قضايا "الثورة اللبنانية" : ماذا يريد الأميركيون من "الحراك" /شهادة فيلتمان (9)

قضايا "الثورة اللبنانية" : ماذا يريد الأميركيون من "الحراك" /شهادة فيلتمان (9)

السعودية في مرمى الكونغرس : بوب منينديز يهدد ؟
مسلسل “شوق”*: دعوة للنسيان وشوق إلى سوريا المعافاة
محسن مرزوق نموذجاً : صبيان “الثورات الملونة” في تونس “كومبارس” للأمريكي و”الخليجي”؟  

قدم السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان شهادة عن الوضع الراهن في لبنان أمام اللجنة الفرعية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا والإرهاب الدولي، التابعة للجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي، بعنوان “ما هو التالي للبنان؟ دراسة تداعيات الاحتجاجات الحالية”. في ما يلي ترجمة أبرز ما جاء فيها:

أود أن أؤكد في البداية أن الاحتجاجات الحالية في لبنان لا تتعلق بالولايات المتحدة، وعلينا أن نتجنب أي شيء قد يحوّل التركيز إلى الولايات المتحدة. لكن نتائج الاحتجاجات قد تؤثر على المصالح الأميركية بشكل إيجابي أو سلبي. لهذا السبب أرحب بشدة باهتمام الكونغرس بلبنان في لحظة يمكن أن تكون لحظة محورية في تاريخ البلاد.
هناك تصوران شائعان عن لبنان في الولايات المتحدة. الأولى نظرة رومانسية: بلد ذو رؤية ديمقراطية متعدد الطوائف، منفتح نسبياً ومجتمع نابض بالحياة، يقدم الثقافة والمطبخ والتاريخ والضيافة المذهلة. ووفقاً للرؤية الأخرى، فإن لبنان، الذي شهد حرباً أهلية دموية وقتل الجنود المارينز والدبلوماسيين الأميركيين، هو موقع خطير لإيران يهدد المصالح الأميركية في المنطقة وخارجها.
مع وجود بعض الحقيقة في كل وصف، أود أن أعرض مدى تأثير لبنان الصغير على المصالح الأميركية بطرق كبيرة. الأكثر وضوحاً هو إسقاط إيران لدورها الإقليمي الخبيث من خلال تصديرها الناجح، لمنظمة حزب الله بقدراتها المتقدمة لتهديد “إسرائيل” وغيرها من حلفاء الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، فإن خطر قيام الجماعات المتطرفة السنية وتنظيم القاعدة أو داعش بإنشاء معاقل في لبنان قد تراجعت إلى حد كبير، وذلك بفضل الجهود المستمرة المثيرة للإعجاب التي بذلتها القوات المسلحة اللبنانية. ولكن، كما حدث في العراق، يمكن أن تتآكل هذه المكاسب بسرعة، مع تداعيات دولية، من دون يقظة متواصلة.
يُظهر تاريخ حزب الله والجماعات الإرهابية السنية بوضوح سبب كون الاستقرار العام في لبنان يخدم مصالحنا: لقد استغلت إيران الحرب الأهلية في لبنان، والصراع الداخلي في عام 2003 في العراق، والحروب الأهلية الأخيرة في سوريا واليمن لتأسيس جذور عميقة ثبت صعوبة في القضاء عليها. وبعبارة أخرى، أصبحت الحروب الأهلية أدوات لتوسيع نفوذ إيران. الفوضى هي أيضاً أرض خصبة لتربية الإرهاب من نوع تنظيم “القاعدة”، كما هو الحال في سوريا والعراق واليمن والصومال.
تنظر روسيا أيضاً إلى لبنان كمكان لمواصلة توسعها العدواني في دورها الإقليمي والمتوسطي. إن روسيا راسخة في سوريا، ويمنح المرتزقة الروس، الذين يمكّنون هجوم الجنرال خليفة حفتر على طرابلس في ليبيا، موسكو السيطرة على جنوب البحر المتوسط. إن موانئ لبنان الثلاثة ومخزونات الغاز والنفط البحرية، إذا استغلتها روسيا، ستضيف إلى الشعور بأن روسيا تفوز في شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط، على حسابنا. مع وجود أكثر من 400 مواطن صيني في قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) في جنوب لبنان، قد ترى الصين أيضاً إمكانات في موانئ لبنان وموقعه – وقد يجد اللبنانيون صعوبة في مقاومة تقنية “الجيل الخامس” 5G في الصين، بالنظر إلى الحالة المؤسفة لشبكات الاتصالات الحالية في لبنان.
