ما بعد "الأمم المتحدة"؟!
الولايات المتحدة الأميركية تدعم هذا الإلتفاف الذي تقوم به "إسرائيل" على منهجية إصلاح هيكل النظام الدولي الذي تمثله الأمم المتحدة
كتب محرر الحقول / الوطن العربي : خضعت "هيئة الأمم المتحدة" ومنظماتها ولجانها لموازين القوى الدولية منذ نشأتها عام 1945. كانت قراراتها تتبع كل تغير يحصل في النظام الدولي بفعل تلك الموازين. ومع دخول هذا النظام مرحلة انتقالية من الأحادية إلى التعددية القطبية، في العقدين الأخيرين، فرضت المصالح القومية على كثير من الدول التوجه إلى إصلاح "الأمم المتحدة"، وتعزيز مكانتها في هيكل الأمن والسلم الدوليين.
لكن اتجاهاً تفكيكياً مخالفاً تولد من الدينامية الإمبريالية للقومية الأميركية، التي تمثلها الترامبية، وجد تعارضاً بين المصالح الأميركية وبين استمرار النظام الدولي المتمثل بالأمم المتحدة. وهذا الإتجاه الذي بدأ بالبروز في عهد "ترامب الأول" (2017 ـ 2021)، ولم توقفه إدارة بايدن السابقة، يعود مع "ترامب الثاني" (2025 ـ ...)، وسعيه إلى "الترويج للسلم عبر القوة" الأميركية.
تعتبر "إسرائيل" جزءاً من هذا الإتجاه التفكيكي الجاري، اليوم. لقد أنشئ هذا الكيان الإستيطاني العنصري، بدعم من أميركا ومن الإتحاد السوفياتي السابق. حينذاك، سهّل التوافق الدولي بينهما، صدور قرار الأمم المتحدة رقم 181، تاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، أو ما عرف بقرار تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين عربية ويهودية. لكن قادة المشروع الصهيوني سرعان ما أحبطوا أحلام يوسف ستالين "الإشتراكية". واليوم يتجاهل خلفاءهم تلك الحقيقة.
لقد أصبحت "الدولة اليهودية" الصهيونية رمحاً ساماً في "عالم الباكس أميركانا" أو "السلم الأميركي"، منذ أيامها الأولى. وقد تابت بعد "مغامرة العدوان الثلاثي" على مصر عام 1956، وآبت إلى خيمة "السلم الأميركي" تخدم أصحابها وزبائنها معاً. وهذا "السلم"، في تعريفه الجوهري، هو نظام الهيمنة الأميركي ـ الغربي، الذي يتكون من "الشبكة المعقدة من التحالفات العسكرية والاتفاقيات التجارية والقواعد المشتركة والقيم المتبادلة [...!؟] بين الولايات المتحدة وحلفائها. وهذه الشبكة دعمت العالم الحر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية"، بحسب برت ستيفنز.
وتبين نصوص باحثين وكتاب يهود صهاينة، أن النظام الصهيوني في فلسطين المحتلة يدعم هذا االإتجاه التفكيكي لـ"نظام الأمم المتحدة". في هذا الصدد، علينا مراجعة المقال الذي نشره الكاتب "الإسرائيلي" ديفيد واينبرغ، في صحيفة "جيروزاليم بوست" يوم 25 تشرين الأول / اوكتوبر الماضي. يجمع واينبرغ في هذا المقال عينة من النصوص الكافية لفهم أطروحة أبرز رموز هذا الإتجاه، لا سيما خطة الخروج من الأمم المتحدة، أو "نسيانها"، وتأسيس "هيئة بديلة" منها.
اخترع التفكيكيون الصهاينة "مناسبة تاريخية"، شيدوا عليها "منبراً عالمياً" يطلون من فوقه على جمهور الإعلام الأميركي والغربي، ليحدثوه في مصير الأمم المتحدة. وهذا من قبيل الدهاء الربوي. و"المناسبة" هي "مضي خمسين عاماً على إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3379، يوم 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975"، الذي أعلنت فيه أن "الصهيونية شكلٌ من أشكال التمييز العنصري".
يرجع واينبرغ إلى زمن صدور القرار المذكور، فيرى أن"الأمم المتحدة ... أصبحت، منذ ذلك الحين، بؤرةً للعداء الشديد للصهيونية، ومعاداة اليهود الصارخة، والعداء السافر لأميركا". ولذلك يقترح تأسيس "هيئة بديلة" منها. أما خطة التأسيس والعضوية والوظيفة أو الدور، فإن الكاتب اليهودي الصهيوني يشرحها في نصه، اقتباساً عن نصوص مقربين آخرين من نتنياهو من أمثال بن كوهين وديفيد ماي، يوجين كونتوروفيتش، إدوين بلاك، كلاوديا روزيت وميلاني فيليبس.
في نص واينبرغ "مفتاحان تأسيسيان". الأول، هو "المفتاح التاريخي". وقد سكه دانيال باتريك موينيهان، سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة عام 1975، إذ "انتقد بشدة القرار المشؤوم، لأنه محاولة لتشويه سمعة أميركا من خلال تشويه سمعة حليفتها". كما "حذر من أن هذه الافتراءات ستنتشر على نطاق واسع في المجتمع الدولي".
الثاني، هو المفتاح السياسي، الذي صاغه واينبرغ بنفسه. بعد أن شاهد عقارب ساعة التاريخ الإجتماعي ـ السياسي التي يخفيها في خزنة الأموال. فعيَّنَ التوقيت المناسب لـ"مهمة عالمية" بحجم تفكيك الأمم المتحدة واختار قيادتها.
