بعد قضائه 43 يوماً في قطاع غزة تحت الحصار والقصف، عاد اختصاصي الجراحة التجميلية والترميم غسان أبو ستة ليقوم بجولة على عدد من الدول، راوياً كشاهد أحداث أيام الحرب الأعنف، مقدّماً عرضاً من أماكن كان فيها ساعة وقوع الجرائم. يحكي عن مجزرة مستشفى المعمداني، وعن اضطرار الناس للمفاضلة بين الأقارب، من يُنقذ، ومن يُترك. يتكلم عن تنقله بين مستشفيات شمال القطاع، ونقل المرضى بين غرف العمليات والنوم على أرضياتها، وصولاً إلى القيام بعمليات جراحية من دون تخدير، واستخدام المكابس لإقفال الجروح بينما المريض بكامل وعيه. يخبر عن تغيّر نوعية الإصابات مع تغيّر الأسلحة المستخدمة، حيث جرّب العدو بالمدنيين قنابل النابالم والقنابل الفوسفورية الحارقة، والخارقة للتحصينات، وصولاً إلى الصواريخ التي تقطّع البشر بالشفرات إلى أشلاء، من دون أن تصدر صوتاً
«العدو خلق الكارثة في قطاع غزة، دمّر كلّ شيء. وترك للكارثة أن تغذّي نفسها، الناس، الأطفال سيموتون لاحقاً من البرد، بسبب الظروف التي خلقها الاحتلال، ومن دون إطلاق نار، بل لأسباب طبيعية مثل الطقس البارد»، يقول اختصاصي الجراحة التجميلية والترميم العائد من قطاع غزة الدكتور غسان أبو ستة. الفرار من الموت هو الأساس لدى الفلسطيني في غزة اليوم، ولكنّ «الصامدين في القطاع لن يخرجوا منه»، يؤكّد أبو ستة، فـ«الفلسطيني يعرف ذلّ اللجوء، ويعتبره أصعب من الموت، وهذه تجربة بنيوية حفرت عميقاً في وجدان الشعب الفلسطيني».
يروي أبو ستة قصة الأيام الـ43 تحت القصف في القطاع. من ساعة الدخول إلى غزة، إلى الالتحاق بمستشفى الشفاء، والتنقل بين مستشفيات شمال القطاع، وصولاً إلى المجازر، وسلاح العدو الجديد القادر على بتر الأطراف و«كأنّها سكاكين، فتترك الجريح تحت رحمة نزيف لا ينتهي».
الطبيب غسان، ابن القطاع، وهو زائر دائم له، لكنّه يحضر بقوة خلال الحروب، وهو شاهد دائم على جرائم العدو منذ 15 عاماً بصورة دائمة. ويوم السبت، الواقع فيه السابع من تشرين الأول، وبعد مرور ساعات على عملية «طوفان الأقصى» تيقّن أبو ستة من حتمية وقوع الحرب، فاستغلّ الفوضى على معبر رفح، ودخل القطاع. واستخدم هويته الفلسطينية، ودخل كأنّه أحد سكان غزة بشكل عادي، وعند الساعة الحادية عشرة ليلاً كان قد وصل إلى مستشفى الشفاء.
للوهلة الأولى، ظنّ أبو ستة أنّ الحرب لن تكون سوى نسخة عن حرب عام 2014، فنزل في بيتٍ للعائلة قريب من مستشفى الشفاء. ولكن، لم تمضِ ثلاثون دقيقة في المستشفى حتى بدأ القصف على حي الرمال، منطقة العائلات الثرية في القطاع، فأخلى المنزل، وسكن في المستشفى، حيث بدأ بالعمل في قسم الحروق. في اليومين الأولين للحرب يصف أبو ستة جراح القصف بـ«العادية، حروق خفيفة، وتهتّك بالأنسجة في الأماكن الضعيفة». ولكن، في اليوم الثالث، تحوّلت الحروق من بسيطة إلى الدرجة الثالثة، ومن دون وجود شظايا في أجسام الجرحى، ما يشير، بحسب أبو ستة، إلى «استخدام قنابل النابالم الحارقة».
مع اشتداد الحرب، تحوّل مستشفى الشفاء إلى مركز إيواء للنازحين، واختبأ الناس بين الطوابق وعلى الأدراج، وبلغ عدد النازحين داخل أسوار مستشفى الشفاء 40 ألفاً. وبسبب شدة القصف على المناطق المأهولة، بدأت حالات إبادة العائلات بأكملها تظهر، إذ توافد العشرات من المصابين إلى المستشفى من عائلة واحدة. ووصل، خلال فترة إقامة أبو ستة في غزة، 128 طفلاً إلى قسم الطوارئ لا يعرفون أسماءهم، ولا عائلات تسأل عنهم، ما يشير إلى «الإبادة التامة».