وتابع فيلتمان أن الرئيس السوري بشار الأسد، وهو الأقرب إلى لبنان، الذي يعتمد على روسيا وحزب الله وإيران لإعادة تأكيد سيطرته على معظم سوريا، سيحب بلا شك أن يتولى مرة أخرى دوره كقوة إقليمية وسيطة من خلال عكس موقفه لعام 2005، عندما أجبره مزيج من الاحتجاجات اللبنانية والضغط الدولي بقيادة الرئيس جورج بوش على إنهاء الاحتلال العسكري للبنان لفترة طويلة. إن روسيا، التي لم تكن راضية أبداً عن تركيز الرئيس بوش على حرية لبنان، قد تكون سعيدة بتيسير استعادة الهيمنة السورية على جارتها الصغيرة، وخاصة كغطاء مناسب لأهداف روسيا في لبنان.
باختصار، لبنان هو مكان للمنافسة الاستراتيجية العالمية. سوف يملأ الآخرون الفراغ بسعادة إذا تنازلنا عن الأرض.
وعلى الرغم من أن الديمقراطية اللبنانية مختلة وظيفياً، لدينا أيضاً مصالح في نجاح دولة عربية متوسطية، تتمتع بحريات مدنية قوية نسبياً وتقاليد ديمقراطية وتعايش متعدد الطوائف.
مع صلاتهم الدولية القوية، يطمح معظم اللبنانيين إلى الارتباط سياسياً وثقافياً واقتصادياً ومالياً بالغرب التقليدي – أوروبا وأميركا الشمالية – أكثر من إيران أو روسيا أو الصين. هناك تقارب طبيعي بين معظم اللبنانيين والغرب يمكن أن يعمل لصالحنا. لكن كمواطنين في بلد صغير ضعيف في منطقة خطرة، سيبحث اللبنانيون، وليس بطريقة غير عقلانية، عن شركاء خارجيين يمكن الاعتماد عليهم. مع بلد محبط، “محتاج”، ومعقد مثل لبنان، نحن بحاجة إلى لعب اللعبة الطويلة وعدم السماح لإيران أو سوريا أو الصين أو روسيا باستغلال غيابنا.

احتجاجات اللبنانيين الحالية تتقاطع مع المصالح الأميركية
على مر السنين، تعجب الكثيرون منا من الخدعة المسرحية الأنيقة التي أتقنها لبنان: العوم بطريقة أو بأخرى على المستويين السياسي والاقتصادي، وسط ظروف وكوارث توحي بانهيار وشيك. غالباً ما أثبتت التنبؤات بمصير لبنان، إن لم تكن خاطئة، بأنها على الأقل سابقة لأوانها.
هذه المرة، يبدو أن الستار قد يسدل على هذا الفعل الذي يتحدى الجاذبية. إن إدارة الدين الداخلي والخارجي للبنان ليست فقط معقدة بشكل متزايد في اقتصاد لا ينمو، بل إن الجمهور مرهق، أو غاضب إلى حد كبير، من الخطاب الطائفي والأعذار التي يستخدمها قادة المؤسسة السياسيون لتعزيز مصالحهم السياسية أو المالية الضيقة على حساب البلد ككل. أصبحت الآن الرعاية الطائفية التي تشحذ الاقتصاد اللبناني مفهومة بشكل متزايد على أنها نظام لإبقاء الناس محصورين في السجون الطائفية.
وفي الوقت نفسه، فإن المساواة في الدخل آخذة في الارتفاع، وخلق فرص العمل في تراجع. نتيجة لذلك، يخضع النظام السياسي اللبناني برّمته الآن لتدقيق عام معادٍ، وحتى حزب الله أصبح هدفاً للنقد الواسع النطاق، وهو موضوع سأناقشه بمزيد من التفاصيل أدناه.
كما تشير التقارير الإعلامية، فإن طبيعة التظاهرات العابرة للطوائف التي اندلعت في تشرين الأول / أكتوبر (عندما حاولت الحكومة فرض ضريبة على رسائل واتسآب WhatsApp وهي القشة التي قصمت ظهر البعير) تنعش وتلهم في السياق اللبناني. فالسنة والمسيحيون والشيعة والدروز جميعهم في الشوارع، ويصفون أنفسهم بأنهم لبنانيون أولاً بدلاً من التقوقع في هويتهم الطائفية. تفوق أهمية هذه الاحتجاجات أهمية الحركة التي بدأت في 14 آذار / مارس 2005، بعد اغتيال (رئيس الوزراء اللبناني السابق) رفيق الحريري، لأن الشيعة انضموا هذه المرة إليها.
