مولدوفا و”الحصن الرديف”؟!

مولدوفا و”الحصن الرديف”؟!

افتتاحيات الصحف اللبنانية، يوم السبت 16 أيلول، 2023
مواصفات جيش الإحتلال الأميركي في لبنان وأهدافه
افتتاحيات الصحف اللبنانية، يوم الأربعاء 2 كانون الأول، 2020

تبدو مولدوفا عند مفترق حاسم. السياسة الداخلية نفَّرت الشارع، لأن “البرنامج النيوليبرالي” وهو عماد نظام تشسيناو، قد أفقر كتلة اجتماعية وازنة وحطها في دِرْكِ البؤس والعوز. أما السياسة الخارجية التي يعتمدها، فقد ابتعدت عن التوازن النافع للمصالح القومية. إن خطأ نظام الرئيسة ساندو في تعريف “نقطة التحول في التاريخ الأوروبي”، يمكن أن يكون قد وضع سيادة الجمهورية السوفياتية السابقة على شفا جرف جيوبوليتكي سحيق. ما يجيز السؤال عن سلامة “الطريق التاريخي” الذي اختارته تشيسيناو. وهل أنه يبعد المولدوفيين عن المأساة الكبرى أم يجرهم إليها.

 

الفقراء عند “أبواب الجَنَّة”

تبدو مولدوفا وكأنها انقسمت إلى غير رجعة. كان انتشار الفقر هو المحرك الأساسي للتظاهرات الإحتجاجية التي قامت في شوارع العاصمة تشيسيناو في آذار الماضي. لقد أوضحت إحصاءات الأمم المتحدة، أن نسبة المواطنين الذي يعيشون في حال الفقر المدقع أو هم يتعرضون له، نتيجة السياسات الحكومية، تبلغ نحو 4 بالمئة. أما نسبة كتلة الفقراء المولدوفيين، بكل فئاتهم، من إجمالي عدد السكان البالغ 2,516 مليون شخص (إحصاءات 2021)، فقد تجاوز الثلث. بعد ارتفاع نسبة “شدة الحرمان” بين المولدوفيين إلى 37,4 بالمئة، ما يعادل مليون مواطن تقريباً.

يتمسك نظام الرئيسة مايا ساندو، بـ”البرنامج النيوليبرالي” في الحكم، تحت مظلة خارجية، ويصر على سَوْقِ الشعب المولدوفي في “الطريق الطويل نحو اقتصاد السوق”. مع أنه سبب نشوء “الفجوة الإجتماعية/الطبقية” بين السكان، بقدر ما أنه “الطريق” إلى الإنقسام الوطني.

إن بيانات الأمم المتحدة الإحصائية المذكورة التي صدرت عام 2021 ـ 2022، لم تثن حكومة مولدوفا عن السياسات النيوليبرالية، ولم تراجع أضرارها. وهذا التطرف السياسي للحكام، الذي ضاعف عدد الفقراء بين المواطنين، عاماً بعد عام، هو الذي ألهب التظاهرات الشعبية في آذار 2023، احتجاجاً على ارتفاع أسعار الغذاء والوقود وسائر الخدمات، ورفضاً لبرنامج ساندو وجور نظامها.

لقد برزت شقة الخلاف بين المولدوفيين، بعد انهيار “الإتحاد السوفياتي” ونهاية “الحرب الباردة” في عام 1991. كان أنصار الغرب متلهفون إلى السلطة وإلى “النظام الدولي (الأميركي) الأحادي القطب” الناشئ، حينها، لكي يملأ “الفراغ الإستراتيجي” في البلاد على أنقاض النظام السوفياتي. واليوم، بعد نيف وثلاثة عقود، بات الإنقسام في المجتمع المولدوفي بليغاً. إذ أن “أنصار الغرب” الذين سيطروا على سلطة الحكم في تشيسيناو، أصبحوا قادة “أفقر دولة في أوروبا”. بينما يرفضون بكل تكبر وعجرفة، مساءلتهم عن النتائج الخرابية لـ”البرنامج النيوليبرالي” في حياة أبناء البلاد.

إن تحسن أو تدهور الوضع الإجتماعي المعيشي للمواطنين لا يشكل أولوية للنيوليبراليين في مولدوفا، ولا في غيرها من الدول التي ابتليت بحكمهم وتسلطهم. إذ أن هؤلاء يسيرون على المنهاج الأميركي الذي ينتهي إلى إفقار المنتحين. مثلاً، تبين أحدث الإحصاءات في الولايات المتحدة، أن الأسر والشركات والطبقة المتوسطة، “يعانون من عدم نمو الأجور الحقيقية، ومن التضخم المتراكم، وارتفاع الضرائب”. وأنه بينما تقدم إدارة الرئيس جو بايدن (جو النعسان) “صورة لامعة عن الإقتصاد”، ارتفعت الضرائب بنسبة 20 ـ 30 بالمئة على الأسر ذات الدخل المتوسط في عام 2022.

