[… كثر الحديث خلال الأسابيع الأخيرة في وسائل الإعلام وفي النقاشات الرسمية الإسرائيلية (على مستوى الكابينت الأمني السياسي، وكابينت الحرب) عن المرحلة الثالثة من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. هذا الانتقال يتم تقديمه أحياناً كاستجابة لضغط الولايات المتحدة، وأحياناً أخرى كاستجابة للضرورات العسكرية الميدانية. وبصرف النظر عن دوافع هذا الانتقال، فإنه أثار خلافات وأحدث تباينات بين أقطاب “كابينت الحرب” و”الكابينت الموسّع” في إسرائيل لأسباب عديدة ليس أقلّها التشكيك في كون هذا الانتقال يٌعد إعلاناً ضمنياً عن انتهاء الحرب من ناحية، ناهيك عن التصريحات حول صلاحية “كابينت الحرب” في اتخاذ مثل هذا القرار.
في هذه المساهمة، نحاول الوقوف أكثر على طبيعة المرحلة الإسرائيلية الثالثة التي يدور الحديث عنها في الحرب الدائرة على القطاع، أبرز ملامحها، وما هي دلالاتها الحقيقية. في محاولة للإجابة على سؤال ما إذا كانت هذه المرحلة تُحيل بالفعل إلى خفض القتال أم إلى إعادة الاحتلال العسكري للقطاع وسط التصريحات الإسرائيلية العلنية المُطالبة بذلك.
أبرز ملامح المرحلة الثالثة من الحرب على قطاع غزة
“أنا أعمل بهدوء وأضغط على إسرائيل من أجل الانسحاب بشكلٍ كبير من غزة”، هكذا كان رد الرئيس الأميركي جو بايدن على متظاهرين قاموا بمقاطعة خطابه في كارولينا الجنوبية بشعار “وقف إطلاق النار الآن!”. هذا التصريح جاء وسط الحديث والنقاش الدائر في وسائل الإعلام، وكذلك في الأوساط السياسية الإسرائيلية التي تحدّثت عن أن الولايات المتحدة تعمل على إقناع إسرائيل للانتقال إلى اللمرحلة الثالثة من الحرب على غزة. وقد جاء ذلك كلّه بالتزامن مع الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لإسرائيل خلال الأيام الأولى من العام الحالي، والتي كان هذا الموضوع محوراً مركزياً فيها، ما دفع كلاً من بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت لاستباق الزيارة بالتعبير عن أن إسرائيل تسعى للحصول على هامش للمناورة الدولية تُمكّنها من الاستمرار في الحرب، وبأنها انتقلت فعلياً إلى المرحلة الثالثة من القتال.
السؤال إذاً، ما هي المرحلة الثالثة من الحرب وبماذا تختلف عن المرحلتين الأولى والثانية؟
يوآف زيتون، المحلل العسكري لصحيفة “يديعوت أحرونوت“، يصف مراحل الحرب الإسرائيلية على القطاع على النحو التالي: المرحلة الأولى اعتمدت استراتيجية التدمير والقصف الجوي الواسع الذي أحدث تدميراً غير مسبوق في القطاع، فيما اتسمت المرحلة الثانية بانطلاق “المناورة البرية” في 27 تشرين الأول من العام المنصرم، التي تركّزت في مناطق شمال قطاع غزة بهدف “القضاء على البنية التحتية العسكرية لحركة حماس” والعمل في بعض مناطق الوسط والجنوب. فيما ستركّز المرحلة الثالثة على مناطق وسط وجنوب القطاع، وتتسّم بأنها أقل كثافة من الناحية العسكرية وتواجد الجيش في مناطق شمال القطاع، وتعتمد استراتيجية “العمليات المركّزة” التي تهدف إلى اغتيال وتصفية قيادات حركة حماس السياسية والعسكرية، وسط استمرار العمل بالكثافة العسكرية العالية في وسط وجنوب القطاع (خانيونس والنصيرات والبريج والمغازي وغيرها). في هذا السياق، أشرنا في مساهمة سابقة تناولت معنى “المناورة البرية متعدّدة الأبعاد” كما يراها عومر دوستري في قطاع غزة، إلى أن المراحل الإسرائيلية للعمل ستكون على النحو التالي: 1) المرحلة الأولى تركّز على منطقة شمال غزة بما في ذلك مدينة غزة من اتجاهات مختلفة؛ 2) تطويق دير البلح في وسط وشمال القطاع، ونشر القوات من الشمال (غرباً على الساحل، وشرقاً في المناطق المفتوحة الحدودية مع إسرائيل)؛ 3) المرحلة الثالثة تركّز العمل في منطقة وسط- جنوب (خانيونس)؛ 4) أمّا المرحلة الرابعة والأخيرة فستركّز على مدينة رفح جنوباً بالقرب من الحدود المصرية.
