلفت بمعنى تحذيري إلى أنه "لجعل عمل اللجنة [النيابية] والمجلس [النيابي التركي] ذي معنى، وإزالة مخاوف الرأي العام [الكردي]، في إطار الإيفاء بالوعود التي التزمنا بها [أمام السلطة التركية]، ينبغي أن يُرَحّب بنزع سلاحكم من قبل الجهات [التركية] المعنية". ثم يذكّر بأن "إنشاءآلية إلقاء السلاح ستسهم في تحقيق تقدم في عملية انتهاء الكفاح المسلح [الكردي] بشكل طوعي، والإنتقال إلى المرحلة القانونية والسياسة الديمقراطية".

حاول أوجلان أن يترك انطباعاً سياسياً مغايراً، بأن مضمون رسالته "لا يعني الهزيمة". فاستطرد قائلاً : "على العكس، يجب تقييمها على أنها انتصار تاريخي"، ثم كرر بأن "إلقاء السلاح، سيتم بتحديد الطرق المناسبة، والقيام بخطوات عملية سريعة". إذ أن "حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، المستظل بالبرلمان التركي، سيقوم مع الأحزاب الأخرى فيه، بتحمل جميع المسؤوليات التي تقع على عاتقه لإنجاح هذه المرحلة" الجديدة.          

وبالفعل، فمنذ نحو شهر، أعلن نعمان كورتولموش، رئيس البرلمان التركي، وهو شخصية بارزة حزب العدالة والتنمية الحاكم، عن دعوة أحزاب البرلمان إلى ترشيح أعضاء للجنة جديدة مؤلفة من 51 شخصاً تهدف إلى بناء ما تسمّيه الحكومة "تركيا خالية من الإرهاب". وستركز هذه اللجنة على "الإصلاحات" الدستورية والقانونية التي ستمنح الأكراد اعترافاً دستورياً أو قانونياً، وتؤدي إلى إخراج ممثليهم المسجونين.

لكن "الإصلاحات" العتيدة التي يجب ان "تصان بقانون شامل"، حسبما قال أوجلان، يتوقع أن تجابه بتشرذم المشهد السياسي التركي الحالي، برأي المحلل في موقع المونيتور بارين كايا أوغلو، الذي يرجح ألا يكون التقدّم في صدور هذا القانون، سريعاً ولا مضموناً. وهذا التشاؤم لا ينجم عن مساحة الغموض في الإتفاق التركي ـ الكردي الذي أعلن عن اوجلان، ومدى تأثيره على تفسير الإتفاق وتطبيقه وحسب، وإنما لاختلاف مقاصد كل طرف فيه، من وراء هذه "الإصلاحات".


حيرة الأتراك : الجيوبوليتيك حاكم ...

هددت الحركة الكردية المسلحة الإنفصالية بقيادة أوجلان استقرار الجيوبولتيك التركي، منذ بروزها، قبل نصف قرن. فقد امتدت فعاليتها من أطراف الدولة إلى المدن وحتى قلب العاصمة. ومع العلم بأن التحدي الجيوبوليتيكي الكردي، متلازم، مع ظهور كيان تركيا الحديثة على أنقاض دولة آل عثمان بعد الحرب العالمية الأولى. ولذلك، يجب أن نسأل عن فرص تطبيق صيغة "الحل الإندماجي" الواردة في رسالة أوجلان، مع "حل الحزب" و"نزع السلاح" منه. وما إذا كان التحدي الذي أقلق الدولة التركية أمنياً و(شبه) عسكرياً في الداخل، بسبب "استراتيجية التحرر القومي" التي مشى بها "العمال الكردستاني"، آيل، فعلاً، إلى التلاشي.

انبثق هذا السؤال في اللحظات الأولى على نشر رسالة أوجلان. كان إحراق عناصر "العمال الكردستاني" لبعض الأسلحة الفردية، هو أول "إعلان كردي" عن بدء العمل بالخط الأوجلاني الجديد. وتم ذلك في "احتفال" سياسي ـ إعلامي في "كهف جاسانا" بجبال قنديل، في العراق، التي تحد تركيا من الغرب وإيران من الشرق. وهذا الموقع الجغرافي ينبهنا إلى أن "الإحتفال"، الذي أشرفت الإستخبارات التركية على تنظيمه، قد جرى في دولة جوار، وليس على الأراضي التركية نفسها، ما وسمه بدلالة جيوبوليتيكة مميزة، تتجاوز الماضي والحاضر لتؤشر على طبيعة التحدي الكردي أمام تركيا ومستقبله.

