أصبحت العرب عشية “قمة جدة”. زحمة الحركة في الكواليس الديبلوماسية توحي بأن المضيف والضيوف يريدون مرحلة جديدة من العمل العربي المشترك. وهذا ليس مفاجئاً. لأن معلومات المتابعين كانت تؤكد منذ شهر شباط/فبراير الماضي، أنه سيتم ترميم النظام الإقليمي العربي، المسمى “جامعة الدول العربية”، من خلال “مشاركة الجمهورية العربية السورية في هذه القمة، ومسعى المملكة العربية السعودية إلى لم الشمل العربي بكل جهدها، لكي لا تكون أي دولة عربية خارج القمة”.
بيد أن “لمة الشمل العربي” كانت لتكتمل لولا قطر. فالنظام الرجعي في هذه الإمارة الصغيرة يتقصد تخريب التقارب العربي مع سوريا، كلما حان وقت اجتماع القمة العربية. ومن يومين، خرج المتحدث باسم الخارجية القطرية بتصريح قال فيه : إن الدوحة “ليست بصدد تطبيع علاقاتها مع سوريا، وهي على موقفها الثابت منها“. وادعى بأنه “لا يوجد إجماع عربي على التطبيع مع النظام في الوقت الحالي”. ثم استرسل مثرثراً عن “مؤشرات لا توحي بأي تطور لافت في سوريا”، يلائم “تطلعات الشعب” و”مطالب الجماهير” هناك.
هكذا، تهل “قمة جدة” وقطر”على جاري عادتها” بشرذمة الموقف العربي. نعم، “جاري عادتها”، لأننا نتذكر المساعي الديبلوماسية التي سبقت “قمة الجزائر” (تشرين الثاني/ نوفمبر 2022)، وكيف اصطدمت، وقتها، بموقف وزير خارجية قطر، الذي رفض مشاركة الحكومة السورية في أعمال القمة العربية تلك. وكان مشهداً ذو مغزى خطير، أن “الشيخ القطري” اختار “عرض عضلاته” بوجه العرب، أثناء مؤتمر صحفي بمشاركة نظيره التركي، الذي كان يمهد لزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الدوحة.
أحدثت قطر توتراً عربياً كبيراً قبيل تلك القمة التي كانت مقررة في آذار/ مارس 2022. فـالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون كان قد أعلن “بأن استمرار تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، أمر لم يعد مقبولاً ولا مفهوماً، بخاصة بعدما انفتحت حكومات خليجية على النظام السوري، برغم تبنيها سابقاً موقفاً عدائياً منه”. إلا أن الوزير القطري رد قائلاً : بأننا “لم نر أي تقدم أو تطور في سلوكيات النظام السوري. لذلك، فلا منطق من تطبيع العلاقات معه ولا أن نسمح له بأن يحضر القمة العربية”.
نتج عن موقف قطر “توسع دائرة الخلافات العربية ـ العربية” على نحو كاد أن يطيح بالموعد الجديد لـ”قمة الجزائر” في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وهو الموعد الذي كانت الأمانة العامة لـ”جامعة الدول العربية” قد أعلنته قبل شهور. حتى إن الذين كانوا يتساءلون عما إذا كانت قمة الجزائر ستعيد سوريا إلى جامعة الدول العربية، باتوا قلقين، حينها، من “ترجيح تأجيلها من جديد”، لا سيما وأن مواقع إخبارية غربية كتبت بشماتة عن أن “قمة الجزائر” تراوح بين الانعقاد والتأجيل مجددا.
وإذا كانت دمشق قد أنقذت “قمة الجزائر” السابقة، بإعلانها، نقلاً عن الإعلام الجزائري، أنها “تستبعد نفسها من شغل المقعد في هذه الدورة”، فإن الدوحة ستكون بحاجة إلى من ينقذها من الفشل في “قمة جدة” القادمة. وهذا التوقع لمستقبل الديبلوماسية القطرية في سوريا المركزية وعموم الشام، يظل صحيحاً، ويشكل رؤية كاملة إلى خُبوّْ “نجم” النظام القطري في العرب والإقليم وكذلك في العالم. بما أن أسبابه لا تنحصر بمسألة حضور الرئيس بشار الأسد “قمة جدة” أو إرسال من ينوب عنه، ولا بملف استرداد سوريا مقعدها في “جامعة الدول العربية”.