قام الأطباء في المستشفى بعمليات جراحية من دون تخدير، وخيّطوا جروح المريض وهو كاملُ الوعي، وطلبنا إذن الأهالي لعلاج أطفال من دون مخدّر

كيف يُفرز الجرحى؟
مع الوقت، شارف مخزون الأدوية والأدوات الطبية على النفاد. وأصبح الأطباء مضطرين للمفاضلة بين الجرحى، وانتقاء أصحاب الحالات القابلة للعلاج لإجراء العمليات الجراحية لهم. في قسم الحروق، أجريت العمليات فقط لمن لا تزيد نسبة الحروق في جسمه على 50%. وقاموا بتضميد جراح أصحاب الإصابات الخطيرة، رغم إدراكهم بأنّهم سيموتون خلال ساعات لعدم قدرتهم على تقديم العلاج لهم. وهنا، يذكر أبو ستة، مشاركة عائلات الجرحى في مساعدة الكوادر الطبية على فرز الأفراد لتقديم العلاج لهم، فمن هو معيل لعائلته له الأولوية، ومن لديه أطفال كذلك.
ومع استمرار الحرب والمجازر، وتعاظم الضغط على مستشفى الشفاء، وبسبب عدم وجود كادر طبي مؤهّل للتعامل مع الحروق، وإجراء العمليات، قرّر أبو ستة التنقل بين مستشفيات الشمال. في البداية، بدأ بالمساعدة في «مستشفى العودة»، حيث يوجد طبيب تجميل واحد قادر على إجراء العمليات المركّبة، كما نُقل المرضى من الشفاء إلى مستشفى المعمداني لتخفيف الضغط عن الأول، حيث عمل لـ18 ساعة يومياً، ونام في نهاية كلّ يوم على أرضية غرفة العمليات بعد تنظيفها بالكلور.
انهار القطاع الصحي في شمال قطاع غزة بشكل كامل، يضيف أبو ستة: «بعد إقفال مستشفيات الأطفال التخصّصية، صرنا نرى أطفالاً مصابين بأمراض مستعصية بين الجرحى. حتى المرضى العاديون، من غير جرحى القصف، ماتوا بسبب فقدان أدوية الأمراض المزمنة كالضغط والسكري. في حين، قام الأطباء في المستشفى بعمليات جراحية من دون تخدير، وخيّطوا جروح المريض وهو كاملُ الوعي، وأعطوا المرضى من بعدها أدوية مسكّنة بسيطة مثل «البانادول والبروفين» للتخفيف من آلام جروح عميقة». وفي إحدى المرات طلب أبو ستة الإذن من والد فتاة عمرها 9 سنوات لتنظيف جروحها من دون مسكّن. وافق الأب، إذ لا إمكانية لإجراء عملية جراحية، وعدم تنظيف الجروح يعني موت المريضة خلال ساعات. وعندما باشر مهمته، علا صراخ الطفلة، وبكاء الأب بالقرب منها.