كان المسؤولون الأتراك قد توالوا على "تفسير" رسالة أوجلان، بعد يومين، من "احتفال جاسانا" الذي حضره مئات المدعوين. الرئيس رجب طيب أردوغان جمع رجاله في "حزب العدالة والتنمية" الحاكم، وقال لهم : "لقد انتصرت تركيا، نحن نعرف ما نقوم به، فلا داعي للقلق أو التساؤل. كل ما نفعله هو من أجل تركيا ومستقبلها"، كما تحدث عن بداية جديدة نحو تحقيق هدف "تركيا خالية من الإرهاب". ثم كرر هذا التقييم الرسمي، عمر تشليك، المتحدث باسم هذا الحزب "الإخواني"، إذ صرح بأن "قرار [أوجلان باعتماد "الخيار الإندماجي" وبحل الحزب ونزع سلاحه] يشكّل مرحلة مهمّة نحو تركيا بلا إرهاب". كذلك، أدلى وزير الخارجية حقان فيدان بتصريحات مماثلة.

ولا نغفل عن الجانب المقابل. حيث ابدى سياسيون أكراد "مشاعر انتصارية" مماثلة، في تقييم هذه الإنعطافة السياسية والأيديولوجية في مسار الحركة الكردية المسلحة في تركيا. إذ رأوا أن صيغة أوجلان هي "لحظة مفصلية في تاريخ الشعب الكردي، ليس في تركيا وحسب، بل في عموم الشرق الأوسط، من إيران وسوريا إلى تجربة إقليم كردستان في العراق"، وقالوا "إنها دعوة للتحول من الحرب إلى الشراكة، من الانقسام إلى التعدد، ومن القهر إلى المشاركة الديمقراطية". وهذا "التفاؤل الكردي"، تولد، أسوة بـ"التفاؤل التركي" من الوقع الصادم لـ"فوران الجيوبوليتيك" على "عقولهم الإستراتيجية" و"نظرهم" إلى مستقبل الدول أو المناطق المذكورة. 

لكن مدة الإحساس بنشوة "النصر" تبدو قصيرة. أولاً وثانياً، بفعل المشهد السياسي الداخلي، وانطلاق عملية نزع السلاح من اراضي دولة مجاورة. لكن ثمة سبب ثالث، يضاف إليهما، ورد في رسالة أوجلان نفسه. حيث يلاحظ أن مبرر دعوته لتنفيذ مضمون رسالته، وما وصفه بـ"النداء التاريخي" الذي أصدره قبلها في 27 شباط / فبراير الماضي، كان "التطورات التي تحدث في المنطقة، في الأيام الأخيرة". ما يرجح أن تكون صيغة "الحل الإندماجي" للأكراد الأتراك الذي يفترض أن أنقرة و"قيادة قنديل" قد بدأتا بتطبيقها، لا تحرر تركيا، بل تشدد تعلق المصير التركي إلى الديناميات الجيوبوليتيكية الجديدة، التي تتوالد بسرعة في بلاد الشام والعراق، كما مصير الحركة الكردية الإنفصالية في تركيا وإيران وسوريا وفي العراق أيضاً.



اتجاهات مغايرة للحسابات ؟!

والآن، بعد اسابيع من رسالة أوجلان، قد لا نبالغ إذا قلنا أن نشوة "النصر" التي أحس بها أركان النظام السياسي التركي في مواجهة أكراد تركيا، وكذلك، الساسة الأكراد، تبدد بسرعة أو ربما تكون قد زالت. لأنه بعد هذه المدة القليلة على اتخاذ القرار الكردي ـ التركي بحل "العمال الكردستاني" ونزع سلاحه، ظهر للعيان أن "فوران الجيوبوليتيك" لم يدفع الدور الإقليمي لتركيا الأردوغانية، بقدر ما عزز الحسابات الكردية الإنفصالية، مع تحرك الواقع الإقليمي في اتجاهين رئيسيين :

ـ الإتجاه الأول، في بلاد الشام، حيث اصطدمت تركيا، التي لعبت دوراً حاسما في تدمير "سوريا المستقلة"، بعقبات صلبة قلصت دورها وطموحاتها في السيطرة على جيوبولتيك "سوريا المستباحة". لأن المحور الأميركي ـ "الإسرائيلي"، وضع قيوداً ردعت أنقرة وميليشياتها العرقية والمذهبية السورية، عن حسم مصير الميليشيا الكردية الإنفصالية/"قسد". بل إن مسار التفاوض بين هذه الميليشيا والنظام الإنتقالي في دمشق، يوحي بأن الخيار التقسيمي الذي تنشده هذه الميليشيا، بإقامة كيان سياسي تحت سيطرة أكراد سوريا، بات في المتناول أكثر من أي وقت مضى. وآخر إيحاء صدر عن توماس برًاك، السفير الأميركي إلى تركيا، الذي قال : إن هذه الميليشيا "لم تعد مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وهي حليفتنا في حملة مكافحة داعش".