“المناورة البرية” وهامش إعادة احتلال القطاع
لم يكُن من قبيل الصدفة استخدام إسرائيل مصطلح “المناورة البرية” لوصف العملية العسكرية البرية في قطاع غزة نهاية تشرين الأول من العام المنصرم، وقد أشرنا في مساهمة سابقة تناولت “المناورة البرية” من حيث المعاني والأبعاد النظرية العسكرية، وكذلك ترجماتها العملية على الأرض، إلى أن الواضح أن هذا المصطلح يشير في القاموس العسكري الإسرائيلي إلى أسلوب هجومي يشمل هجمات تكتيكية واستراتيجية تُمكن الجيش من الحصول على التفوق بالقوة، وبالميزة العسكرية، من خلال الحركة المتزامنة والمتكاملة (غير النمطية) بغية تحسين قدرات الجيش الإسرائيلي على البقاء في أرض المعركة وتحسين القدرة على ضرب “العدو” بهدف تحقيق “النصر”، ما يعني أن “المناورة البرية” لا يُمكن اعتبارها جولة قتالية تُشبه الجولات السابقة على قطاع غزة، ليس من حيث كثافة النيران والتدمير والقتل، ولا من حيث اختلاف التسمية التي رافقت إعلان حالة الحرب فقط؛ وإنما أيضاً من حيث “اليوم التالي” للحرب، وهو ما يعني أن إسرائيل لن تعود إلى استراتيجية “الهدوء مقابل الهدوء”.
في كل الحروب العسكرية السابقة في قطاع غزة، كانت وجهة إسرائيل في النهاية هي الخروج من قطاع غزة (الانسحاب العسكري) بعد أن يتم توجيه ضربة عسكرية تُضعف قدرات حركة حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من فصائل المقاومة، إذ لم تكُن في الحروب السابقة (2006، 2008-2009، 2012، 2018، 2021) مسألة بقاء الجيش في غزة (إعادة احتلال القطاع عسكرياً والعودة إلى ما قبل وضع يُشبه ما قبل الانفصال 2005) هدفاً إسرائيلياً مُعلناً أو خفياً، وبمجرّد انتهاء الحرب، كانت إسرائيل تعود إلى استراتيجية “الهدوء مقابل الهدوء”، استناداً إلى “التصور” الذي حكم السياسات والممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ العام 2009 على الأقل، وهو “التصور” الذي تبنّاه بشكل رئيس بنيامين نتنياهو منذ تسلّمه منصبه، وهو ما بات يُعرف في الأدبيات الإسرائيلية بـ “إدارة الصراع”.
مع اندلاع هجوم طوفان الأقصى صبيحة السابع من أكتوبر المنصرم، راج مصطلح “انهيار التصور” في النقاشات والسجالات الإسرائيلية، بشكل وضعه في صلب الخطاب السائد في إسرائيل الذي يُطالب بضرورة تغيير السياسات والممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين عموماً، وليس في قطاع غزة بشكلٍ خاص. إن “انهيار التصور” يعني بشكلٍ ضمني أن إسرائيل باتت مُطالبة بإعادة بناء “تصور جديد” كمُحدد للسياسات والممارسات في التعامل مع القضية الفلسطينية ومن ضمن ذلك سياسات إسرائيل وممارساتها تجاه قطاع غزة، وهو ما يعني بالضرورة أن إسرائيل لن تعود إلى استراتيجية “الهدوء مقابل الهدوء”، ما يعني أن الانسحاب العسكري من القطاع غزة لم يعُد قائماً بتاتاً، أو على الأقل ليس قائماً حتى تحقيق هدف الحرب المُعلن إسرائيلياً (القضاء على حركة حماس).