علاوة على ذلك، كانت احتجاجات عام 2005 موجهة ضد احتلال سوريا للبنان، حيث لم يجد جزء كبير من السكان – وإلى حد كبير من الشيعة – هذا الأمر لا يطاق. يركز المحتجون اليوم على القضايا المحلية – الوظائف، وجمع النفايات، وخدمات المرافق وما إلى ذلك – والتي يمكن أن توحد اللبنانيين بدلاً من أن تقسّمهم. بمعنى آخر، هناك ضغط “من القاعدة إلى القمة” واسع النطاق من أجل التغيير في لبنان.
وعلى الرغم من أن الاحتجاجات لا تتعلق بالولايات المتحدة، فإن التظاهرات وردود الفعل عليها من جانب الزعماء والمؤسسات اللبنانية تتقاطع لحسن الحظ مع المصالح الأميركية. لطالما تباهى حزب الله بأنه “لا يقهر” و”نظيف” و”مناهض للمؤسسة” (النظام) مقارنة بالأحزاب اللبنانية الأخرى. لقد قوّضت خطابات الأمين العام لحزب الله (السيد) حسن نصر الله الأربعة التي أمِل منها التشكيك في التظاهرات، سردية حزب الله التي تمت رعايتها بعناية، بشكل أكثر فعالية من سنوات من الجهود الأميركية لتقويضها.
دعا نصر الله، الذي يروّج لنظريات سخيفة للتدخل الأجنبي، إلى إنهاء التظاهرات لكنها استمرت. طلب من المتظاهرين الشيعة العودة إلى منازلهم. البعض فعل، لكن معظمهم لم يفعل. قال إن الحكومة يجب ألا تستقيل. لكن رئيس الوزراء سعد الحريري استقال. إن إصرار نصر الله على بقاء الرئيس ميشال عون في منصبه ورفضه لاقتراح إجراء انتخابات برلمانية مبكرة لطخ صورة حزب الله بشكل لا يمحى وربطها بالمؤسسة السياسية ورائحة الفساد المصاحب لها والذي يريد المتظاهرون القضاء عليه. لم يعد باستطاعة حزب الله أن يدعي أنه “نظيف”، كما أن مشاركته في الحكومة المستقيلة الآن، أضرت بمطالباته بتقديم الخدمات بشكل أكثر فعالية من غيره. من حيث التصور العلني لدوره السياسي، فإن حزب الله الآن قد هبط إلى نفس مستوى الأحزاب اللبنانية الأخرى المشكوك فيها.
في أيار / مايو 2008، استولى حزب الله وحركة أمل على مساحات شاسعة من بيروت والمناطق المحيطة بها لعرقلة جهود الحكومة لتفكيك شبكة الاتصالات الآمنة الموازية لحزب الله. قُتل العشرات قبل أن يستعيد الجيش سيطرته… إن أي محاولة لتكرار هجوم أيار / مايو 2008 في الداخل في لبنان ستجعل ذريعة “المقاومة” المتقلصة بالفعل لدى حزب الله تتبخّر. لسنوات، حاولت الولايات المتحدة حض اللبنانيين على مواجهة حقيقة أن حزب الله وصواريخه تخلق خطر الحرب مع “إسرائيل” بدلاً من توفير الحماية منها. إن رد فعل حزب الله الخطابي والمادي على التظاهرات الحالية قد يوقظ المزيد من اللبنانيين – بمن في ذلك الشيعة، وهو أمر ضروري لتقويض شعبية حزب الله – على هذا الواقع القاتم. كما أن التظاهرات الحالية تقوّض بشكل بناء الشراكة بين حزب الله والتيار الوطني الحر، وهو حزب مسيحي يتبع للرئيس عون وصهره، وزير الخارجية جبران باسيل.
في خضم التحالف بين حزب الله والتيار الوطني الحر في عام 2006، يعد باسيل المهندس الأكثر مسؤولية عن قدرة حزب الله على التظاهر بتمثيل حركة وطنية عابرة للطوائف وتجاوز أجندته الإيرانية والطائفية الضيقة. لقد فرض التحالف مع التيار الوطني الحر قشرة من الغطاء المسيحي لحزب الله، وبالتالي أصبح الأداة الرئيسية لنفوذ حزب الله الموسع داخل المؤسسات الحكومية: لم يعد حزب الله مقيّداً بـ”الحصة الشيعية” في النسب الطائفية اللبنانية، نظراً لأن حزب الله يمكن أن يعتمد على نصيب التيار الوطني الحر المسيحي كذلك. لطالما استغل باسيل القلق الصادق الذي تشعر به الولايات المتحدة ودول أخرى حول وضع المسيحيين في الشرق الأوسط على وجه التحديد لتحويل التدقيق في تمكينه الشخصي لحزب الله وفساده.