في هذا الإتجاه يظهر "الكابوس الكردي" الذي ضمر حجمه في الأناضول، أنه قد انتفخ في "شام شريف"، بعكس الأماني التركية، طبعاً، بدعم من واشنطن وتل أبيب ومن باريس أيضاً. وللتذكير فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وأثناء إحدى جولات التفاوض بين هذه الميليشيا والحكومة الإنتقالية في دمشق، بحضور "وسطاء" أميركيين وفرنسيين أطلق تصريحاً دعم فيه "حلفاءنا في قسد". وفيما يشبه فيزياء الأواني المتصلة، فإن آفاق العلاقة التركية ـ الكردية في هذه المرحلة، تبدو محكومة بدينامية الخلاف والصراع، رغم اتفاق أنقرة ـ "قنديل"، إنما من خارج اراضي تركيا، من دول الجوار.

ـ الإتجاه الثاني، في الشام والعراق إلى الهضبة الإيرانية. فما ذكره أوجلان عن "التطورات التي تحدث في المنطقة، في الأيام الأخيرة"، كان يعني به استمرار حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة، من دون أي رادع إقليمي أو دولي، واتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان والكيان الصهيوني في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، ثم انهيار النظام السوري السابق في 8 كانون الأول/ديسمبر2024، وما أعقبه من تصدع طائفي ـ مذهبي للكيان الدولتي السوري. وصل إلى حد كشف عجز تركيا عن التصدي للحالة التقسيمية التي تتفشى في الدولة السورية، بقوة "إسرائيل" وبدعم الولايات المتحدة الأميركية وأطراف محلية، طبعاً.

إن تفسير الموقف التركي العاجز من الغزو والإحتلال العسكري "الإسرائيلي" المتجدد للأراضي السورية، لا نخرجه من قاموس الأدب السياسي، فنقول أن أنقرة متخاذلة، أو أن أردوغان جبان. لأن ما نعاينه هو عجز بنيوي، تكويني في السياسة التركية يحبط إرادتها القومية المستقلة ويمنعها، عن الإستجابة لمطلب أغلبية الشعب التركي، بالإصطفاف بجانب المقاومة العربية لـ"إسرائيل" وأميركا.

إن منشأ العجز التركي أمام المشروع الصهيوني في فلسطين المحتلة وسائر دول الوطن العربي، وسبب التفرج التركي على حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة، منذ نحو سنتين، هو الطبيعة الأطلسية لدولة تركيا الحديثة. إن من طبيعة النظام السياسي التركي، الذي "يحتضن" قواعد أميركية نووية على اراضي البلاد، تغليب المصالح الأطلسية في السياسة الخارجية التركية، حتى إذا تعارضت مع أي مصالح قومية تركية خاصة. وهذا شأن كل دول حلف شمال الأطلسي / "ناتو". ولذلك، نجد أن الجيش التركي في "سوريا المستباحة" لا يبادر إلى ضرب الميليشيا الكردية الإنفصالية/"قسد"، مثلما بادر للقتال ضد الجيش العربي السوري في "سوريا المستقلة" السابقة، لأن هذه الميليشيا هي "حليفة" أميركا، قائدة التحالف الأطلسي.

في هذا الإتجاه، من المحتمل، أن تكون كلاً من "قيادة قنديل" والقيادة التركية الأردوغانية، قد تشجعتا على الدخول في هذا "الإتفاق التاريخي"، بغواية التحليل الضحل لـ"التطورات التي تحدث في المنطقة، في الأيام الأخيرة". وفحواه الموجز : انهيار محور المقاومة وانحلال نظام الردع الإقليمي الذي أنشأه ضد الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل". ولسوف نفرد بحثاً خاصاً لهذه القراءة الطفولية و... الإنتهازية.  


علي نصَّار، مدير موقع الحقول

‏السبت‏، 07‏ ربيع الأول‏، 1447 الموافق ‏30‏ آب‏، 2025

منشور في موقع The Cradle يوم 9 أيلول، 2025

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

أضف تعليقاً

يرجى إدخال الاسم
يرجى كتابة تعليق