بعد مئة يوم من الحرب: تخفيض القتال أم إعادة احتلال؟
إن الحديث إسرائيلياً عن الانتقال إلى المرحلة الثالثة في الحرب على القطاع دون الحديث عن طبيعة وإنجازات المرحلتين الأولى والثانية العسكرية يُثير الكثير من التساؤلات. وعلى الرغم من ذلك، يُمكن الادّعاء- استناداً إلى طبيعة “العمليات الحربية” الإسرائيلية خلال المئة يوم الماضية- أن المرحلتين الأولى والثانية تُحيلان بالفعل إلى القصف الجوي العنيف قُبيل الدخول البري (المرحلة الأولى)، والهجوم البري العسكري العنيف باستخدام عدد ضخم من القوات (المرحلة الثانية)، على أن تتضمّن المرحلة الثالثة إعادة احتلال قطاع غزة عسكرياً لأسباب تتراوح بين “حاجات إسرائيل الأمنية”، النزعات الاستيطانية لليمين الصهيوني، ناهيك عن هامش المناورة الدولية.
رونين إيتسيك، اللواء السابق في سلاح المدرعات التابع لسلاح البر، أشار في محاولة الإجابة على سؤال معنى “المناورة البرية” في بداية الحرب إلى أن هذا المصطلح يتضمن مراحل ثلاثة: 1- “مناورة الإغارة”؛ 2- “مناورة التطويق والحصار”؛ 3- “مناورة الاحتلال بهدف التطهير”، وقد أوضحنا بالتفصيل في مساهمة سابقة أن لكل مرحلة من هذه المراحل أهدافاً محددة تتضمن العديد من الوسائل والخيارات العملياتية التي قد تتجاوز التدخل العسكري القتالي، وهي مجتمعة تتكامل لتحقيق أهداف “المناورة البرية” في القطاع. استناداً إلى هذا الرأي، فإن المرحلتين الأولى والثانية تضمّنتا بالفعل عمليات “إغارة” من الجو والبرّ والبحر، بالإضافة إلى عمليات تطويق وحصار لمناطق شمال قطاع غزة على وجه التحديد (وهذا ما يحصل بالفعل حالياً في مناطق الوسط والجنوب)، ما يجعل من المرحلة الثالثة هي مرحلة إعادة احتلال بالفعل لمناطق شمال القطاع التي يدور الحديث عن الانتقال إلى المرحلة الثالثة فيها دون الوسط والجنوب.
إن إعادة احتلال القطاع عسكرياً تحت شعار “تخفيض القتال” ضمن المرحلة الثالثة (وإن تركّز هذا الأمر حالياً في مناطق شمال القطاع) يُمكن تأطيره في ضوء العوامل والاعتبارات التالية:
- الاعتبارات الأمنية- العسكرية الإسرائيلية:
إن استمرار إخفاق الجيش في تحقيق الهدف العسكري الإسرائيلي في هذه الحرب، والمتمثّل في “القضاء” على حركة حماس، يفرض على المؤسستين الأمنية والعسكرية اللجوء إلى السيطرة على كامل الأرض في المناطق التي يعمل فيها. ورغم أن الحديث الحالي يدور عن شمال القطاع لاعتبارات عملياتية فهذا الأمر ينطبق على كامل القطاع بعد انتهاء العمل العسكري الكبير. هذه العملية تتضمن التنقّل بين المنازل والأحياء والطرقات بهدف “تطهيرها من المقاتلين ومخازن الأسلحة والصواريخ والأنفاق” كما أشار إيتسيك، بشكل يُمكنّها من الوصول إلى مرحلة “القضاء التام على قدرات حركة حماس العسكرية” وهو الأمر الذي قد يحتاج إلى أشهر طويلة وربّما إلى سنوات بحسب الكثير من المسؤولين الحاليين والسابقين في المؤسستين الأمنية والعسكرية، في هذا السياق، أكّد هرتسي هليفي- رئيس هيئة أركان الجيش أن الجيش سيقاتل في قطاع غزة طوال العام 2024، مُشيراً إلى أن هذا العام هو عام حرب. كما أشار عضو كابينيت الحرب أرييه درعي رئيس حزب شاس، إلى أن وجهة إسرائيل في المرحلة المقبلة هي البقاء في قطاع غزة بقوات كبيرة لسنوات حتى يتم إزالة التهديدات والقضاء على قيادة حركة حماس. وهذا من ناحية.
