يقول الشيخ الدكتور أحمد الريسوني في رده على مقالة لي حاورته فيها حول دعوته لمسلمي العالم لزيارة القدس، ما يلي:
"تكذيبي للأستاذ منير شفيق يتعلق بقوله عني: دعوَته للحركة الإسلامية في فلسطين للاعتراف بدولة الكيان الصهيوني. فأقول هذا كذب بكل كلمة فيه. بمعنى ليس فيه كلمة واحدة صحيحة. وأتحدى قائله أن يثبته بشيء من كلامي" (انتهى).
حسناً لنقرأ في مقالته "قضية فلسطين اليوم.. رؤية فقهية سياسية" ما يلي:
"من هدنة طويلة الأمد.. إلى اتفاقية سلام". ويقول: "لقد نادى الشيخ الجليل الشهيد أحمد ياسين رحمه الله بهدنة طويلة الأمد مع العدو الإسرائيلي، وما زال قادة حركة حماس يرددون هذه الفكرة، ولعلهم دخلوا فيها بالفعل، ولو بشكل تجريبي".
ويتابع بالحرف قائلاً: "ما الذي يمنع من أن تتحول هذه الفكرة إلى فكرة "اتفاقية سلام؟". قد يكون طويل الأمد أيضاً، وقد يكون قصير الأمد، وقد لا يتحقق أبدا؟". لا يا شيخنا، ثمة مانع كبير أمام هذا الانتقال بسبب الفارق الكبير بين هدنة حرب واتفاق سلام. فهذه الحرب يتوقف فيها القتال لأنه محدد، أو غير محدد، ويبدأ استعداد الطرفين للجولة القادمة من الحرب. أما اتفاق السلام فصلح واعتراف وتعايش. وهذا الفارق الكبير كان يعرفه الشيخ الشهيد أحمد ياسين.
ويكمل الشيخ الريسوني: "ولتكن "فكرة اتفاقية السلام" هذه مشروطة بالاعتراف المتزامن من الطرفين بجميع القرارات الأممية المتعلقة بفلسطين، وباتخاذها كاملة أساساً مرجعياً للسلام والتعايش".
هذه الفقرات تثبت أنه يتوجه إلى حماس بما يشمل بالضرورة الحركة الإسلامية في فلسطين، وتثبت أنه طرح أكثر من الاعتراف، أي "اتفاقية سلام"، وبما تحمله من تنازلات، مثل الاعتراف بالقرار الأممي لتقسيم فلسطين رقم 181، أي الاعتراف بإقامة دولة الكيان الصهيوني، كما الاعتراف بها. فأين الكذب في عبارة "دعوته للحركة الإسلامية للاعتراف بدولة الكيان الصهيوني مشترطاً بأن ذلك لا يتم إلاّ عبر المجلس الوطني الممثل للجميع للموافقة على الاعتراف؟"، علماً أن العبارة تخفف مما ذهب إليه من صلح وسلام وتعايش وتنازلات فلسطينية من حقوق ثابتة.
هذا، ولا يمكن الشك في أن ثمة قارئ واحد لمقالة الشيخ الريسوني المذكورة؛ لا يفهم منها بأنها تجيز للفلسطينيين الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني، وأن كلامه موجّه، فيما هو موجّه إليهم، إلى حماس- الحركة الإسلامية. فلنقرأ فقرتين من رد الشيخ علي محيي الدين قرة داغي، أمين عام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، على المقالة المشار إليها قائلاً:
"عرض الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني في "الجزيرة نت" تحت عنوان "القضية الفلسطينية اليوم.. رؤية فقهية سياسية" رأيه إزاء جواز الصلح مع إسرائيل والاعتراف بها".
ويرد الشيخ علي قرة داغي بفقرة أخرى: "على حماس شرعاً وأدباً والتزاماً أن تترك السلطة إذا تعارضت مع المقاومة أو لم يبق لها إلا خيار الصلح والاعتراف بإسرائيل، وإلاّ فنهايتها السياسية والشرعية تتم بهذا الاعتراف".
هذا ما فهمه صديق وزميل ومحب للدكتور الريسوني من مقالته بأنها موجهة لحماس (الحركة الإسلامية بالضرورة)، وبأنها دعوة للصلح مع إسرائيل والاعتراف بها، أي بما يلتقي مع العبارة التي اعتبر أنني كذبت فيها.
