صدر كتاب الاقتصادي الجزائري المتخصّص في شؤون الطاقة، عبد اللطيف رباح، في أوساط هذا الشهر، وهو بعنوان : «جزائر ما بعد الحراك، الانطلاق نحو المستقبل». يتضمّن هذا الكتاب الجديد بحثاً معمّقاً في أسباب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعصف بالجزائر، وتحليلاً لخلفيّات القدرة المحدودة للحراك على إنتاج بديل فعلي من الوضع القائم، ولشروط لإنجاز تغيير بنيوي في هذا البلد.
خصّصتم في كتابكم قسماً لتحليل تفكُّك نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. مَن هي الأطراف التي أجّجت الصراع في داخله وما هي محاوره؟
لعبت مسألة توزيع السلطة السياسية والاقتصادية بين جماعات المصالح المدنية والعسكرية المتنافسة دوراً مركزياً في مسار التفكُّك الذي أشرتم إليه، والمعركة حول التوريث. وكانت سياسات تفكيك إنجازات التنمية الوطنية، وإعادة الهيكلة الليبرالية التي تلتها، قد عزّزت من مواقع رأس المال في عملية صناعة القرار الاقتصادي. هي زادت من أرباح شريحة رجال الأعمال، ومن حصانة الجهات التي تقوم بنهب الاقتصاد الوطني. مسارات الفرز الاجتماعي التي أطلقتها هذه «الإصلاحات» الليبراليةـ منذ بدايات ثمانينيات القرن الماضي، حَفّزت على صعود لاعبين رأسماليين جدد، وبات هناك عدّة مرشحين متنافسين على التحكُّم بإعادة صياغة علاقات السلطة، وعلى احتكار السلطة السياسية. بين هؤلاء، سنجد أرباب عمل القطاع الخاص، ومقاولي الاقتصاد الموازي. هناك أيضاً مجموعات المقاولين التي تشكَّلت بعد انتقال قسم من النُخب الاقتصادية من القطاع العام إلى القطاع الخاص. هم يضمّون، كذلك، النُخب السياسية التي اغتنت نتيجة لتغيُّر علاقات الملكية في ميدان الزراعة، أو بسبب الخصخصة وبيع الأملاك العامة، ولبرلة الأسواق العقارية، والنُخب المعولمة وقطاعات البيروقراطية السياسية – الإدارية التي تبرجزت، والنُخب العسكرية. كان الاقتصادي عبد اللطيف بن أشنهو محقّاً عندما اعتبر أن «الأمر يتطلّب معجزة لتُوافق برجوازية تتضاعف قوتها الاقتصادية على البقاء مَقصِيّة من النظام السياسي». الطبقات الوسطى، وهي من بين كبار المستفيدين من الإصلاحات الليبرالية، تنتظر بدورها توزيع الأوراق الذي سيتيح لها التحوُّل إلى لاعب سياسي من الدرجة الأولى.
الشريحة العليا من الطبقات المسيطرة، والتي كانت طرفاً في هذه النزاعات الصامتة، ومن ثمّ العلنية والعنيفة، في رأس هرم السلطة، تُحدّد في الظلّ الشروط التي تَسمح بالدخول إلى الحلبة السياسية. هي تهيمن كمجموعة على العلاقات الاجتماعية بفعل تحكُّمها بالمال وبإعادة توزيعه، ولمصلحتها أولاً، ولا تنوي بتاتاً التنازُل عن دورها كـ«صانع ملوك». تتمحور المواجهة بين هذه الأطراف حول قضية مصيرية بالنسبة إليها، وهي احتلال مواقع في مراكز قيادة السلطة. فهذه المواقع هي التي تتحكّم بالتراتبية الاجتماعية.
