التحول الهيكلي والتنمية العادلة.. ساقان متكاملان

التحول الهيكلي والتنمية العادلة.. ساقان متكاملان

حـــامد نــدا.. رائـد السيريالية الشــعـبـيـة
“حال الأمة الإفريقية” و”الحاجة إلى تقدم نظري مفاهيمي” (حلمي شعراوي)
فلسطين المحتلة : أحمد سعدات يخوض معركة الإضراب عن الطعام “دعماً للرفيق بلال كايد”

تناولنا على صفحات «الشروق» خلال الشهور القليلة الأخيرة موضوعات شتى، ينتظمها سلك قوى عتيد، وذلكم هو سلك «التنمية» بمعناها الواسع. ولعله من المعلوم أن هناك فارقا جوهريا بين التنمية (بما فيها التنمية الاقتصادية) وبين النمو (بما فيه النمو الاقتصادى). التنمية كما سبقت لنا الإشارة عملية شاملة ومركبة وذات بعد تاريخى، وهى قاطرة التحول المجتمعى فى البلدان المتحررة من ربقة الاستعمار القديم والجديد، انطلاقا على المركب الصعب للتطور الشامل على المدى الأبعد. أما النمو ــ الاقتصادى ــ فهو أضيق نطاقا وأشد التصاقا بالأمور الجارية، إن صح التعبير. النمو قابل للقياس الكمى، عن طريق مؤشر «معدل النمو»، ويمكن قسمة محصلته على عدد السكان فيكون عندنا متوسط نصيب الفرد من الدخل القومى، على سبيل التمثيل المخصوص. لذا قد تسهل التفرقة بين التنمية، كـ«مفهوم كيفى» أو «نوعى»، وبين النمو كمفهوم كمى بصفة أساسية.
نظرا لذلك، نجد أن التنمية تجب النمو، ولا تتطابق معه، وأكثر قسماتها وضوحا وتأكيدا هو ما يتعلق بتحويل المجتمع ككل من حال إلى حال، انطلاقا من هياكله الأساسية، وخاصة هياكله الاقتصادية، وبصفة أخص هياكل الإنتاج والتوزيع، للثروة وللدخل الوطنى.
من هنا نجد أمرين متلازمين يمثلان التنمية، بما فيها التنمية الاقتصادية أصدق تمثيل، هما هيكل توليد الناتج المحلى الإجمالى، من جهة أولى، وهيكل التوزيع، من جهة ثانية.
• • •
لذلك، إن أردت أن تعرف التنمية بجوهرها الأصيل، فإليك أهم قسماتها وهو التحول الهيكلى، إنتاجا وتوزيعا، ومن هنا اتخذنا عنوان هذا المقال على النحو التالى (التحول الهيكلى والتنمية العادلة: ساقان متكاملان)، وهذا هو فحوى ما كان يقال له سابقا (الكفاية والعدل)، حيث وفرة الإنتاج وحسن توزيعه صنوان لا يفترقان، أو هما فى كلمة مركبة (التنمية العادلة). لكن هذا ليس كل شىء، فلنحاول اتباع طريقة «التقريب المتتابع» لمقاربة هذه المقولة.
ولنبدأ بالتحول الهيكلى Structural Transformation وينصب هذا بصفة أساسية على هيكل توليد الناتج الذى يعود تاريخيا إلى قطاعات منتجة بدأت من حيث الزمن بقطاع الرعى والصيد وكذلك الزراعة، ومنه يشتق مصطلح «القطاع الأولى» Primary Production أى ذلك الذى يخرج من «الطبيعة» مباشرة إلى أوجه الاستخدام، الإنتاجى أو الاستهلاكى، فلا تدخل عليه عمليات لاحقة تغير من شكل ومضمون السلع المنتجة. وأشهر ما يذكر هنا منتجات الزراعة والمناجم، أى المزروعات والمعادن، واستخراج ما فى جوف البحار، وتحت الأرض، وأعمال «الزرع والضرع» ــ ويقال لها «الأنشطة الأولية» أى التى لم يدخل عليها عمل إنتاجى لاحق يغير من خصائصها الأساسية ــ ذلك هو «القطاع الأولى» باختصار.
فأما إن دخلت على هذه الأنشطة عمليات لاحقة، تغير من خصائصها الجوهرية، فإن هذا ينقلها من حيز «القطاع الأولى» إلى القطاع «الثانى» أو «الثانوى» Secondary Sector ومثالها الأبرز القطاع الصناعى ــ التحويلى. ويقال له فى هذه الحالة «الصناعة التحويلية Manufacturing Industry التى تتيح إنتاج السلع بمختلف أصنافها، إنتاجية (وسيطة ورأسمالية) واستهلاكية.
على مدارج التنمية، تبدأ البلدان «المتخلفة اقتصاديا» بالاعتماد أساسا على القطاع الأولى، من المعادن والمزروعات غالبا، ثم تأخذ فى الارتقاء الإنتاجى والتكنولوجى شيئا فشيئا، حتى ينتقل اعتمادها فى توليد الدخل، من الصناعة «الاستخراجية» إلى الصناعات التحويلية. وبالتوازى مع ذلك، يتم استخدام أساليب إنتاجية أكثر تقدما وتنوعا، بالتكنولوجيا الوطنية المتطورة التى تنتقل من الخارج إلى الداخل ليتم توليدها وتوطينها محليا وإقليميا عبر الزمن.