الشيخ الريسوني اتهم أكثر من منتقد له بالكذب، إذا لم يستخدم ما قاله حرفياً، وتناول بالنقد ما فهمه من رأيه. فالشيخ بهذا المنهج لا يأخذ في الاعتبار القاعدة الشرعية (والقانونية أيضاً) الواردة في "مجلة الأحكام الشرعية" التي اعتمدتها المحاكم الشرعية في الدولة العثمانية، وما بعدها في عدد من الدول العربية، وهي القاعدة القائلة: "العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني". فإذا كانت هذه القاعدة مطبقة في تفسير العقود والحكم فيها، فأوْلى أن تطبق على مقالة مرسلة، أو في نقد كتاب، وذلك للتوضيح والاختصار وتعذر نقل النص المعني كاملاً، فيما الرجوع إلى المقالة والكتاب في متناول اليد، أي ليس هنالك مجال للكذب.
والآن، لنعد إلى قراءة المقالة بروحية إقناع الشيخ بالتخلي عن فكرته، بجواز عقد اتفاقية سلام مع "إسرائيل"، مع ما يقتضيه ذلك من اعتراف وتنازلات، ولو مشترطاً أن يكون ذلك بعد أن يقدر الفلسطينيون ضرورة اللجوء إليه، وبصورة شوريّة، ولا ينطبق هذا على سواهم من المسلمين وحكام المسلمين.
يستند الشيخ في فكرته أو فتواه إلى ما يعانيه الشعب الفلسطيني في مواجهة العدو، ومن أوضاع قاسية أو معادية، ولا سيما تركه وحيداً في المواجهة، مما تُسوغ له الضرورة عقد اتفاقية سلام. ثم ينتقل إلى دحض اعتراضين على ما ذهب إليه: الأول: القول "إن إسرائيل لن تقبل"، فيقول: "سيكون في الرفض الصهيوني المتوقع ربح سياسي كبير للفلسطينيين، خاصة إذا كان مصحوباً ومتبوعاً بنشاط إعلامي وسياسي ودبلوماسي فعال"، وبهذا "ستسقط الحجج والتعلات التي يحاصر بها الفلسطينيون، وخاصة حركة حماس وحكومتها".
هذا الرد على الاعتراض استخدمته قيادة "م.ت.ف" لتسويغ كل تنازل قدمته ورفضه قادة الكيان الصهيوني، وذلك باعتبار عائده من الربح الإعلامي والدبلوماسي، أو إسقاط الحجج والتعلات التي يحاصر بها الفلسطينيون. وكيف لو عددنا ما قُدم من تنازلات ودعوات لعقد اتفاقية سلام، أو صلح، أو حل، ثم أحصينا المكاسب أو الربح العائد بسبب الرفض المتكرر من جانب الكيان الصهيوني، لكان لدينا تخمة من الأرباح والمكاسب! وهذا ما لم يحدث، مما يجعل حجة الشيخ الريسوني بمنزلة "تجريب المجرّب".
أما الرد الثاني فيقول فيه: "وجه الاعتراض هو أن أي تفاوض سياسي مع العدو الغاصب، وأي تسليم له بغصبه ووجوده هو تفريط وتنازل لا يجوز، فكيف بالاعتراف بـ"دولة إسرائيل"، وبحقها في الوجود والبقاء المستمر؟". ويضيف: "وكيف وقد أفتى العلماء، وما زالوا يفتون، بتحريم التنازل عن أي شبر من أرض فلسطين، كما أن الاعتراف بهذا الكيان الظالم الغاصب يعتبر مصادرة لحق الأجيال اللاحقة، ومنعاً من تحرير فلسطين عندما تكون قادرة على ذلك".
لاحظوا كل هذا الاعتراض، وكيف يتهيأ الشيخ الريسوني لدحضه للرد عليه وإجازته للفلسطينيين. يقول: "التنازل لإبرام اتفاقية سلام مع العدو إذا كان في نظري سائغاً للفلسطينيين ومقبولا منهم بشرط أن يقدروه ويقرروه بصفة شورية، فإنه لا يجوز ولا يقبل بحال من الأحوال لغيرهم من المسلمين وحكام المسلمين".
ويرد أيضاً على هذا الاعتراض، يقول: "وجوابي ووجهة نظري أن كل ما جاء في هذا الاعتراض حق وصواب".. "ولكن".. انتبهوا قالت العرب "ولكن" تفسد ما قبلها، أي هي الآن تريد أن تجيز ما اعتبرته "حقاً وصواباً". كيف؟
يورد الشيخ الريسوني خمسة مراجع شرعية تجيز للفلسطينيين وحدهم الخروج على هذا الحق والصواب والعمل بعكسه، أي بعقد "اتفاقية سلام". والمراجع الخمسة باختصار هي: (1) الضرورة وأحكامها، (2) العقود التي تتم تحت القهر والإكراه والاضطرار لا تعطي للظلم حقاً ولا مشروعية، (3) الأجيال اللاحقة سيكون لديها مداخل ومخارج لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، (4) جواز دفع شيء من الأموال للبغاة وقطاع الطرق لأجل تخليص الباقي، (5) اعتبار حادثة قبيلة غطفان تدل من حيث المبدأ على مشروعية منحهم ثلث ثمار المدينة لينصرفوا ويكسروا الحصار.
