حازم صاغية، متمرد بلا قضية .. (في أحوال "صبيان الثورات الملونة")

حازم صاغية، متمرد بلا قضية .. (في أحوال "صبيان الثورات الملونة")

قضايا "الثورة اللبنانية" : التغيير في سياق اقليمي ملتهب (8)
نقاش حول مستقبل التحالف الأورو ــ أطلسي 
الاستدارة الواقعية للسياسة الخارجية الفرنسية

الوعي المستلب والمهزوم لا يستطيع أن يصمد أمام تحديات عاتية كالتي يواجهها الشعب الفلسطيني اليوم في كفاحه المرير والبطولي من أجل التحرير. والمقصود بالصمود هنا طبعاً ليس ثبات أصحاب هذا الوعي في معركة التحرير المديدة، فهم لا يؤمنون بالتحرير أصلاً ويشتمون ويهزأون بمن ينادي به، بل المقصود هو تهافت الخطاب الذي أنتجوه وتداعيه منذ أكثر من عقدين بسبب انتفاء جميع الظروف التي جعلته ممكناً. لقد ماتت عملية التسوية وتبدّد الأمل بالسلام الذي قضوا دهراً يبشرونا به وبثمراته، باعتباره المعبر الإجباري لولوج العرب ناصية الحداثة والديمقراطية والتنمية ورغد العيش. والأنكى من ذلك بالنسبة إليهم أن من أجهز على السلام هم الإسرائيليون وحكوماتهم المتعاقبة، اليسارية واليمينية، نتيجة سياساتهم الفعلية والمستمرة حيال الفلسطينيين الهادفة إلى تدمير شروط وجودهم كشعب. ماتت عملية التسوية، لكن الشعب الفلسطيني لم يمت. هو يقاوم ولو باللحم الحيّ كما رأينا في الأيام والأسابيع الماضية خلال مسيرات العودة المتتالية التي انطلقت من قطاع غزة وتحولت ملاحمَ للفداء والشهادة. يُقرّ حازم صاغية، في مقال ارتكبه في صحيفة «الحياة»، بأنه لا يملك أمام هذا المشهد سوى الحزن والصمت ويدعونا جميعاً إلى أن نحذو حذوه. لم يعد لمنظر العولمة السعيدة والشرعية الدولية والمجتمع المفتوح وانتصار النموذج الليبرالي الديمقراطي وأفضلية السلم غير العادل على الحرب العادلة ما يقوله أمام احتدام الصراع الوجودي في فلسطين، مع تسارع وتيرة الاستيطان والضم والتهويد الذي يشمل القدس. وباستثناء نصيحة يسديها إلى الشعب الفلسطيني باعتماد المقاومة السلمية، وهي التي باتت نمط حياته منذ عام 1948 كما يعلم جميع المتابعين ليوميات الصراع في فلسطين، وهجوم مكرور على محور المقاومة، يخلو مقاله من أية فكرة جديدة إلا الدعوة إلى الحزن. حازم صاغية، المتمرد على الإجماعات الكبرى للأمة حول الثوابت الوطنية والقومية، بات متمرداً بلا قضية.
شكّل الاجتياح الإسرائيلي للبنان وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982، الذي اعتبره البعض بداية للعصر الإسرائيلي، اللحظة التأسيسية لخطاب التبشير بالهزيمة. وباسم ضرورة النقد الذاتي بعد «الهزيمة»، قامت مجموعة من المثقفين اليساريين بالارتداد عن مجمل قناعاتها الفكرية والسياسية، وخاصة تلك المتعلقة بالصراع العربي – الصهيوني. رأت هذه المجموعة أن لا خيار للبنان بعد الاجتياح والاحتلال إلا خيار التفاوض مع إسرائيل، وأيدت اتفاق السابع عشر من أيار 1983. بقية القصة نعرفها جيداً كما يعرفها أعضاء المجموعة فرداً فرداً: كذبت التطورات اللاحقة جميع