من ناحية ثانية، أكّد بنيامين نتنياهو أن إسرائيل تسعى من خلال هذه الحرب إلى “المحافظة على حرية عمل عسكري للجيش وسيطرة أمنية كاملة على قطاع غزة”، كما أكّد بيني غانتس أن “إسرائيل ستحافظ على حرية عمل عسكري في القطاع ضمن عملية طويلة ومعقّدة وضرورية تتفاوت درجات شدّتها، لكنها ستستمر أشهرا وربما سنوات لن تنتهي بالعودة إلى ’الهدوء مقابل الهدوء’”، مُشيراً إلى أن “إسرائيل ستفرض سيطرة أمنية شاملة على القطاع في نهاية الحرب، بما في ذلك الاستيلاء على الأراضي التي تسمح بمواصلة العمليات العسكرية في كل القطاع”. هذا الأمر يُشير إلى أن إسرائيل تسعى بالفعل إلى خلق واقع أمني وعسكري شبيه بالواقع القائم في الضفة الغربية منذ انتهاء الانتفاضة الثانية وإعادة اجتياح المناطق المصنّفة “أ” وفق التقسيم الإداري لاتفاق أوسلو. يُضاف إلى ذلك أن المرحلة الثالثة التي يدور الحديث عنها تستند إلى “عمليات الإحباط المركّز والدقيق” كما يُشار إلى ذلك في القاموس العسكري الإسرائيلي، وهو ما يُمكّنها من الوصول إلى القيادات العسكرية والسياسية لحركة حماس وفصائل المقاومة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى إعادة انتشار الجيش، أو التموضع في نقاط عسكرية محدّدة تُشكّل نقاط انطلاق له في تنفيذ هذه العمليات سواءً أكانت من البرّ أم البحر أم الجو. في هذا السياق، يُمكن القول إن تجربة إسرائيل خلال عقود من الاحتلال في الضفة الغربية مكّنتها من تطوير تقنيات تستطيع من خلالها السيطرة على مساحات جغرافية كبيرة من خلال عدد قليل من الجنود. وهي تقوم بذلك من خلال تقنيات مثل: 1) تفتيت الجغرافيا، خلق تباينات إدارية (منطقة عسكرية، منطقة مغلقة، حزام… إلخ)؛ 2) تقنيات رقابية (الكاميرات، الطائرات المسيرة، أجهزة التنصّت… إلخ)؛ 3) استخدام العنف المستمر (التدخل العسكري المباشر). وهذا يعني أن بإمكان إسرائيل أن تحلّ الأزمة المتولّدة من تجنيد مئات الآلاف من جنود الاحتياط عبر تسريحهم والإعلان بأنها انتقلت إلى المرحلة الثالثة (وهي باختصار إعادة الاحتلال العسكري) وذلك بالاستناد إلى هذه التقنيات التي طورتها داخل الضفة الغربية. وهذا بالفعل ما حصل مؤخراً في مناطق شمال قطاع غزة حيث تم الإعلان عن تسريح عشرات آلاف جنود الاحتياط مع الاحتفاظ بنقاط عسكرية لاستكمال “المناورة البرية” في تلك المنطقة.