إن الأدلة المستخدمة هنا موضع خلافية فقهية، إذ ثمة خطأ شرعي وسياسي في تطبيقها على الواقع الفلسطيني، وفي محاولة وضعها في مقابل الاعتراض الذي اعتبر "حقاً وصواباً". ويبدو أن الشيخ الريسوني لا يعتبر ما طبق عملياً من جانب "م.ت.ف" درساً كافياً بسبب فشله، وما نجم عنه من كوارث. فبدلاً من أن يحذر من تكراره، يذهب لتسويغ عقد "اتفاق سلام". والخطاب في هذه المرة موجّه لحماس بل للحركة الإسلامية، بل لكل من يحمل مرجعية إسلامية، ووقف ضد اتفاق أوسلو. (ولهذا رد عليه الشيخ علي قره داغي، أمين عام اتحاد علماء المسلمين).
أرجو ألاّ يعتبر هذه الاستنتاجات مما ذهب إليه كاذبة، ويجب أن تكذب لأن عباراتها لم تصدر عنه حرفياً. ولكن ما العمل مع كل نقد يعتمد "العبرة في ما يكتب للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني"؟ ويحق للناقد أن يلخص الفكرة كما فهمها، فإن أخطأ لا يتهم بالكذب، وإنما بسوء الفهم، وتأدباً عن غير قصد.
الشيخ الريسوني وزيارة القدس
ثلاث مسائل يجب أن يُناقَش الشيخ أحمد الريسوني حولها، ولا سيما بعد أن أصبح رئيسا للاتحاد العالمي للعلماء المسلمين. وهي دعوته كافة المسلمين في العالم لزيارة القدس. والثانية تأييده أو تحبيذه لمشاركة الحركة الإسلامية في انتخابات الكنيست. والثالثة دعوته للحركة الإسلامية في فلسطين للاعتراف بدولة الكيان الصهيوني مشترطا بأن ذلك لا يتم إلاّ عبر المجلس الوطني الممثل للجميع للموافقة على الاعتراف (ولما كان هذا الشرط متعذرا فالاعتراف لم يحدث كما يقول).
هذه المقالة ستركز على المسألة الأولى وهي زيارة القدس بسبب ما أثير حولها من نقاش راهن، بالرغم من أن الثالثة هي الأخطر.
يؤكد الشيخ أحمد الريسوني بأن "ليس كل من زار القدس مطبعا أو داعيا للتطبيع". وذلك "إذا كان الغرض والمقصد من الزيارة دعم المقدسيين والمرابطين ماديا ومعنويا". وهذا "كفيل بمعرفة الموقف الشرعي والسياسي منها".
بداية ثمة مشكلة فقهية وسياسية هنا إذا اقتصر الحكم على "الغرض والمقصد"، من دون اعتبار للنتائج المترتبة عن الممارسة. وهنا نحيل الشيخ الريسوني إلى الحكم الشرعي في تنفيذ الأمر الإلهي: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" حين لا يكفي "الغرض والمقصد"، وإنما مراعاة النتائج. فلا يجوز الأمر بالمعروف إذا نجم عنه منكر، ولا يجوز النهي عن منكر إذا نجم عنه منكر أشد منه. فكيف يكتفي الشيخ أحمد الريسوني في زيارة القدس بالغرض والمقصد، ولا يربطها بالنتائج؟!
على أن الملحوظة الثانية فموقفه من زائر القدس إذا فعلها باستدعاء "المخابرات وقنوات الاحتلال، محتما رفضه ونحاربه ونعتبرها خيانة وطعنة من الخلف". الأمر الذي يقطع بأن الشيخ الريسوني حاسم الموقف من التطبيع وإدانته وتخوينه إذا ما تم بالتفاهم مع العدو. ولهذا غضب أشد الغضب من كل من اعتبر الدعوة إلى الزيارة تتضمن تطبيعا. لأنها غير التطبيع باستدعاء العدو. ولكنه لم يتعرض للزيارة التي يدعو لها "قوم اتفاق أوسلو" وهي ضرب من التطبيع.