مع الوقت، تتطور عمليات الإنتاج والتوطين التكنولوجى، بحيث ينطبق عليها المفهوم الآخذ فى الانتشار هذه الأيام، وهو «التحول إلى الاقتصاد الخدمى» Service Economy إنه اقتصاد الخدمات العلمية والتكنولوجية، فإذا بنا أمام قطاع ثالث Tertiary Sector هو القطاع الخدمى. بيْد أن الخدمات صنفان، صنف تقليدى، خاصة الخدمات الشخصية وخدمات الأعمال الحكومية التقليدية..إلخ، ثم صنف آخر يستخدم، وينتج، أحدث موجات التكنولوجيا، المرتبطة بالبيئة المحلية دون انفكاك. من هنا يقسم اقتصاديو التنمية القطاعات المولدة للناتج إلى ثلاثة: القطاع الأولى، والثانوى، والثالث أو «الثالثى».
فإن كان الاقتصاد يعتمد على إنتاج السلع الأولية، من زراعية ومعدنية، وعلى إنتاج الخدمات التقليدية فهذا اقتصاد غير متطور. أما إن حقق نقلة قوية نحو تحقيق الغلبة للصناعة التحويلية والخدمات التكنولوجية فهذا اقتصاد متطور بحق. وفى الطريق إلى التحول الهيكلى، توجد درجة أدنى هى «التغير الهيكلى» Structural Change أى إحداث تحسينات وتعديلات تدريجية فى هيكل التشغيل والتوظف وتوليد الدخل، عبر الزمن، وإن لم يصل الأمر إلى التحول الجذرى لهيكل الإنتاج نفسه على النحو الموصوف.
ونحن فى مصر العربية اعتمدنا بعد ثورة 23 يوليو 1952 على إحداث تغيرات هيكلية خلال خمسينيات القرن المنصرم وأوائل الستينيات، حتى تفجرت ثورة تصنيعية ــ تحويلية منذ منتصف الستينيات، اعتمادا على ما تسمى سياسة «إحلال الواردات» التى بدأت استهلاكية، وكان يفترض أن يسعفها الزمان بالانتقال إلى المرحلتين الثانية والثالثة للإحلال، أى الإنتاج المحلى لكل من السلع الوسيطة، وسلع رأس المال Capital Goods وهو ما لم يتحقق فعليا على كل حال.
وتسود فى دوائر الأكاديمية المصرية حاليا نقاشات ثرية حول ضرورة التحول الهيكلى التصنيعى الحقيقى، انطلاقا من قاعدة علمية ــ تكنولوجية متطورة. وقد بدأ هذا الحديث فى الثمانينيات من خلال الدعوة إلى «تصنيع الآلات والمعدات»، ثم تعطلت المسيرة لأسباب شتى.
فما أحرانا أن نعيد سيرة التنمية والتصنيع والتحويل وبناء رأس المال العينى والبشرى والمعرفى، لنلحق ثم ربما نتجاوز من سبقونا على نفس الدرب. وهذا هو المغزى الحقيقى للدعوة إلى التعميق الصناعى والتكنولوجى فى مصر أى Industrial and Technological Deepening.
ذلك هو محك التنمية، التنمية الاقتصادية ــ الإنتاجية، أى إحداث التحولات الهيكلية دون إبطاء. وننتقل إلى الساق الثانية للتنمية الحقة، بعد التحول الهيكلى، وهى ساق «التنمية العادلة».
• • •
نسابق عامل الوقت، لنقول إن العدالة فى السياق التنموى لها عدة مدارج: أولها ما يسمى بالإنصاف equity خاصة فى مجال التشغيل وتوليد الدخول. والخطوة الثانية هى السعى على درب تكافؤ الفرص: equivalence وخاصة فى المجال التعليمى والصحى. ثم تأتى الثالثة التى تتطلع إليها دون كلل وهى العدالة الاجتماعية أى Social Justice، وهذه كآخر مدارج التنمية العادلة ــ تحقق نقلة جوهرية من مجرد الإنصاف وتكافؤ الفرص، إلى تحقيق تغيير فى هيكل توزيع الدخل والثروة. بحيث يقوم المنتجون إلى اليدويون والذهنيون بالدور الأسمى فى عملية توليد الناتج بمعناه الواسع. ذلك هو «المرتقى الصعب» فى عقدة التنمية كلها، عبر الزمن. فلنسعى إذن، لربط تحول الهياكل الإنتاجية، بتحول الهياكل التوزيعية، ولنكثف السعى فى هذا السبيل، ولو تجاوزتنا الأحداث قليلا أو كثيرا. والله من وراء القصد.

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
الثلاثاء، 21 نوفمبر/تشرين الثاني، 2023
يمكن قراءة هذا المقال على صفحة الشروق المصرية

COMMENTS