إن تصريح خارجية قطر ضد مشاركة سوريا في قمة جدة هو مؤشر هام على هذا الخُبوّْ المتسارع. فقد أتى نسخاً حرفياً عن بيان وزارة الخارجية الأميركية الذي يدعو إلى وقف التطبيع السياسي والديبلوماسي مع الجمهورية العربية السورية. وهذا “التكرار الديبلوماسي” للموقف الأميركي، يفتح باب النقاش الهادئ في مسألة ارتباط النظام القطري بالنخبة الصهيونية النافذة في الولايات المتحدة. والذي اتسع برأينا، بعد الوثيقة السياسية الخطيرة التي نشرتها هذا الأسبوع صحيفة ذا غارديان البريطانية.
لقد اطلع الرأي العام العربي بطرفيه المتعارضين، الذين يدينون موقف قطر والذين يحابونه، على هذه الوثيقة التي جاءت على شكل “رسالة غير مسبوقة بعثها العشرات من المسؤولين الأميركيين السابقين، إلى إدارة “جو النعسان” ووزير خارجيته أنطوني بلينكن. وطالب الموقعون عليها الإدارة “باتخاذ خطوات لمنع الدول العربية من تطبيع العلاقات مع الزعيم السوري” بشار الأسد، ووقف “الإنجراف الإقليمي” نحو التطبيع مع سوريا. كما حذروا إدارة بايدن من أن “جهود التطبيع المتفرقة من قبل بعض الحكومات الإقليمية [مع سوريا] لا تعالج مصالح الأمن القومي الأميركي”.
إن تصميم قطر على معاكسة موجة “الإنجراف الإقليمي” العربي نحو سوريا، ينبثق، إذن، من قوة التزامها بـ”مصالح الأمن القومي الأميركي” و”الأمن الإسرائيلي” أيضاً. لأن أدلة متعددة برزت من سنوات تبين خشية الكيان الصهيوني من تبعات هذا “الإنجراف” والسعي “الإسرائيلي” الحثيث لإجهاضه. ولذلك، ثرثر المسؤول القطري عن “دماء الضحايا” السوريين لحرف الإهتمام عن هذه التفاعلات الجيوبوليتيكية، ومنها نجاح شقيقات قطر في “التعاون الخليجي”، ولا سيما السعودية، في أن تكسر باراديغم/ قالب السياسة الخارجية الذي أسرها طيلة العقد الأخير.
إلا أن إمارة قطر بتصريحاتها ضد سوريا، إنما تتشبث بهذا الباراديغم البائس، الذي يخرب الأمن القومي العربي. تريد هذه الدولة المجهرية أن تناطح الجمهورية العربية السورية، بهذا الباراديغم المهترئ المتكامل مع المصالح الجيواستراتيجية الأميركية (ـ “الإسرائيلية”). يتكل النظام القطري على قواعد الإحتلال العسكري الأميركي (والتركي!!!) لبلاده لضمان “الأمن القومي” فيها، مع أن الأميركيين أنفسهم يقرون بانهيار هذا الباراديغم، وملؤهم الريبة، الآن، من أن “تعمل روسيا والصين على تشكيل نظام عالمي جديد لا مكان فيه للولايات المتحدة الأميركية”!.
هكذا تبدو حالة قطر عشية القمة العربية في جدة. تكاد هذه الإمارة العربية الصغيرة، أن تكون أشبه بحاملة طائرات أميركية تهيم في المحيطات أو كقطار “سوفياتي” يعتل الصواريخ على سكك الحديد اللامتناهية، أو كأنها مرصد فضائي معزول في جبال الأنديز. مجرد آلة يديرها شخص أو أشخاص قد يجري استبدالهم يوماً أو تستبدل الآلة ذاتها. يا له من مستقبل.
وهكذا أيضاً، نفهم أحد معاني مقولة “النظام الرجعي في قطر”، النظام الرجعي الذي يبدد الأموال الطائلة تلهفاً على أمنه وسلطته. وكان ليوفر هذه الثروات لو قرأ “كم حرف” مما كتب ونشر، عن بناء منظومة عربية ـ إقليمية للأمن والتعاون قادرة على التكيُّف مع “عالم فوكا”، الذي وسم النظام الدولي الحالي بـ”التقلّب الشديد (Volatile)، واللايقين (Uncertainty)، والتعقيد (Complexity)، والغموض (Ambiguity)”، ما ترك الدول قاطبة رهينة أحوال “عالم فوكا” (VUCA WOLRD). أما السر العميق الذي لم يفك لغزه حكام قطر، حتى الآن، فهو دور سوريا في “خلق” هذا النظام الدولي الإنتقالي وصدارتها فيه.
عشية القمة العربية في جدة، وفي الذكرى ال 47 لـ”يوم الأرض” لا بد أن نحيي سوريا الصّابرة حاضنة فلسطين المقاوِمة.
هيئة تحرير موقع الحقول
الخميس، 09 رمضان، 1444 الموافق 30 آذار، 2023
آخر تحديث يوم الأحد 21 أيار، 2023
COMMENTS