لم يكن سهلا ان ترمي المخرجة بنفسها على “حي اللجا”، وعلى الشبان الذين اختارتهم لحكايتها في فيلمها “أرق”. هم الذين لا يعيشون فقط على هامش الواقع، انما ايضا في زاويته السوداء العميقة. ليست جرأة ما قامت به وحسب. أنه شغف أيضاً واصرار على تقديم حكاية غير مسبوقة عن مهمشين لهم اهل وعائلات ومنازل ورفقة وشارع وحيٌّ، ولديهم كل اسباب الحياة. كلها الا الامل المقتول بفعل الكثير من واقع الحياة نفسها الذي قادهم للارتماء في آتون المخدرات. ومهما تم تعداد الاسباب الاجتماعية ـ الاقتصادية، والظروف الصعبة التي ابعدت شباب “أرق” عن المدرسة، ودفعتهم إلى البطالة، فإن كل هذا لا يكفي. فالأهم موت حلمهم وغرق الامنيات في حيز ضيق لم يتمكنوا من اختراق سقفه، حيز نرى على شاكلته نماذج في اماكن عديدة من هذا الوطن .. لبنان.
استمد “حي اللجا” على تخوم العاصمة اسمه من اللجوء. كان محطة لكل الهاربين من قراهم الى المدينة. كان للحي وقع في احداث 1958، ثم اصبح اسماً مرادفاً لأحياء كثيرة تعج بها ضواحي العاصمة. أما السمة التي كانت تصبغ ساكنيها فهي أنهم من القبضايات و أو الزعران. وما زلنا نسمع على ألسنة من عاصروا حقب ماضية، حكايات تروى في امسيات السمر، والامر متواصل حتى الان.
دخلت ديالا قشمر الحي وعاشت من الشبان لحوالي ثلاث سنوات، كي تستطيع ان تنتزع منهم ما احتاجته للعمل : الثقة حدّ الصراحة. حدّ الكشف على مكنوناتهم. حدّ التهور بما يطلعوننا عليه من حقائق.
لساعة ونصف عشنا مع ” ارق ” قشمر في وثائقي، كانت فيه المخرجة عين ترصد وتسمع وتسجل. لم تتدخل. لم تطرح الاسئلة. بل دائما كانت تترك الشباب على سجيتهم في الحديث. في اختيار المواضيع. في قول مباشر عما يجول في خاطرهم. ليعرفونا من خلال كل ذلك على طبيعة حياتهم وكيف يعيشون والى أين يحلموا بالوصول. هي لم تكتف بذلك بل تعرفت على عائلاتهم دخلت منازلهم ساهمت بالكثير من محاولات اخراج بعضهم من هذا الواقع، أمنت العلاج والطبابة لهم، بجدية، كي تغير بعضاً مما يواجهوا.
نقلت ديالا صورة من واقع حقيقي موجود وقائم، نجده في كل المناطق وليس محصورا بطائفة، أو منطقة. انما هو انعكاس شفاف لما يعانيه قسم كبير من شعب هذا الوطن وناسه. انها ضريبة الولادة والعيش هنا …
كان لافتا ان من كانوا يدلي به الشباب من اراء وافكار، لم يكن كلاماً عابراً او هامشياً، بل وصل حدّ ابتداع مقولات وحكم وشيء يشبه الشعر. رسم ذلك نظرتهم ورؤيتهم للمحيط كله لأحوالهم والى ما يصبون اليه. لقد نجحت ديالا قشمر في إخراج معاناتهم من اطار ضيق يخنقهم. سعت كي تفتح لهم نافذة امل .. نجحت في ما رسمت، اقله على مستوى ما ارتضت لنفسها من مهمة. تخطت الجانب التوثيقي المحض، الى ما هو ارقى، الى نقل صورة واقعية عن مأساة بعيدة عنا قليلاً، لكنها تعايشنا وتسكننا الى أبعد الحدود.
علي طحطح، كاتب وناقد عربي من لبنان
الإثنين 26 أيلول/سبتمبر 2016