تحليلاتهم وفرضياتهم، وتمكنت المقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان من دحر الاحتلال على مراحل ومن دون قيد أو شرط. لم نسمع من أي منهم نقداً ذاتياً بعد ذلك، بل استمروا بالتبشير بالهزيمة وكأن شيئاً لم يكن. والحقيقة أن خطابهم لا يستقيم إلا إذا أقرّ العرب بأنهم هزموا ليس لأسباب تاريخية وموضوعية، مرتبطة بهيمنة الغرب على النظام الدولي السابق وبالعلاقة العضوية بينه وبين إسرائيل، ولكن لأسباب، أو حتى أعطاب، ذاتية وتكوينية لديهم، متصلة ببنيتهم الذهنية والثقافية والأنتروبولوجية وربما حتى الجينية. ومن هنا مثلاً يأتي إصرارهم على المبالغة في معنى هزيمة 1967. فهي بنظرهم، على غرار بعض اليساريين الطفوليين والإسلاميين، هزيمة لمشروع ولفكر ولنظام سقطت سقوطاً مدوياً مع الهزيمة العسكرية. بالطبع، هم يتجاهلون ما حصل بعد ذلك، أي حرب الاستنزاف، ومن ثم حرب أكتوبر المجيدة. الهزيمة بالمعنى الذي يتحدثون عنه، أي السقوط الكامل أمام العدو، كانت ستفضي إلى الاستسلام أمامه. هذا ما حصل مع فرنسا مثلاً خلال الحرب العالمية الثانية عندما هزمت عسكرياً أمام ألمانيا واستسلمت لها وشكّلت حكومة فيشي المتعاونة مع الاحتلال النازي. لكن هذا الأمر لم يحصل مع مصر. رغبتهم الجامحة في إنكار الوقائع أو ليّ عنقها تدفعهم أيضاً إلى رفض اعتبار حرب تموز – آب 2006 نصراً للمقاومة، على الرغم من اعتراف قادة إسرائيليين بذلك، أو للتأكيد أن القصف الإسرائيلي لبعض المواقع الإيرانية في سوريا قد يقود إلى هزيمة 67 إيرانية كما كتب حازم صاغية في «الحياة».
المحطة الثانية التي دفعت هذا التيار إلى الجهر بعدائه لثوابت الأمة، كانت بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، أو عصره الذهبي، التي شهدت حرب تدمير العراق بذريعة تحرير الكويت وتفكّك الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وانهيارهما وصعود الهيمنة الأميركية الأحادية على العالم وإطلاق مسار تسوية الصراع العربي – الصهيوني. تحوّل منظرو هذا التيار إلى باعة أحلام بكل ما للكلمة من معنى. لا حاجة لتكرار المعزوفة التي سادت لسنوات، وتولى رموز هذا التيار ترجمتها للجمهور العربي، عن النظام الدولي الجديد المستند إلى القانون الدولي وعن التسويات السحرية التي ستؤدي إلى إطلاق ديناميات السوق في منطقتنا المنكوبة فيعمّ الرخاء والازدهار للجميع، إلخ… لقد ذهب هذا العالم إلى غير رجعة، لحسن الحظ، ونحن مقدمون على مواجهات كبرى ستقرر مصائر شعوبنا، ومنها الشعب الفلسطيني. ولم يعد كلينتون ولا أوباما في البيت الأبيض، بل دونالد ترامب، ولا رابين أو بيريز في رئاسة وزراء الكيان الصهيوني، بل نتنياهو المحاط بليبرمان وبينيت. يصعب بيع الأحلام في سياق كهذا حتى بالنسبة إلى أيتام النظام الدولي الليبرالي. ليس لهم سوى الانزواء والحزن.

وليد شرارة، كاتب ومفكر عربي من لبنان
22 أيار / مايو، 2018
نشر المقال في جريدة "الأخبار"، تحت عنوان :
حازم صاغية، متمرد بلا قضية