التعقيم بالخلّ ومنظّفات المنازل

تراجع المخزون من المواد، أتى أيضاً على كل ما له علاقة بالتعقيم، واستخدم الأطباء «خلطة عجيبةً»، بحسب أبو ستة، مكونة من أدوية غسل الأواني والخل لتعقيم الأدوات الطبية والجروح التي خرج القيح والدود منها، ودهم خطر الموت المصابين جرّاء التسمّم الناتج عن عدم تغيير ضمّادات الجروح. فالضمادات الخاصة بالحروق نفدت، والأدوية الطبية المعدّة للاستخدام الواحد تُعقّم بما تيسّر من مواد، أو بالماء المغلي، ويعاد استخدامها مرّة تلو أخرى.
بعد اقتحام العدو منطقة شمال القطاع واقترابه أكثر من مستشفى الشفاء، وقصف محيطه في مخيّم الشاطئ، بدأت الإصابات بالفوسفور الأبيض تتوافد إلى قسم الحروق في المستشفى، بالإضافة إلى ظهور أعداد إصابات أكبر بالصاروخ ذي الشفرات القادر على تقطيع الأطراف، والتسبب بالنزف الشديد. وحول الفوسفور الأبيض يتكلم أبو ستة عن معالجة حروق وصلت إلى داخل العظم، حيث وجد بقايا المادة. ولاستخراجها، قام باستئصال أجزاء من جسم المصاب. وخلال العملية، كانت هناك إمكانية لإعادة اشتعال بقايا الفوسفور، ما يؤدي إلى إصابة الطبيب والمريض معاً.

رائحة الموت
ازداد الوضع سوءاً، ووصل عدد الجرحى في الشفاء إلى 2000، في حين يتسع المستشفى لـ600 فقط. فأقام الهلال الأحمر مستشفى ميدانياً في باحة الشفاء لدعم الجرحى، وبدأ أصحاب الأمراض المستعصية يشكّلون عبئاً إضافياً على الكوادر الطبية، فتحوّل الممرضون إلى ممارسة مهام الأطباء بسبب نقص الكوادر، وزاد الاعتماد بشكل أكبر على المتطوعين والمسعفين الذين تولّوا رعاية ما يقارب 500 جريح في الساحات الخارجية.
أوضاع القطاع خارج أسوار المستشفيات أسوأ بأشواط، فبسبب عدم قدرة أجهزة الدفاع المدني الفلسطينية على رفع الأنقاض، بدأت رائحة الجثث المدفونة تحت ركام الأبنية بالانتشار في الأحياء، ولا سيّما مع حلول ساعات الليل. كما انتشرت في الأيام الأخيرة الأمراض المرتبطة بغياب الصرف الصحي، وانعدام مصادر المياه النظيفة، حيث يقف الناس في طوابير طويلة أمام صنابير المياه الشغّالة، ثمّ يقوم العدو باستهدافهم. ويشير أبو ستة أيضاً إلى انتشار الجوع، وسوء التغذية بين الأطفال.

وصل 120 طفلاً إلى قسم الطوارئ لا يعرفون أسماءهم، ولا عائلات تسأل عنهم، ليظهر أن إبادة تامة حصلت لعائلاتهم