ولكن لم يرد أيضا على من يعتبرون الزيارة تطبيعا مادامت لا تتم إلاّ من خلال التأشيرة من سفارات الكيان الصهيوني بالنسبة إلى أغلبية المسلمين، كما لا تتم بالنسبة إلى الزوار إلاّ عبر دخول الحدود أو السماح لهم من خلال السلطات الأمنية الصهيونية، بعد التدقيق، والكثير من "السين والجيم".
فالمطلوب من الشيخ أحمد الريسوني أن يوضح موقفه من هذين الأمرين المرتبطين بزيارة القدس: التوجه إلى "السفارة الإسرائيلية" وطلب التأشيرة والتوقيع على الطلب وشروطه، وما يحمل من رموز ومعنى؟ ثم ما حكم مرور الزائر من الحدود والإجابة عن أسئلة ضابط الأمن لأخذ إذن العبور منه؟ ثم ناهيك عما في الطريق إلى القدس من حواجز للتفتيش وعليه أن يخضع لكل تعليماتها؟
المشكلة هنا أن الشيخ الريسوني لم يوضح الموقف الشرعي والسياسي من كل ما تقدم أعلاه. فالشيخ حاسم في رفضه للتطبيع، والتفريق بينه وبين طالب الزيارة بغرض دعم المقدسيين والمرابطين مادياً وسياسيا.
في حوار معه مؤخرا قال لي ما معناه "إنه يفضل قطع رأسه ولا يطلب التأشيرة من سفارة صهيونية"، وأنا متأكد من صدقه. ولهذا أرى أن دعوته لمسلمي العالم لزيارة القدس تتناقض مع موقفه الخاص من طلب التأشيرة والتعرض للتحقيق على الحدود، والاستئذان من مغتصب فلسطين للدخول إليها، إلاّ إذا كان يجيز ذلك!
إذا كان الموقف الإسلامي الفقهي والسياسي الأساسي تاريخيا هو اعتبار الكيان الصهيوني مغتصبا، ومرتكبا لجرائم حرب وإبادة، وقد اقتلع أكثر الفلسطينيين من أرضهم، بالقوة والمجازر، وفرض عليهم الخروج من ديارهم، بغير حق. وقد وجب قتاله. ومن ثم أين موقع القبول بحالة الاغتصاب والاحتلال. وذلك حين يُجاز للمسلم الزائر غير المضطر أن يطلب التأشيرة ويخضع لشروط العبور، ولا يعتبر ذلك مخالفة للأصل. وهو أسوأ من تطبيع.
ولم يقبل الشيخ الريسوني من بعض منتقدي الدعوة لزيارة القدس بأنها تؤدي إلى زيارة مدن أخرى رغبة أو اضطراراً. لأنه لم يقل ذلك. ولكن المشكلة تكمن في استحالة الهبوط إلى القدس بمظلة، وإنما لا بدّ من المرور بمدن أخرى، سواء أجاء الدخول من مطار اللد أم الحدود الأردنية. ومن ثم يتوجب على الشيخ أن يجيب حول زيارة المدن الأخرى مثل اللد والرملة ويافا وحيفا والناصرة وأريحا، أم أن الدعوة مقتصرة على القدس فقط. ولكن كيف يمكن ذلك في الواقع العملي؟ وإذا وقع، ما حكمه؟ فإجازة زيارة القدس في ظروفها وشروطها الراهنة تتطلب إجازة ما ينجم عنها، أو التحذير منه أو التحريم أو اعتباره مكروها أو مستحسنا؟ وذلك لكي يستقيم أمر الدعوة للزيارة مع هذا الجانب من نتائجها.
ثم نختم في هذا الموضوع إلى القول الفصل الذي أقام عليه الشيخ أحمد الريسوني دعوته وهو "دعم المقدسيين والمرابطين في المسجد الأقصى ماديا ومعنويا".
طبعاً لا يوضح كيف سيتم هذا الدعم المادي والمعنوي، أو قبل ذلك، نتمنى أن يوضح ما لديه من إحصاءات وأسانيد استندت إليها دعوة زيارة القدس لدعم المقدسيين والمرابطين ماديا ومعنويا. ثم يأتي السؤال هل مثلاً سيتحقق ذلك الدعم من خلال ما يصرفه الزائر على إقامته وتنقله وأكله وما يشتريه من هدايا؟ وكيف سيصل بعض هذا الدعم للمرابطين في المسجد الأقصى ولعموم المقدسيين؛ لا سيما فقراءهم والعاطلون عن العمل، أو من لا يجدون دفع كراء بيوتهم؟ أم سيكون على الزائر القادم من إندونيسيا مثلا أن يحمل بعض المال ليعطيه لمرابط أو مرابطة في المسجد الأقصى. وكيف سيتعرف عليه أو يميزه عن المصلي الضفاوي غير المقدسي. هذا ولم نتحدث عن أهالي الشهداء والأسرى والمعتقلين الإداريين.