على الرغم من إرادة التغيير البنيوي التي يُعبَّر عنها داخل الحراك منذ سنتين، فإنكم ترون أن شروط الأزمة الثورية غير متوفّرة، لماذا؟
تغيُّر المرتكزات الموضوعية للاقتصاد والمجتمع أدى إلى انتشار الأيديولوجيا الليبرالية لما يُسمّى بـ«الطبقات الوسطى». تمّ ذلك في سياق دولي شهد تراجعاً لأفكار التقدُّم والثورة الاجتماعية. يضاف إلى ذلك، في الجزائر، تشدُّد في الممارسات القمعية بحق أيّ تعبير ديمقراطي تقدُّمي منظَّم، وتخلٍّ عن الخيار الاشتراكي. نلاحظ اليوم أن البروليتاريا الجزائرية مشتَّتة بشكل كبير بين الاقتصادَين الرسمي والموازي، وبين القطاعَين العام والخاص، فضلاً عن أنها خاضعة لتأثير أيديولوجيا الهوية الإسلاموية أو البربرية. هيمنة الأيديولوجيا الليبرالية بين الطبقات الشعبية تتحقَّق من خلال تسعير الانتماءات الهويّاتية العابرة للطبقات، والتي تتمتع بقدرة عالية على التعبئة. العامل الهويّاتي يساعد على طمس المضامين الديموقراطية والاجتماعية والمواطنية للنضالات السياسية. هو عنصر تقسيم للجماهير الشعبية. لم تتمكّن البروليتاريا الجزائرية من إدراج أهدافها الطبقية ضمن أهداف الحراك. أُجبرت على التخلّي عن مطالبها الاجتماعية والديموقراطية. ووافقت، في المحصّلة النهائية، على أن تنساق خلف الأجندة السياسية للائتلاف الليبرالي – الرجعي الذي يقود الحراك راهناً.
وفي ظل التفتُّت وغياب التنظيم والرؤيا الواضحة، تعجز الطبقات الشعبية عن قيادة النضال الجماهيري الوطني والمعادي للإمبريالية. الأيديولوجيا البروليتارية مغيَّبة في المجتمع. حتى تستطيع الطبقات الشعبية اتخاذ المبادرة مجدّداً، وقيادة النضال من أجل التحرُّر الاجتماعي، ينبغي إخراجها من الرمال المتحرّكة التي تُغرقها فيها التيّارات الهويّاتية البورجوازية الصغيرة. المطلوب هو الانتقال إلى الأرض الصلبة للنضالات الاجتماعية وللدفاع عن الحقوق الديموقراطية والنقابية للعمّال، وأيضاً للدفاع عن الاستقلال الوطني. من أجل ذلك، فإن المطلوب هو إعادة بناء مرجعيات الطبقات الشعبية، وتوضيح الآفاق التاريخية لنضالاتها، والعمل على تنظيمها.
ما هي أسس البديل المتّسق وذي الصدقية؟
لا بديل من العودة إلى الدولة التنموية. يعني ذلك أن الأولوية السياسية الرئيسة هي تدعيم الدولة الوطنية ومؤسّساتها التي ضعفت. دولة ترتكز إلى الشفافية والنزاهة والتحكُّم. «أكلتم البلاد يا سراقين»، كان شعاراً ردَّده مئات الآلاف في مسيرات الحراك الأسبوعية. هو يدين تفشّي الفساد ونهب وتبديد الثروات الوطنية. نظرة سريعة إلى المحاكمات الجارية تكفي لإدراك الحجم المهول لعمليات نهب الثروة الوطنية وتداعياتها الكارثية على البلاد خلال العقود الثلاثة الماضية. بين المتّهمين بقضايا الفساد، هناك أعداد كبيرة من رجال الأعمال ورؤساء الوزراء السابقين والوزراء والضباط والموظفين الكبار، أدينوا جميعاً بسبب الإثراء غير المشروع. إخضاع السياسات العامة وكيفية إنفاق المال العام لآليات تحكُّم وتقييم مستمرّ أصبح ضرورة حيوية وميزة من ميزات الدول الديموقراطية الحديثة.
نحن نحتاج، أيضاً، إلى دولة تضمن الأولويات الإنتاجية والاجتماعية والبيئية، وتتسلّح بأدوات التنظيم الاقتصادي الفعّالة، وفي مقدّمتها التخطيط. لقد وصل نموذج الطاقة – التراكم – السلطة ونظام الاحتكار السياسي إلى مداه التاريخي، واستبدال نموذج إرشادي آخر به يتأسّس على الربط بين الطاقة والتقدُّم والديموقراطية. من الخطأ الافتراض أن القطيعة التي ستعيد الجزائر إلى طريق التنمية الوطنية والتحرُّر الاجتماعي ستُنجَز من خلال إجراءات بيروقراطية. فالترسانة المؤسّساتية، والآليات الاقتصادية والمالية التي شَكَّلت رافعة للنظام الليبرالي الطفيلي والفاسد ما زالت موجودة. القطيعة مع هذا النظام هي في الواقع معركة طبقية واسعة النطاق وطويلة الأمد، تُخاض على المستويات السياسية والأيديولوجية والاقتصادية في الآن نفسه.
لينا كنوش، صحافية عربية من الجزائر
الخميس 18 آذار 2021