أصبح باسيل الآن تجسيداً لكل ما يثير غضب المتظاهرين ويغضبهم، في حين أن خطب عمّه الرئيس (بما في ذلك الخطاب الذي يشير إلى أن الأشخاص غير الراضين عن الوضع الراهن في لبنان يتمتعون بالحرية في الهجرة) تعكس شخصاً ما بعيداً عن المزاج الوطني بشكل خطير. حتى الآن، يتمسك حزب الله بتحالفه مع التيار الوطني الحر. لكن قيمة هذا الأصل قد انخفضت إلى حد كبير وتزيد من خيبة الأمل العامة المتزايدة تجاه حزب الله بشكل عام.
على النقيض من ذلك، فإن سمعة القوات المسلحة اللبنانية (الجيش اللبناني)، التي تمكنت إلى حد بعيد من الابتعاد عن السياسة، قد تصاعدت، في معظمها، نحو الأعلى. كانت هناك بعض المشاكل والتناقضات في رد فعل الجيش اللبناني على الاحتجاجات – قام الجيش اللبناني بحماية المتظاهرين في بيروت ضد البلطجية، بينما بقيت وحدات الجيش في النبطية، في الجنوب، على الحياد؛ وقتلت نيران القوات المسلحة اللبنانية أحد المتظاهرين الأسبوع الماضي. لكن بشكل عام، استجابت القوات المسلحة اللبنانية باحتراف وضبط النفس لما يجب أن يكون من الزوايا الأمنية والسياسية من أكثر الأوضاع صعوبة: ما الذي سنفكر فيه نحن الأميركيون إذا منعتنا الاحتجاجات المستمرة من الوصول إلى مطاراتنا أو مستشفياتنا أو مدارسنا أو وظائفنا؟ علاوة على ذلك، أُجبرت القوات المسلحة اللبنانية على العمل والمجازفة من دون أي توجيه سياسي متماسك – أو غطاء – من القيادة المدنية اللبنانية ومع تهديدات مقنعة من حزب الله لإزالة الاحتجاجات. في الأيام الأخيرة، تحركت القوات المسلحة اللبنانية بقوة أكبر لفتح الشوارع والطرق، للسماح للمدارس والشركات والمباني العامة بإعادة فتح أبوابها، مما أثار فزع المتظاهرين.
رغم أن سجلها لم يكن مثالياً، إلا أن أداء القوات المسلحة اللبنانية كان رائعاً بشكل عام في هذه الظروف.. إن سلوك الجيش اللبناني إيجابي مقارنة برد فعل قوات الأمن العراقية أو المصرية أو السورية على المحتجين. يمكن أن تكون القوات المسلحة اللبنانية مثالاً على كيف يمكن أن يبدأ الاحترام العام لمؤسسة وطنية مستقلة وقادرة وذات مصداقية في حجب الاحترام عن مؤسسة طائفية. هذه، كذلك، ليست ظاهرة عندنا (الأميركيين)، ولكن بالتأكيد في مصلحتنا، وتجب رعايتها.
قد يتساءل البعض في واشنطن عما إذا كان على القوات المسلحة اللبنانية الآن الاستعداد لمواجهة حزب الله ونزع سلاح حزب الله بالقوة. ستكون هذه وصفة للحرب الأهلية، وكما ذكر أعلاه، تميل إيران وعملاؤها إلى جانب تنظيم القاعدة إلى الازدهار في حالات الحرب الأهلية. نحن بحاجة إلى التفكير على المدى الطويل. بشكل عام، يعرف ضباط القوات المسلحة اللبنانية، المحميون باستقلالهم، مدى تحسُّن قدرات الجيش وكفاءته المهنية بفضل التدريب المستمر والمعدات الأميركية، وبدأ الشعب اللبناني يدرك ذلك أيضاً.
أظهرت عملية مكافحة الإرهاب في عام 2007 مقارنة بجهود القوات المسلحة اللبنانية الأخيرة التي قامت بها هذا التحسّن. في عام 2007، عملت القوات المسلحة اللبنانية من أيار / مايو حتى أيلول / سبتمبر لتصفية “فتح الإسلام”، وهي منظمة إرهابية سنية مستوحاة من تنظيم القاعدة. خلال المعركة، قُتل 158 من جنود الجيش اللبناني وضباطه (إلى جانب 222 من إرهابيي فتح الإسلام) ، وتوفي أكثر من 50 مدنياً، ودُمر كامل مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين، الذي كان يضم في السابق أكثر من 30000 شخص.
الآن، تقوم القوات المسلحة اللبنانية بعمليات سريعة وفعالة لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك على الحدود اللبنانية-السورية بأقل عدد من الضحايا المدنيين أو من الجيش. استغرقت عملية 2017 لتنظيف شرق لبنان من أكثر من 700 مقاتل من “داعش” عشرة أيام قتال فقط، مع مقتل سبعة من القوات المسلحة اللبنانية. اعتقلت القوات المسلحة اللبنانية أكثر من 3000 متطرف سني في عام 2017 ومئات آخرين في العام الماضي. فخورون بمؤسستهم وإدراكهم لزيادة الدعم الشعبي، فإن ضباط الجيش اللبناني يهمسون بالفعل بالاستياء من إبعاد حزب الله المتغطرس للقوات المسلحة اللبنانية. إنها مسألة وقت فقط قبل خروج هذا الاستياء إلى العلن.
