الرفاه الأوروبي في “المصيدة الأوكرانية” ؟

الرفاه الأوروبي في “المصيدة الأوكرانية” ؟

رساله أخرى إلى أحفادي : سيطيب لكم قراءة كتاب”هذيان فتاة في العشرين”
Slavery played out on global scale: Journal of Colonialism and Colonial History reviews “The Apocalypse of Settler Colonialism”
“بيان الإنتصار” : الأسرى الفلسطينيون يعلقون الإضراب بعد رضوخ الإحتلال الصهيوني لمطالبهم

حمل المفوض الأوروبي للاقتصاد، باولو جنتيلوني توقعات متشائمة عن مؤشرات النمو في الإتحاد الأوروبي. وخلال مؤتمر صحفي عقده الخريف الماضي، قال : إن “النشاط الاقتصادي توقف في الربع الثاني، وأن المؤشرات تنبئ بمزيد من الضعف في الأشهر المقبلة”. ولفت إلى أن “ارتفاع التضخم الذي لوحظ لعب دورًا أساسيًا بانخفاض بالغ بقيمة مدخرات المستهلكين”. لكن موظفي “صندوق النقد الدولي” ربطوا ذلك، بارتفاع الأسعار، خصوصاً “أسعار الطاقة التي زادت من تكلفة المعيشة للأسرة الأوروبية العادية بنحو 7 في المئة” وألقوا باللائمة في ذلك على الحكومات الأوروبية.

وقد نبه جنتيلوني من أن “حالة عدم اليقين بشأن الاقتصاد الأوروبي لا تزال مرتفعة بشكل استثنائي”، وربط ذلك بالوضع في “ألمانيا، التي ـ كما قال ـ هي الدولة الوحيدة، من بين الاقتصادات الأوروبية الكبرى، ذات النمو السلبي”. لكنه اعترف بأن ذلك من “عواقب الحرب في أوكرانيا”. وبالفعل، فقد ظهرت هذه “العواقب” في نتائج “البارومتر الأوروبي الثاني حول الفقر وعدم الاستقرار”. حيث تبين أن “الأوروبيين على المستوى القاري يعيشون وضعاً اجتماعياً صعباً جداً”، وذلك ” الخلفية الصعبة للغاية من الارتفاعات الحادة جدًا في الأسعار في أوروبا منذ بداية عام 2022″ عندما بدأت تلك “الحرب”.

وتنقل هذه الدراسة الإحصائية ـ التحليلية التي أجرتها “شركة إيبسوس” لصالح “منظمة الإغاثة الشعبية الفرنسية”، أن “ما يقرب من ثلث الأوروبيين، بنسبة 29 في المئة، يقولون إنهم حالياً في وضع مالي ومادي محفوف بالمخاطر”. وتؤكد أن هذا “الوضع القاري” يبدو أسوأ و”قاتماً، بشكل خاص في اليونان حيث ترتفع هذه النسبة إلى 49 في المئة، وفي مولدوفا إلى 46 في المئة”. أي أن “نحو نصف عدد السكان يعلنون أنهم في وضع غير مستقر”. كما وجدت الدراسة “أن غالبية الأوروبيين، نسبة 56 في المئة يتدبرون أمورهم، ولكن يتعين عليهم أن يتوخوا الحذر، لأن 15 بالمئة من بينهم فقط، ذكروا أنهم في وضع جيد”.

إن قسوة التفاوت الإجتماعي بين مواطني دول الإتحاد الأوروبي يعود إلى المحاباة السياسية والإقتصادية التي تحصل عليها الدول الكبرى فيه، وتحرم الدول الصغرى منها. وهي تتجلى في استجابة البنك المركزي الأوروبي للأزمة الإجتماعية ـ الإقتصادية الناشبة. فقد انتقدت تقارير جديدة سياسة البنك، وقالت إن هذه “االإستجابة خاضعة للتدخل السياسي. فالبنك يتهم بأنه قريب جداً من حكومات دول معينة، وخاصة ألمانيا، وهو يغلب مصالحها على مصالح دول أخرى في منطقة اليورو. ويمثل تدهور الأمن المعيشي والغذائي فشلاً ذريعاً لهذه الحكومات، لأن حرب العقوبات التي قررت شنها على روسيا ارتدت على مواطنيها.