مجزرة المعمداني
بعد محاصرة الشفاء، وقصف محيط المستشفى في مخيّم الشاطئ، أيقن أبو ستة أنّ النهاية قريبة، واستعدّ في إحدى ليالي القصف الشديد للموت. حينها، بدأ معاينة إصابات بإطلاق النار سببها «مُسيّرات الكوادكوبتر» التي تطلق الرصاص على كل من يتحرك. وفي وقت لاحق، وبعد اشتداد أزمة الوقود، وإقفال عدد من غرف العمليات في مستشفى الشفاء، عاد أبو ستة إلى «المعمداني»، وصار يأخذ كلّ يوم 8 مصابين لإجراء عمليات لهم هناك.
بالنسبة لاختصاصي الجراحة التجميلية فإن «مجزرة المعمداني كانت اختباراً أجراه العدو للمجتمع الدولي، وعندما وجد غضّ نظر دمّر كلّ مستشفيات شمال القطاع، إذ لا خطوط حمراء».
يوم مجزرة المعمداني كان أبو ستة يجري عملية جراحية داخل المستشفى المستهدَف. «لحظة وقوع الضربة، سمعنا صفيراً، ووقع علينا سقف غرفة العمليات». خرج من بعدها إلى الباحة ليرى الأرض «مرشوشة بالناس، النار تضيء العتمة. استجمعت قواي وتوجهت إلى غرفة الطوارئ، على يميني شاب رجله مبتورة، وكأنّها مقطوعة بسكين حادّ قطع عظم الفخذ بشكل تام. نظرت حولي، لأجد جثث الشهداء تملأ المكان، والناس يصرخون، وكل واحد يشدّني لأخذي إلى أقاربه. وجدت جريحاً ينزف من رقبته، وضعت يدي على الوريد المقطوع، وطلبت من أحد الممرضين مساعدته لإحضار كيس مصل، وفي الطريق، كنت أنظر إلى ساحة مليئة بالأشلاء المقطّعة التي تملأ المكان».
«كان العمل في مستشفى المعمداني مطمئناً»، قال أبو ستة، فـ«المشفى تابع للكنيسة. ومديره أسقف يعيش في بريطانيا، وهو قال إنه تلقّى تطمينات بأن المقر لن يُقصف. ولكنّ الواقع على الأرض كان مغايراً، فالعدو قصف سور المستشفى، وطلب من الإدارة الإخلاء. لكنها طمأنت الفريق العامل بأنّها تتواصل مع الصليب الأحمر الدولي الذي أكّد تحييد المستشفى، وكل ذلك لم يمنع العدو من القصف.
وعلى إثر اقتحام مستشفى الشفاء، وإخراج الطواقم الطبية منه، غادر أبو ستة إلى جنوب القطاع، ومن ثمّ إلى خارجه، بعد أن قضى فيه 43 يوماً متنقّلاً بين مستشفيات الشمال والجنوب. قرار المغادرة اتّخذه بعد أن وجد أنّه لا يقوم سوى بتضميد الجراح في رفح، جنوب القطاع. فاستقلّ سيارة إسعاف وغادر فيها إلى مصر مستخدماً جواز سفره الإنكليزي للمرور عبر معبر رفح.
يصف أبو ستة، مشهد الدمار في القطاع بـ«المرعب، الأبنية معجونة، أحيلت رماداً، مثل البودرة بسبب نوعية القذائف المستخدمة غير المعهودة في الحروب السابقة».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لم تكن هذه الحرب كسابقاتها. القصف عنيف وشامل، وكل الأماكن تُضرب دون هوادة. وإسرائيل نظّمت حملتها لتهجير أبناء القطاع وقامت بتدمير كل ما يساعد على الحياة، من مشافٍ ومخابز ومياه شرب، إضافة إلى المنازل والبنايات والمقرات الحكومية. وهي فعلت كل ذلك بحجة ضرب المقاتلين. وخلال 43 يوماً، لم يلتق أبو ستة بمقاتل سليم أو حتى جريح. ويعتقد أن المقاومة لديها أمكنتها الخاصة بمعالجة جرحاها. ولم يكن أحد من الذين عملوا في كل مشافي الشمال، يصدّق لحظة أن هذه الأمكنة مستخدَمة من قبل المقاتلين. ويصبح الأمر فظيعاً، عندما يسود الصمت العالم. ليس الحكومات أو المؤسسات الرسمية فقط، بل حتى المجتمع الطبي، الذي لم يحرّك ساكناً إزاء خروج أطباء إسرائيليين يدعون إلى قصف المستشفيات. ولكن أبو ستة، مثل آخرين، قرّر المضي في جمع الأدلة الكافية لملاحقة المسؤولين الإسرائيليين عن هذه الجرائم أمام المحاكم في دول أوروبا، ومن بينها بريطانيا حيث يعيش ويعمل ويحمل جنسيتها.

فؤاد بزي، منشور في الأخبار، 9 كانون الأول/ ديسمبر، 2023