على الرغم من عدم وجود تسوية تكتيكية مؤقتة، وخاصة في الجنوب الذي يسيطر عليه حزب الله، يجب أن ندرك أن علاقة القوات المسلحة اللبنانية وحزب الله ليست قصة حب أبدية.
تستحق الولايات المتحدة الفضل في المساهمة في احتراف القوات المسلحة اللبنانية وقدراتها، وبالتالي تعزيز احترامها واستقلالها المحليين. يؤسفني أن التعليق الحالي – آمل لفترة وجيزة فقط – للتمويل العسكري الخارجي الأميركي للقوات المسلحة اللبنانية قد أوقف قصة إخبارية جيدة في الغالب عن التعاون الأميركي مع الجيش اللبناني، ومنح حزب الله وسوريا وإيران نقطة نقاش مريحة حول عدم موثوقية الولايات المتحدة.

الاقتصاد اللبناني المعطل قد يؤدي إلى تغيير في الاتجاه
بينما ركزت التظاهرات على القضايا العاجلة المتعلقة بالوظائف والنفايات والخدمات، إلا أنها تحدث في ظل أزمة مالية تلوح في الأفق. كواحد من أعلى نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم – تتجاوز 150 في المئة – يتأرجح لبنان منذ فترة طويلة على شفا كارثة مالية. يبدو أن قدرة النظام المصرفي على متابعة الهندسة المالية الذكية لمنع الانهيار في الهاوية قد ولّت. مع تشديد قيود التأشيرات إلى أوروبا والولايات المتحدة، ومع تراجع إمكانيات التوظيف في دول الخليج، فقد فقد المنفذ التقليدي للشباب اللبناني – الوظائف (وربما الهجرة) في الخارج – قدرته على تحويل مبالغ كبيرة من العملة الأجنبية إلى الاقتصاد اللبناني. لكن المشكلة الحقيقية هي الركود الاقتصادي المستمر. يمكن إدارة الديون في بيئة من النمو الاقتصادي. من المتوقع أن يتوسع الناتج المحلي الإجمالي في لبنان، حتى قبل التظاهرات الحالية، بنسبة 0.02 في المائة فقط هذا العام. يمكن لخصخصة أصول الدولة – الاتصالات والكهرباء – أن تنتج إيرادات، إذا أمكن الوثوق بخطط الخصخصة، وكذلك تحسين الخدمات على المدى الطويل. وبالتأكيد فإن الحوكمة الشفافة الموثوقة، حيث يكون الصالح العام وليس المكاسب الشخصية، هو الذي يحفز القيادة السياسية، يمكن أن تسهم في تحسينات اقتصادية. هناك فرق كبير قد يُستمد من الاستثمارات الجديدة وعودة السائحين الخليجيين والشركات والودائع المالية.
ومع ذلك، فإن النجاح في جذب المستثمرين الغربيين ودول مجلس التعاون الخليجي سيظل بعيد المنال من دون تغييرات كبيرة. سوف يبحث المستثمرون الغربيون ودول مجلس التعاون الخليجي في أي مكان آخر عن الفرص إذا ظل اللبنانيون راضين عن كونهم جزءاً مما يُعتبر المحور الإيراني / السوري وما إذا كانوا يتسامحون مع الالتزام الوحيد والمتقطع بالشفافية وسيادة القانون. وبشكل أكثر وضوحاً، لن يعود المستثمرون والسائحون بأعداد كبيرة يمكن التنبؤ بها بقدر ما يستطيع حزب الله أن يجلب لبنان إلى الحرب من دون العودة إلى الرأي العام أو إشراف الحكومة. سيحتاج اللبنانيون أنفسهم إلى اختيار الطريق المؤدي إلى الفقر الدائم أو الرخاء المحتمل، من خلال تحديد ما إذا كانوا سيستمرون في قبول الحكم الرديء إلى جانب الفيتو الفعال على القرارات الحكومية التي يصر عليها حزب الله (مع رفض أي مساءلة عامة لحزب الله عن إجراءاته المدمرة في كثير من الأحيان). قد لا يتمكن الناخبون اللبنانيون من تجريد حزب الله من ترسانته بين عشية وضحاها، لكن يمكنهم اغتنام الفرصة الانتخابية المقبلة لتجريد حزب الله من الشركاء البرلمانيين الذين يستخدمونه كمضاعفين للقوة لتأكيد إرادته سياسياً: ومن هنا نفهم خط (السيد) نصر الله الأحمر ضد الانتخابات المبكرة.