- الاعتبارات الإيديولوجية (البرتقالية) لليمين، واعتبارات نتنياهو السياسية:
لم يعد خفياً على أحد أن مسألة إعادة احتلال قطاع غزة ليست محكومة لاعتبارات إسرائيل الأمنية- العسكرية فقط؛ وإنّما أيضاً لاعتبارات أيديولوجية- سياسية لليمين الصهيوني الذي يُطالب بشكلٍ واضح بضرورة إعادة احتلال القطاع ناهيك عن مطالبات إعادة الاستيطان والعودة إلى الواقع الذي كان قائماً قبل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع العام 2005. مثلاً، الوزير بتسلئيل سموتريتش رئيس حزب الصهيونية الدينية أكّد أن وجهة إسرائيل البقاء في قطاع غزة، مُضيفاً أن القواعد العسكرية هذه لا يُمكن حمايتها بدون وجود حياة مدنية قاصداً المستوطنات التي تبثّ فيها الحياة بحسب قوله، وهو ما أثبتته تجربة الاستيطان في الضفة الغربية، ناهيك عن كل الحراكات والمبادرات والحملات التي تقودها المجموعات الاستيطانية المطالبة بعودة الاستيطان في قطاع غزة، وهذا من ناحية.
من ناحية ثانية، تُشكّل الاعتبارات السياسية والدوافع الشخصية لبنيامين نتنياهو دافعاً إضافياً لإعادة احتلال القطاع للتعويض عن فشل نظريته في التعامل مع قطاع غزة ضمن نظرية “إدارة الصراع” التي شكّل شعار “تقوية حماس وإضعاف السلطة” أحد أبرز مركّباتها خلال سنوات حكمه. هذا الأمر (إعادة احتلال القطاع عسكرياً) يضمن إطالة أمد الحرب لأطول فترة ممكنة، وبالتالي، القدرة على الاستمرار في منصبه رئيساً للوزراء طالما أن نهاية الحرب باتت مقترنة بالنسبة له بنهاية مستقبله السياسي ربّما، بالإضافة إلى مواجهة استحقاقات قضائية مركّبة (الفشل الأمني في أحداث هجوم طوفان الأقصى، الفشل في إدارة العمليات العسكرية في الجنوب والشمال ناهيك عن الملفات القضائية ومحاكماته التي تم تأجيلها بسبب الحرب).
من ناحية ثالثة، فإن نتنياهو يُدرك أن بقاءه في منصبه هذا لأطول فترة ممكنة، ربّما حتى نهاية ولايته الحالية على الأقل (التي تبقّى لها قرابة 3 سنوات) يحتاج إلى الحفاظ على تماسك كتلة اليمين السياسية بما في ذلك أحزاب اليمين المتطرّف (حزبا عوتسما يهوديت بقيادة إيتمار بن غفير، والصهيونية الدينية بقيادة سموتريتش)، وهو ما يجعله عرضةً لابتزازات وضغوط تيار اليمين الصهيونية المتطرف، بما في ذلك رغبة تيار الصهيونية الدينية الداعي لإعادة الاستيطان بعد إعادة احتلال القطاع العسكري والمماطلة في إنهاء الحرب والانسحاب منه عبر خلق “حالة حربية” مستمرة.
- ضغط الولايات المتحدة وصورة إسرائيل في العالم:
مما لا شكّ فيه أن الانتقال للمرحلة الثالثة من الحرب في قطاع غزة ارتبط بالولايات المتحدة في النقاشات الإسرائيلية، من حيث أن تصوير الولايات المتحدة أنها ضغطت على إسرائيل من أجل الانتقال لهذه المرحلة التي ستضمن بحسب ادّعاءاتها التقليل من الخسائر في أرواح المدنيين الفلسطينيين والتركيز على “العمليات المركّزة” لتصفية القيادتين العسكرية والسياسية لحركة حماس في قطاع غزة، ذلك بعد أن ارتكبت إسرائيل مجازر جماعية وإبادة شعب في قطاع غزة، واستهدفت بشكل غير مسبوق في التاريخ الحديث البنية التحتية المدنية في القطاع، نتج عنها استشهاد وإصابة قرابة 100 ألف فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال المدنيين، وهو ما وضع حليفة إسرائيل التي قدّمت دعماً سياسياً وعسكرياً لإسرائيل غير مسبوق في “حرج أخلاقي”. بالنسبة لإسرائيل، يُشكّل الانتقال إلى المرحلة الثالثة، والتي تعني إعادة الاحتلال كما نُجادل في هذه المساهمة، مخرجاً تُضلّل به الرأي العام الدولي وتُعطي حليفتها مساحات للحديث عن إنهاء الحرب أو تخفيض حدّة الحرب، أمام “الضائقة الأخلاقية” التي باتت تُعاني منها في العالم بعد ارتكاب المجازر والإبادة وعمليات التدمير، والتي تكلّلت بوضع إسرائيل في قفص الاتهام في محكمة العدل الدولية بعد أن تقدّمت دولة جنوب أفريقيا بدعوى قضائية ضدّها لارتكابها “إبادة جماعية” في قطاع غزة بشكلٍ منظم وممنهج. هذا المخرج قد يكون بتحويل القطاع إلى “منطقة حربية” فيها حالة “حربية دائمة”.