آمل أن يكون الشيخ الريسوني قد حسب لكل ذلك حسابا، وعنده جوابه قبل إطلاق دعوة الزيارة. حقا إن الدعوة التي قامت على أساس دعم المقدسيين والمرابطين في المسجد الأقصى يفترض بأنها تستند إلى دراسة مدققة ميزت بين الأولويات في تحقيق هذا الدعم.
إذا كان الهدف الأسمى الذي دفع الشيخ أحمد الريسوني هنا هو دعم المقدسيين والمرابطين. وهو فعلا هدف أسمى شرعا ودينا وسياسة. ولكن للأسف ليست الزيارة المدعو إليها تحقق الهدف من قريب أو بعيد. وإذا وضعت الأولويات والأساليب العملية لتحقيق الهدف، فليس للزيارة مكان في أدنى القائمة، حتى لو خلت موضوعيا من أية شبهة تطبيع، وحتى لو لم يُقم العدو في وجهها أي عائق. فهي من الفرضيات الوهمية التي أطلقها دعاة أوسلو من الفلسطينيين لغرض في نفس يعقوب.
فالعدو الصهيوني على سبيل المثال يمنع من دخول أي أمريكي أو أوروبي يساري أو ليبرالي إلى الكيان الصهيوني، وذلك إذا كان يدعم الحق الفلسطيني من خلال تظاهرة، أو محاضرة، أو مشاركة، أو مقاطعة. فكيف لو شكل الزوار المسلمون إمكانا ضئيلا من الدعم المالي والمعنوي للمقدسيين والمرابطين؟ فمصير الدعوة سيقتصر على ما قدمته من إجازة في طلب التأشيرة أو إجازة المرور من الحدود، والخضوع لإجراءات المغتصب المحتل. أما كل ما عدا ذلك من وصول إلى القدس أو دعم المقدسيين والمرابطين ماديا ومعنويا يصبح بيد العدو، يقرره منعاً أو قطرة قطرة مؤقتا، ولذر الرماد في العيون.
هذا البعد الأخير يشبه، في فعله ومصيره، عمليا، ما حدث مع "مبادرة السلام العربية" (بيروت 2002) إذ أبدت استعدادا عربيا جماعيا للاعتراف بالكيان الصهيوني، بشرط أن تقوم دولة فلسطينية، ويتم الانسحاب من أراض عربية احتلت في العام 1967. أما الذي وقع فعلا: لم يتحقق الاعتراف ولم يتحقق شرطاه. ولكن الذي حدث هو الاستعداد للاعتراف بدولة الكيان الصهيوني الباحث عن الشرعية، وهذا بحد ذاته كان مكسبا هائلا للعدو، فاستقبله بالترحاب، ولكن اعتبره غير كاف. ثم لقي المصير نفسه مثل كل القرارات الدولية والحلول والمبادرات والدعوات، وصولا إلى اتفاق أوسلو. وكل ذلك صبّ، بشكل أو بآخر، في مصلحة الكيان غير الشرعي، فيما راح يواصل مصادرة ما أمكنه من فلسطين، تاركاً لكل ما عدا ذلك خفي حنين.
نعود لموضوع الدعم المادي والمعنوي للمقدسيين والمرابطين. ولهذا الغرض ثمة "مؤسسة القدس" وعدة مؤسسات ومنظمات وهيئات فلسطينية وعربية وإسلامية وعالمية، تقوم بإيصال ما يتوفر من دعم للمقدسيين والمرابطين، كل بدوره ومكانه واسمه وحاجته وما خصص له.
ثم استناداً إلى ذلك الهدف الأسمى الذي كان السبب، كما يقول الشيخ أحمد الريسوني وراء دعوته لزيارة القدس التي طاش سهمها، أن تصدر فتوى بأن يتبرع كل مسلم يتحرق لزيارة القدس لدعم المقدسيين والمرابطين في المسجد الأقصى ماديا ومعنويا، بما كانت ستكلفه زيارة القدس، أو بنصفه، أو ببعضه، ويحسب له، إن شاء الله، أجر "شدّ الرحال إلى القدس".
منير شفيق، كاتب ومفكر ومناصل سياسي عربي من فلسطين المحتلة
27 آب/ أغسطس، 2019
آخر تحديث يوم الثلاثاء، 03 أيلول/سبتمبر 2019، الساعة 11:55