قد لا ينتج المحتجون تغييرات فورية، لكن عملية بناءة قد بدأت
حتى كتابة هذه السطور، ليس من الواضح أن الطبقة السياسية المحاصرة في لبنان لديها أي فكرة عن نوع الحكومة التي قد تلبّي مطالب الشارع. لا يبدو أن المرشح الذي تتم مناقشته حالياً لرئاسة الوزراء ورجل الأعمال ووزير المالية السابق محمد الصفدي يمثل انفصالاً عن الممارسات السابقة، كما يشير العداء الأولي له في الشوارع.
بحجة أنهم قلقون بشأن السلامة في بلد يتعرض فيه الزعماء السياسيون والنشطاء الاجتماعيون للقتل بشكل روتيني، رفض المتظاهرون عمداً فكرة الترويج لقادة من الاحتجاجات للتفاوض نيابة عنهم. هذا يترك انطباعاً عن الآخر حول من وماذا يكون مقبولًا.. هذا أمر مشؤوم علامة على أن واقع شخصيات النظام، المنقسمة، قد تجد سبباً شائعاً في التهرب من المساءلة والاستبدال، لأن “الشارع” قد يكون أقل اتحاداً من العروض التوضيحية الخلابة.
علاوة على ذلك، في تناقض مع الصورة غير الطائفية المدعومة بعناية من التظاهرات، ظهر بعض الإحباط العام في المناطق ذات الأغلبية السنية مثل طرابلس من أن “المصالح السنية” قد تضررت عندما استقال رئيس الوزراء الحريري (سني)، عندما بقي رئيس البرلمان نبيه بري (شيعي) والرئيس ميشال عون (مسيحي) في مكانهما. سيكون من الصعب طرد الأشباح الطائفية في لبنان.
بعد عيوب خطب (السيد) نصر الله، يجب على حزب الله وقادة الوضع الراهن الآخرين إعادة الحساب حول كيفية الحفاظ على صلاحياتهم بينما يتحول المزاج الشعبي بطريقة أو بأخرى. ووفقاً لإحدى الشائعات، فإن بعض الزعماء الطائفيين التقليديين يتأملون في السماح لظهور حكومة تكنوقراطية أصيلة – اعتقاداً منهم بأن التكنوقراط سوف “يتحملون” الانهيار المالي المتوقع، وبالتالي يمهدون الطريق للزعماء التقليديين لكي يشقوا طريقهم سريعاً على أنقاض الانهيار إلى السلطة. لكن الإشارة الأولية (إذا كانت مؤقتة) إلى الصفدي، تشير إلى أن المتظاهرين لن يحصلوا على الحكومة التكنوقراطية البحتة التي يبدو أنهم يريدونها. لكن الانتقادات المستمرة والواسعة النطاق للطبقة السياسية والطائفية ولحزب الله في لبنان قد كسرت محرمات كبيرة. علاوة على ذلك، فإن وكلاء سوريا في لبنان ووكلاء إيران في لبنان – الذين اعتُبر ذات يوم أنه لا يمكن تمييزهما فعلياً، وهم يغنون دويتو “المقاومة” في وئام لدود – يُظهرون علامات تباعد ناشئة ولكنها غير مسبوقة. حتى لو لم تتحقق جميع المكاسب المحتملة على الفور، فإن عام 2019 هو نقطة تحول للبنان.

الولايات المتحدة لا يمكن أن تحدد ولكن يمكن أن تؤثر على النتيجة
إن احتجاجات عام 2005، التي نجحت في إجبار القوات العسكرية والمخابرات السورية المتجذرة على مغادرة لبنان، تقدم درساً مهماً لهذا اليوم: قيمة المبادرة المحلية المقترنة بالدعم الخارجي. على سبيل المثال، لو كانت الولايات المتحدة وفرنسا قد ضغطتا قبل 14 عاماً كي ينسحب السوريون إلى جانبهم من الحدود، وبقي اللبنانيون في منازلهم، كان بإمكان السوريين مقاومة الضغوط الخارجية للانسحاب. لو أن الولايات المتحدة وفرنسا كانتا تنظران بعيداً، غير مهتمين، عندما خرج اللبنانيون إلى الشوارع بأعداد هائلة من هذا القبيل، لكان السوريين لم يبدوا أي قلق في سحق التظاهرات بالقوة. إن الجمع بين اللبنانيين في الشوارع بأعداد هائلة واهتمام المجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة في عهد الرئيس جورج دبليو بوش وفرنسا بقيادة الرئيس جاك شيراك، لم يعطيا السوريين خياراً قابلاً للتطبيق سوى الخروج.