في مولدوفا، ترى المسؤولين في نظام تشيسيناو الذين يترددون على أسواق المال والأعمال في الخارج، يبرعون في “إغراء” المتمولين الأجانب للإستثمار في اقتصاد مولدوفا. لأن حكومة ساندو قد نجحت في تحويله إلى “جنة” للرساميل الخاصة، خصوصاً بقرارها تصفير الضرائب على الشركات المستثمرة في البلاد. وبالطبع، وكما رأينا في الكثير من دول العالم، فإن الفقراء يتكاثرون على أبواب هذه “الجنات” ولكنهم محرومون من اجتياز عتباتها.

إن هذه السياسة الضريبية الجائرة التي تحمي دخل المواطن الغني وتشفط دخل المواطن الفقير في مولدوفا، هي صناعة أميركية وغربية. وقد أكدت الإحصاءات الرسمية للإدارة الأميركية، أن العمال الأميركيين يتحملون نحو 70 بالمئة من زيادات الضريبة على دخل الشركات. كما أن الضرائب غير المباشرة باتت مصدراً من بين مصادر متعددة، لفقدان القوة الشرائية للأسر الأميركية”.

 

تعريف “نقطة التحول”؟

لقد علمنا التاريخ السياسي المعاصر أن المصائر الجيوبوليتيكية للدول، لا تحتمها السياسة الداخلية للحكومات فيها. وإنما تحدد هذه المصائر أيضاً ـ وأحيانا بشكل حاسم ـ خيارات السياسة الخارجية. ناهيك عن السياسة الدولية الغالبة أو السائدة في النظام الرأسمالي الدولي. لذا لا بد أن يقرن الحديث عن مستقبل مولدوفا، بما كتب عن “انحدار الغرب” الذي تقوده “الإمبراطورية الأميركية”. وكذلك، بما نسمعه اليوم، عن أن نتائج الحرب في أوكرانيا، هي “مسألة وجودية بالنسبة لأوروبا”، وإن هذه النتائج قد “تعني أن أوروبا فقدت أمنها”.

لقد رأينا في مولدوفا، وبالضبط، عقب المواجهات العنيفة التي دارت في شوارع تشيسيناو في آذار الماضي، كيف اهملت الرئاسة المولدوفية واجباتها في تعزيز الحماية الداخلية للنظام السياسي بكسب رضى الأغلبية الشعبية عنه. بل إن الرئيسة ساندو اشتغلت بالعكس تماماً. إذ استعانت بالحماية الخارجية للنظام من الولايات المتحدة وحلفائها، لإحباط حركة المتظاهرين بالقبضة البوليسية القاسية. ما كشف أن أولويتها السياسية كانت تهدئة “مخاوف الغرب من التظاهرات“، وليس تهدئة التوتر الإجتماعي وتخفيف الإنقسام الوطني في شوارع عاصمة البلاد.

تجلت “المعونة الأميركية” للنظام الحاكم في تشيسيناو، في تلك الأيام المتوترة، بالتصريح الرسمي الذي أصدره الرئيس الأميركي جو بايدن (جو النعسان)، وأَقَرَّ فيه بـ”تكثيف المشاركة الأميركية مع” حكومة ساندو في قمع احتجاجات المولدوفيين. بل يستدل من ذاك التصريح، أن واشنطن هي مصدر الذرائع السياسية ـ الأمنية التي نشرتها ساندو، وتحدثت فيها عن “مؤامرة روسية” ينفذها المتظاهرون.

أثبتت هذه “المعونة” الخارجية الغامضة، حتى الآن، أن الجمهورية السوفياتية السابقة هي في حال سيادة انتقالية. لكن واقع السيادة الناقصة فيها، يعود إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي. آنذاك، نقض “أنصار الغرب” المولدوفيين الإتفاق السياسي الذي انتهت إلى المفاوضات بين زعماء مولدوفا وترانسنيستريا (أو بريدنيستروفيه، وفق تسمية حكومة هذا الإقليم) وبمشاركة الإتحاد الروسي و”منظمة الأمن والتعاون في أوروبا”، في نيسان / أبريل 1994. واختاروا تغيير الهوية الثقافية للبلاد، وربطها بالحلف الغربي من خلال الوحدة مع رومانيا، ثم مع الإتحاد الأوروبي، ثم قرروا القطيعة مع روسيا.