قبل الختام، إن المجادلة بأن الانتقال للمرحلة التي تُمثّل إعادة احتلال القطاع عسكرياً (وتحديداً في شمال القطاع في الفترة الحالية) لا ينفي حقيقة استمرار الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة منذ العام 1967 والذي اتخذ شكلاً آخراً بعد الانسحاب منه في العام 2005 (الانسحاب العسكري وتفكيك المستوطنات) مع الاحتفاظ بسيطرة شاملة على القطاع تمثّلت في الحصار المُطبق المفروض على القطاع براً وجوً وبحراً منذ ذلك الحين.
إن إعادة الاحتلال المُشار إليها في هذه المساهمة هي إحالة إلى أن وجهة إسرائيل هي العودة إلى الاحتلال المباشر مرة أخرى (العودة إلى ما قبل العام 2005) عبر إعادة السيطرة العسكرية على الأرض في القطاع، وقد يكون الحديث إسرائيلياً عن حرب طويلة ومستمرة هو تكتيك من أجل خلق “مسمار جحا” يضمن لها البقاء العسكري في القطاع على مدار فترة طويلة تتمكن خلاله من الوصول إلى تسوية أو صيغة سياسية تشبه ما هو قائم في الضفة. في الحقيقة، تسعى إسرائيل إلى تضليل الرأي العالم العالمي والإقليمي والمحلي بتحويل قطاع غزة إلى “منطقة حربية” فيها حالة “حرب مستمرّة” لكن بوتيرة قتالية منخفضة تضمنها وتوفرها المرحلة الثالثة المُشار إليها، هذه المرحلة كما أشرنا تعتمد بشكلٍ رئيس على المعلومات الأمنية الاستخبارية لتنفيذ عمليات “الإحباط المركّز”- الاغتيالات وتدمير البنية التحتية العسكرية لحركة حماس، لكنها في الوقت نفسه لا تتحقّق إلّا من خلال السيطرة الأمنية والعسكرية التي تتطلّب تواجداً عسكرياً دائماً، بما يشمل إقامة “حزام عازل” على طول الحدود مع القطاع، نقاط عسكرية ثابتة ونظام حواجز كما أوضحنا سابقاً، وسيطرة إسرائيلية على محور فيلادلفي غزة الحدودي مع مصر، ما يعني إعادة احتلال القطاع من جديد، وخلق واقع عسكري- أمني- سياسي شبيه بواقع الضفة الغربية المحتلة منذ أكثر من 20 عاماً. يبقى القول أن هذا الأمر في نهاية المطاف يُعبّر عن رغبة إسرائيل، بالتالي، لا يُمكن اعتبار تنفيذه أمرًا مُحققاً لا مفرّ منه، ذلك لأن الصورة النهائية للحرب لم تكتمل بعد، وأن هذه الصورة ستُسهم في تشكيلها الكثير من العوامل والمتغيرات والفواعل التي تُعد إسرائيل واحدة منها وبالتأكيد ليست كلّها.]
عبد القادر بدوي، كاتب وباحث عربي من فلسطين.
النص منشور على صفحة “المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية”، يوم 15 كانون الثاني / يناير، 2024
COMMENTS