كما في عام 2005، يمكن أن يساعد الانتباه والإصغاء المتواصلان اليوم – من قِبل الكونغرس والإدارة ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وآخرين – على حماية المتظاهرين. لكن التظاهرات لا يمكن أن تستمر إلى أجل غير مسمى، خاصة وأن المواطنين العاديين يتعبون من الانقطاعات للحياة اليومية والقلق من التكاليف الاقتصادية للشلل. قد يُحدث الاهتمام الأميركي المستمر والإصغاء والرسائل فرقاً حيث يكافح اللبنانيون لتحديد كيفية تجاوز الاحتجاجات المحلية.
الحيلة بالنسبة لنا هي فارق دقيق. لن يكون من الحكمة التدخل مباشرة في القرارات السياسية اللبنانية، والتي من شأنها أن تجعل من السهل على نصر الله (أو سوريا أو إيران أو روسيا) أن يستشهد بأمثلة موثوقة في محاولات يمكن التنبؤ بها لتشويه سمعة المتظاهرين ومطالبهم بأنها بتوجيهات أميركية. كما يجب أن نُرى نعمل على اختيار رئيس وزراء لبنان المقبل (الصفدي أو أي شخص آخر) أو وزراء معينين في الحكومة؛ تلك قرارات لبنانية حصرية. لكن بما أن مصالحنا الوطنية ومصالح حلفائنا الإقليميين ستتأثر بما يحدث في لبنان، فإننا نتحمل مسؤولية توضيح وجهات نظرنا من خلال عملنا وبكلماتنا. يستحق اللبنانيون أن يفهموا تمامًا الآثار المترتبة على القرارات التي يتخذونها بشأن التعيينات والسياسات الحكومية.
كخطوة أولى، ينبغي الإفراج بسرعة عن المساعدة العسكرية قيد المراجعة الآن. هذا من شأنه أن يضع الولايات المتحدة إلى جانب المؤسسات الوطنية ذات المصداقية. في الوقت الذي تتجه فيه شعبية الجيش اللبناني في الأغلب إلى الأعلى مقارنة بما يبدو أنه تراجع في سمعة حزب الله، يمكننا تعزيز ما هو، بالنسبة لنا وللبنان، قوة دفع إيجابية. من شأن إطلاق المساعدة أن يقوّض المحاولات المستمرة التي يقوم بها حزب الله وإيران وسوريا وروسيا لجذب اللبنانيين إلى مداراتهم من خلال التشكيك في موثوقية الولايات المتحدة. مساعدتنا العسكرية لا يتم تقديمها من دون قيد أو شرط؛ نحن نستفيد أيضاً من الشراكة مع القوات المسلحة اللبنانية. إن توقعاتنا بأن تقوم القوات المسلحة اللبنانية بتحسين كفاءتها المهنية واستعدادها قد تجلّت بوضوح من خلال تدابير مكافحة الإرهاب الناجحة والاستجابة المناسبة (في الغالب) للاحتجاجات. يمكن للولايات المتحدة أن تربط الإفراج عن المساعدة العسكرية بإصرار على أن تبقى القوات المسلحة اللبنانية خارج السياسة وأن تعامل المتظاهرين السلميين باحترام متساوٍ في جميع أنحاء البلاد، في النبطية وفي بيروت.
كما أوصي بأن نجد طرقاً علنية لتعزيز الموقف فالذي لا نريد أن نراه هو الانهيار المالي أو السياسي للبنان (خشية أن توفر الفوضى والحرب الأهلية المزيد من الفرص لإيران وسوريا وروسيا للتدخل) – لكن قدرتنا على التدخل لحشد الدعم المالي والاقتصادي تعتمد على قرارات اللبنانيين أنفسهم، بما في ذلك تركيبة الحكومة المقبلة وسياساتها في لبنان. نعم، نحن على استعداد للوقوف إلى جانب لبنان، ولكن على أساس كيف يرغب اللبنانيون في المضي قدماً. إذا عالجت الحكومة اللبنانية أخيراً مسائل الحوكمة والمساءلة، فيمكن للمجتمع الدولي الاستجابة. إذا عادت الحكومة إلى “العمل كالمعتاد”، فلن نتمكن من حشد الدعم لمنع الانهيار. مع دعوة المتظاهرين إلى حكومة تكنوقراطية وليس حكومة سياسية، يمكن أن تؤكد رسالتنا العامة على توقعاتنا بأن حكومة لبنانية جديدة، إذا طلبت الدعم الدولي، ينبغي أن تعالج بشكل فعال وفوري تطلعات الإصلاح للشعب اللبناني.