وحسب تقارير مراكز الدراسات الغربية، مثل “معهد دراسات الحرب”، فإن كلا احتمالي وحدة أو تفسخ الكيان المولدوفي، ينبثقان من هذا التغيير الجذري في السياسة الخارجية. فقد عبرت هذه السياسة عن خيار القوى الحاكمة في تيشسيناو وبينت وجهة انحيازها، خلال مسار العالم نحو نظام دولي متعدد الأقطاب. ومن الواضح أنها اختارت الإنحياز الإقليمي إلى “الأوربة” / Européanisation، وكسب عضوية “الإتحاد الأوروبي”. كما اختارت الإنحياز الدولي إلى تيار “الأطلسة”/ Atlantisation. ومعنى ذلك في القاموس السياسي، اكتساب “الطباع الأطلسية”، وتنفيذ خطط “حلف شمال الأطلسي”/ “ناتو” في السياسة الخارجية.

من هذه “الطباع”، أن نظام الحكم النيوليبرالي في مولدوفا ماضٍ في تكييف المجتمع والإقتصاد، على هوى الإستثمار الأجنبي. رغم ان رموز هذا النظام يعترفون، بأن “تحرير الإقتصاد”، وهو من شروط “الأوربة” و”الأطلسة”، قد أغرق البلاد “في فترة شديدة التقلبات، وشديدة عدم اليقين”. إن النتائج الخرابية للحكم النيوليبرالي في تشيسيناو تحظى برعاية الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي. ويتم ذلك بأساليب كثيرة، مثل مسامحته عن “ضخامة الإتهامات بالفساد” التي يواجهها، أو بتشجيعه على التحايل السياسي والدستوري على الشعب للسير في خيار “الأوربة” و”الأطلسة”. مثلاً، لم تكن نسبة مؤيدي الإنضمام إلى “الإتحاد الأوروبي” و”الأطلسي” بين المولدوفيين، لتزيد عن 30 في المئة، حتى أواسط عام 2016.

لكن هذا الخيار يصطدم بتغير تعريف “نقطة التحول في التاريخ الأوروبي” ما بين شباط/فبراير 2022 وحتى اليوم. و”مخترع” هذا التعريف، يومها، كان الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون الذي ـ يبدو حالياً بعد أن فشل التحالف الأوروـ أميركي في تغيير الطبيعة الأوراسية لأوكرانيا، وكأنه ـ فوجئ بأن “مصير أمن أوروبا سيتقرر في نتيجة الحرب في أوكرانيا“. لقد غشيت بصيرة ماكرون وحلفائه عن فعالية الجهود العالمية المبذولة من أجل فتح “الطريق إلى عالم متعدد الأقطاب”.

ومن عجب أن تغَيُّر “نقطة التحول في التاريخ الأوروبي”، لم يدفع تشيسيناو إلى تبديل أي حرف في السياسة الخارجية. وربما جذبها إلى هذا المسار المتصلب قرار الإتحاد الأوروبي بدء المفاوضات لدمج مولدوفا في كيانه الجيوبوليتكي. وفي الأسبوع الماضي عندما زارت الرئيسة مايا ساندو باريس، لم تكن قد مضت مئة يوم على صدور القرار. ومع ذلك، فقد أبدت ساندو حماساً شديداً لـ“الإندماج” في الإتحاد الأوروبي، باعتباره “سبب وجود” لبلادها. ولم يفوتها أن تنفخ في “قِرْبَةِ الحرب”، بعدما وقعت “اتفاقاً” مع فرنسا ينص ـ بحسب ماكرون ـ على “بدء مهمة دفاعية دائمة [للجيش الفرنسي] خلال الأشهر المقبلة في تشيسيناو”.

من الواضح أن “حلف شمال الأطلسي/ناتو” مُقْدِمٌ على فتح بؤرة توتر جديدة في البلقان شمال غرب البحر الأسود بين رومانيا وأوكرانيا، من خلال الضم الإستباقي لدولة مولدوفا إلى كيانه السياسي ـ العسكري. ويجري التمهيد لهذا التوسع “الأطلسي” الجيواستراتيجي منذ سنوات. فمن بعد خيبة الحلف الأورو ـ أميركي في تحقيق أهدافه في أوكرانيا، تبدو مولدوفا وكأنها مرشحة لتصير حصناً رديفاً للأعمال الحربية “الأطلسية”.

فهل هي قادرة على تقبل النتائج الوخيمة التي ستترتب على هذه “الوظيفة الإقليمية” البائسة. وهل يكفي الإعتراف الأميركي بقيمة هذه “الوظيفة” لضمان سيادة دولة مولدوفا. ماذا لو قبلت روسيا طلب الحماية الذي قدمه “برلمان بريدنيستروفيه” لها. أتبقى السيادة أم يغرق “الحصن الرديف” في “نقطة التحول في التاريخ الأوروبي” و… العالمي.

 

مركز الحقول للدراسات والنشر

‏الأحد‏، 08‏ رمضان‏، 1445 الموافق ‏17‏ آذار‏، 2024

COMMENTS