يقول واينبرغ : أنه "حان الوقت لأميركا لأن تقود مسيرة عالمية للتوبة والإصلاح، وذلك بوقف تمويل الأمم المتحدة بالكامل واستبدالها بسلسلة من الهيئات المهنية الخالية من العداء المتأصل لليهود/الإسرائيليين [هكذا في الأصل] والمتحررة من الأيديولوجيات المتطرفة المعادية لأميركا". ثم يترك للنصوص البقية أن يشرحوا كيفية تنفيذ هذه "المهمة العالمية"، وهي تبدو كأنها مؤلفة من جانبين أو مرحلتين :
ـ في الأولى، يتم شيطنة الأمم المتحدة، وجعل "إسرائيل" ضحية لمنظماتها ولجانها، خصوصاً تلك المعنية بشؤون القضية الفلسطينية. وتقضي هذه الشيطنة، بأن تبادر الولايات المتحدة إلى قطع التمويل عن الأمم المتحدة. وقد شعرنا في بعض سطور هذه النصوص، بأن كاتبيها مشحونين برغبات الإضطهاد أو الإنتقام من أعضاء تلك المنظمات واللجان.
ـ في الثانية، يشدد أنصار نتنياهو على أنه لا أمل في إصلاح هيئة الأمم المتحدة. وهذا اليأس يهيئ لواينبرغ وزمرته تقديم اقتراحات سياسية وتنظيمية وإدارية. منها البحث في طبيعة أعضاء "الهيئة الدولية البديلة" التي ستخلف الأمم المتحدة. وما إذا كانت تقتصر على "الديمقراطيات" أم لا. وكذلك، إزالة المؤسسات البيروقراطية الموروثة من روسيا السوفياتية ومن الصين. وهاتان الدولتان يجب منعهما مع إيران والعرب ودول أخرى، من استخدام مبنى الأمم المتحدة الغالي الثمن. على أن يترك لهم ملعب رياضي، يجتمعون فيه ليتمكنوا من إلقاء خطاباتهم.
ومن ناحية الدول العربية والدول الإسلامية والدول الإفريقية، فهي تبدو غافلة، أصولاً، عن هذه "المسيرة العالمية" لتفكيك الأمم المتحدة. مع أن لهذه الدول سجلاً غنياً من المقترحات والتحركات والمواقف المطالبة بإصلاح المنظمة الدولية. وهذه الكتلة الدولتية ـ الجغرافية العظمى، تتضارب مصالحها، حتماً، مع أهداف "المسيرة"، التي يحشد لها اليهود الصهاينة ويوكلون قيادتها إلى البروتستانت الأميركان البيض.
إن دول هذه الكتلة تؤلف قوة جبارة، لو أنها التأمت أو تحالفت في تكتلات عالمية وإقليمية، كما حدث قبلاً. حينما نجحت في حماية المصالح الوطنية والإقليمية لديها، حسبما نتذكر، من خلال نظام الأمم المتحدة وقراراتها بعد الحرب العالمية الثانية.
بالطبع، فإن الولايات المتحدة الأميركية تدعم هذا الإلتفاف الذي تقوم به "إسرائيل" على منهجية إصلاح هيكل النظام الدولي الذي تمثله الأمم المتحدة. والهدف واضح : إبعاد دول العرب والمسلمين والأفارقة، وكذلك دول العالم غير الغربي، عن مركز إدارة النظام الدولي في الأمم المتحدة. ومضاعفة قدرة الولايات المتحدة و"إسرائيل" وكتلة الدول الغربية على تثبيت نظام الهيمنة الإمبريالي العالمي.
في نص واينبرغ ونصوص أنصار نتنياهو الآخرين، نعاين الرؤية الراسخة لدى أغلبية النخبة السياسية "الإسرائيلية" في الحكم وفي المعارضة، بأن النظام اليهودي الصهيوني في فلسطين المحتلة، يحكم "دولة" ذات منزلة خاصة في العالم، لا تدانيها دولة أخرى. وهذه المنزلة تمنح حكومة وأجهزة نظام الإحتلال، "حق" انتهاك قرارات الأمم المتحدة وسيادة ومصالح الدول الأخرى، بما فيها أميركا.
يكمن "الحافز العالمي" لدعاة التفكيك "الإسرائيليين" والأميركيين الصهاينة اليهود وغير اليهود، في إدراكهم، مع قطاع واسع في النخب الغربية، بأن "عالم الباكس أميركانا" أي خيمة "السلم الأميركي" تتداعى، بعدما وطّد الأقطاب الجدد في النظام الدولي الحالي أقدامهم، في المنافسة الجارية على مصيره مع الولايات المتحدة.
إن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة هي أبلغ وأجلى تعبير عن متانة هذا الإتجاه التفكيكي في النظام الصهيوني وفي الحركة الصهيونية كليهما. ولقد شاهدنا وسمعنا كيف شلت الولايات المتحدة الأميركية دور الأمم المتحدة، لا سيما مجلس الأمن فيها، وأحبطت جهوده لوقف هذه الحرب الإجرامية.
لذلك، نرى أن الإتجاه التفكيكي للأمم المتحدة، يضمر رهاناً متجدداً على مستقبل القوة الأميركية في "عالم ما بعد الباكس أميركانا". لأن نهاية "إسرائيل الأولى" في طوفان الأقصى، جعل "إسرائيل الثانية" أو "إسرائيل الكبرى" أكثر تلهفاً إلى استرداد "عالم الباكس أميركانا". لكن المشكلة هي في تنازع الأميركيين أنفسهم على أساليب وأدوات استعادة عالم .. مفقود؟.
هيئة تحرير موقع الحقول
السبت، 08 رجب، 1447 الموافق 27 كانون الأول، 2025






















التعليقات (0)
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
أضف تعليقاً