لقد أتضح أن الدعم المالي والعسكري الذي قدمه الإتحاد الأوروبي إلى النظام الأوكراني قد أفقر الأوروبيين. وحسب دراسة “إيبسوس “فقد أجبر الأوروبيون طيلة العامين الماضيين، على تبني استراتيجيات معينة من أجل التعامل مع التضخم وانخفاض القوة الشرائية لديهم. والسلوكيات الأكثر شيوعاً التي اتبعوها، كانت بحث 85 في المئة منهم عن الأسعار المنخفضة، كما تردد 70 في المئة منهم على المتاجر التي تقدم حسومات قوية على الأسعار. لكن الأكثر خطورة كان اضطرار 38 في المئة من الأوروبيين للتوقف عن أكل ثلاث وجبات في اليوم، وامتناع 31 في المئة من الوالدين عن تناول وجبات الطعام رغم من الجوع، لكي يطعموا أطفالهم”.

وتبدو السياسة الأوروبية مشتتة الآن، في سياق البحث عن مخارج من هذه الأزمة، وكيف تعطل أول اسبابها وهو الرضوخ لسياسة الولايات المتحدة في أوكرانيا. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرن يكرر استعداده لإرسال جيشه للقتال إلى جانب قوات النظام الحاكم في كييف. لكن إيطاليا وجدت أن هكذا “خطوة نحو التصعيد ستغلق الطريق أمام الدبلوماسية”. وطلب من فرنسا وبولندا “التحدث عن نفسيهما فقط، وليس نيابة عن الحلف بأكمله”. كما أن المستشار الألماني أولاف شولتس أعلن بوضوح عن موقف مشابه.

وتريد الولايات المتحدة الأميركية على ما يبدو أن يحمل الإتحاد الأوروبي وحده أعباء تمويل الحرب في أوكرانيا. وقد أعلنت عن ذلك بكل صراحة المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر، في مطلع السنة الحالية. وقال ميلر : “سنواصل دعم أوكرانيا طالما أن الأمر يتطلب ذلك. لكن هذا لا يعني أننا سنواصل دعمهم بمستوى التمويل العسكري نفسه، كما في عامي 2022 و2023″ وأقر بـ”إننا الآن في القاع، من حيث قدرتنا على تقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا”. وجدد إلتزام بلاده بـ”دعم أوكرانيا مهما استغرق الأمر، ولكن ليس بالضرورة على مستوى 2022 و2023″. وهذا الإعلان كان تأكيداً لمواقف سابقة للوزير أنطوني بلينكن.

إن الأعباء الإجتماعية على بروكسل ستتضاعف في حال دخل دونالد ترامب البيت الأبيض في واشنطن. وهو  أعلن بوضوح أن لديه خطة لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وحسب مصادر صحفية، فإن هذه الخطة تستدعي من تنازل زيلينسكي عن الأراضي الأوكرانية في القرم وشرق أوكرانيا. وهذا التصور يخالف تصلب القادة الأوروبيين في أوكرانيا، الذين يتركون أكثر من ثلث العاملين من مواطنيهم، نسبة 36 في المئة، مفتقرين إلى مداخيل كافية لتغطية نفقاتهم المعيشية!.

إن نموذج دولة الرفاه الذي ميز الدول الإسكندينافية في شمال أوروبا قد تبدد خنادق أوكرانيا. فقد ذكرت وكالة بلومبرغ منذ نحو شهرين أن معدل التخلف عن السداد في السويد في شهر شباط الماضي، كان المعدل الأعلى منذ شهر شباط عام 1994. فقد أشهرت 902 شركة إفلاسها، وكانت الفنادق والمطاعم وشركات البناء والتشييد هي الأكثر تضرراً. بحيث توقف بناء المساكن بشدة، وانخفض الطلب في الفنادق والمطاعم، مقابل ارتفاع الأسعار وتكاليف الاقتراض. أما في النروج فإن الحكومة زادت نسبة الإنفاق العسكري لتلبي الشروط الأطلسية، مع تخصيص حكومة الحرب في كييف بدعم مالي كبير. وهذه العسكرة تم تمويلها بتعديل قانون التقاعد الذي رفع سن الخدمة للعاملين لسنة أو سنتين ويخفض قيمة رواتب المتقاعدين قبل نهاية حياتهم المهنية.

لقد ولت أيام الإزدهار والرفاه التي أتت بها أنابيب الطاقة الروسية. والآن، ليس إلا رياح البؤس الإجتماعي تعصف بالنطاق الأوروبي القاري. ومن المحتم أن يشتد التدهور المعيشي والغذائي ويتسارع عداد طباعة العملة الورقية ويركد النشاط الإقتصادي، طالما بقي قادة الإتحاد الأوروبي على الخضوع المذل أمام السيد الأميركي في واشنطن.

 

مركز الحقول للدراسات والنشر

‏الأربعاء‏، 01‏ ذو القعدة‏، 1445 الموافق ‏08‏ أيار‏، 2024

COMMENTS