في حين أن القرارات هي قراراتهم، فإن اللبنانيين، الذين عاشوا لفترة طويلة بالرضا مع تناقض الهوية الذاتية مع الغرب أثناء إيوائهم لوكيل إرهابي إيراني، يحتاجون إلى فهم الآثار المترتبة على المسار الذي يختارونه. في الأزمات المالية السابقة في لبنان، حولت دول الخليج العربية ودائعها بالعملات الأجنبية إلى المصرف المركزي اللبناني بشكل مؤقت لدعم الاحتياطيات. هذا يمكن أن يتكرر. يمكن للولايات المتحدة، إلى جانب فرنسا وغيرها، قيادة التواصل مع المؤسسات المالية الدولية فيما يتعلق بدعم لبنان. مع وجود الأشخاص المناسبين والسياسات المناسبة، قد تنفذ حكومة لبنانية جديدة في النهاية الإصلاحات التي يمكن أن تؤدي إلى إطلاق حزمة مساعدات بقيمة 11 مليار دولار أعيد تشكيلها في مؤتمر دولي في باريس عام 2018. ومن شأن هذه التدابير أن تمنح المسؤولين اللبنانيين فترة راحة قصيرة، بينما يقومون بتشريع الإصلاحات – التي وعدوا بها منذ فترة طويلة، ولم يتم تنفيذها على الإطلاق، والتي يطالب بها السكان الآن – لوضع الموارد المالية في لبنان على قدم المساواة وتعزيز النمو الاقتصادي.
ولكن بالنظر إلى الماضي، فإن العبء يقع على كاهل المسؤولين اللبنانيين للتغلب على الشكوك المحلية والدولية، من خلال اختيار وجوه وسياسات ذات مصداقية لمجلس الوزراء المقبل. سيؤدي استمرار المحسوبية والفساد وتدليل حزب الله إلى الهبوط باستمرار، في حين أن الإصلاح والمساءلة والشفافية والاعتماد على المؤسسات الوطنية بدلاً من حزب الله يمكن أن يجتذب نوع الدعم الذي يؤدي إلى وجهة أفضل، حيث تقدم الولايات المتحدة وغيرها الدعم والشراكة. هذه يجب أن تكون رسالتنا.
على المدى البعيد، ستكون أفضل حماية للمصالح الأميركية في لبنان هي بما يشير إليه الشعب اللبناني بأنه يريده: لبنان مزدهر، ديمقراطي، مستقل، يتمتع بالسيادة الكاملة، مسالم، يعتمد (بما في ذلك من أجل الأمن) على مؤسسات حكومية فعالة وشفافة تخضع لمحاسبة عامة. مع وجود الحكومة المناسبة في ظل الدعم الدولي المتجدد، لا يستحيل تحقيق ذلك. على مساحة تزيد قليلاً عن عشرة آلاف كيلومتر مربع، لبنان أصغر من منطقة مدينة نيويورك. يتجاوز عدد سكان نيويورك الكبرى 20 مليون نسمة، بينما يبلغ عدد سكان لبنان، بمن في ذلك اللاجئون السوريون والفلسطينيون، أقل من 7 ملايين نسمة. من المؤكد أنه لن يكون من الصعب توفير الكهرباء والانترنت وجمع القمامة بشكل موثوق للمواطنين اللبنانيين، فهم بشكل عام متعلمون جيداً ومتصلون دولياً. ولا ينبغي أن يكون ذلك مكلفاً للغاية في ظل القيادة الصحيحة وجذب الدعم ووضع الوضع المالي في مسار أفضل: لتوضيح ذلك، فإن الديون الخارجية للبنان بأكملها (حوالى 35 مليار دولار) تتماشى مع تقديرات ما تنزفه المملكة العربية السعودية كل عام في مواصلة الحرب في اليمن (25-40 مليار دولار).
من خلال إطلاق المساعدة العسكرية الآن، من خلال إظهار أننا نولي اهتماماً وثيقاً، وبتوضيح الآثار المترتبة على اللبنانيين، سواء كانت جيدة أو سيئة، على الخيارات التي يتخذها اللبنانيون، يمكننا خدمة مصالحنا الخاصة والمساهمة في التقديرات التي سيقوم بها اللبنانيون فيما يتعلق بالحكومة والقرارات السياسية، ومنع فراغ من شأنه أن يملأه الآخرون على حسابنا. أشكر مرة أخرى الكونغرس وهذه اللجنة الفرعية على التركيز على المصالح الأميركية في لبنان.

*جيفري فيلتمان زميل زائر في كرسي “جون سي وايتهيد للدبلوماسية الدولية ـ السياسة الخارجية” في معهد بروكينغز.
19/ 11/ 2019
ترجمة هيثم مزاحم
منشور في شجون عربية

إضغط لقراة النص الإنكليزي

Please follow and like us: