العواصف قادمة : رجوع الحرب بين القوى العظمى؟

هل الفتوى توقيع عن الله عز وجل؟ (2 ـ 2)
"أنطونيو التلحمي" : الفلسطيني الذي حارب مع تشي غيفارا وفيدل كاسترو
المغرب ينتقل إلى “التطبيع الرياضي” مع الكيان الصهيوني

بؤخذ تراجع قوة الولايات المتحدة كمعيار رئيسي في تحليل تفاعلات النظام الدولي الإنتقالي الراهن، لأنه يسبب فراغ قوة في النظام، يحفز كل أو أحد الدول الكبرى أو العظمى، على تجريب حظها في خلافة القوة الأميركية الآفلة ووراثتها في “زعامة” العالم. وأبرز هذه الدول، الآن، هي الصين. هذا الإنتقال من النظام القديم الأحادي القطب، إلى النظام الجديد المتعدد الأقطاب، يتغذى، أساساً، من التراجع الأميركي، الذي هو مادي، تكنو ـ إنتاجي، ومن النقدم الصيني الذي هو مادي، تكنو ـ إنتاجي أيضاً. ومن المفترض، بحسب كل التجارب التاريخية السابقة، ألا تنتهي هذه العملية الإنتقالية إلا برضوخ المتراجعين، واعترافهم بميزان القوى الدولي الجديد. في سياق هذا الإنتقال الذي، كما نرى، يفقد، تدريجياً، الطابع الديبلوماسي ـ الإقتصادي، ويكتسب الطايع الحربي ـ العسكري، من المحتمل ألا يرضخ هؤلاء ولا يعترفوا، ويعملون على تقويض العملية بأكملها. في هذه التجاذب الشديد، المتصاعد، يظهر احتمال عودة القوى الكبرى أو العظمي في النظام الدولي إلى الحرب فيما بينها، وذلك لأول مرة من نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، لا سيما بين الجيشين الصيني والأميركي. يقدم مقال كريستوفر Layne/ لاين، من مجلة Foreign Affairs الأميركية، في عدد شهري نشرين الثاني ـ كانون الأول 2020، فرصة للتفكر في هذه الإحتمال. فيما يلي نص المقال :     

 

China to be '1st mover' in military hi-tech, US 'perilously close' to lag behind – ex-Deputy DefSec — RT USA News

منذ انتهاء الحرب الباردة يجادل صُنّاع السياسة الأميركيون، ومعهم مفكّرين وباحثين ومحللين للسياسات والعلاقات الدوليّة، بأنَّ حروب القوى العُظمَى باتت رميماً ولّى عهده إلى غير رجعة. حتى إن المؤرّخ جون لويس جاديس وصف في عام 1986، عصر ما بعد الحرب العالميّة الثانية، بـ”السلام المديد”. وذلك لأنَّ الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة تجنَّبا إشعال الحرب بينهما. بعدها بسنوات، رأى عالِمُ السياسة جون مولر أنَّ الأعراف المتغيِّرة قد أنهت صراع القوى العظمى. كما جادل عالِمُ النفس ستيفن بنكر في عام 2011، بأنّ السلام المديد قد تحوَّل إلى “سلام جديد” يتّسم بتراجع عام للعنف في الشؤون الإنسانيّة.

طبعاً، تؤكد الصراعات الناشبة في أفغانستان وليبيا والسودان وأوكرانيا على سبيل المثال، على وفرة العنف المسلَّح المنظَّم الذي يجرُّ إلى دوائره البلدان الأصغر حجما. لكن إن نظرنا إلى طريق السياسة الدامي، منذ بزوغ فجر النظام الدولي الحديث في القرن السادس عشر، فسنجدُ أن غياب الحروب بين القوى العظمى منذ عام 1945 لأمر صادم. هذا الأمرَ لا يعني أنّ هذه الأنماط أو هذا المستويات من الحروب قد ولَّت بالفعل، رغم محاولات الأكاديميين والسياسيين استبعادَ الحروب بين القوى العظمى كمصدر تهديد حقيقي. فالظروف التي تجعلها ممكنة لا تزال قائمة، والتوتّرات بين القوى العظمى مستمرّة في عالم اليوم، وأولها التوتر بين الولايات المتحدة والصّين، يمكن يُمكن لعدد من نقاطِ التوتّر أن تشعِل فتيل الحرب بينهما. فالبَلَدانِ على مسارِ تصادُم تُغذّيه ديناميكيّات انتقال مراكز القوّة والتنافس على المكانة والاعتبار، ودونَ تغيير في الاتجاه، فإن الحرب بينهما ليست محضَ إمكانية فحسب لكنّها مُرجَّحة أيضا.

حتى مع احتدام المنافسة الجيوسياسيّة بين الولايات المتحدة والصين، يرفُض معظم الأميركيين المتبصّرين في السياسة الخارجية والإستراتيجية الكبرى التصديق أن الحرب مُرجَّحة. يتأصَّل هذا التفاؤل رئيسيا في عدد من النظريّات البارزة حول سلوك الدولة، فتقول أولى هذه النظريات إنَّ المستوى المرتفع من الترابط الاقتصاديّ بين البلدين يحدّ من مغبّة الصراع العنيف. لكنّ التاريخ يأتينا بكثير من الأمثلةِ التي تساعد في التصدي لهذه الفرضية، إذ لم تكُن بلدان أوروبا أكثر ترابُطا عمّا كانت عليه قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، اقتصاديا وثقافيا على حدٍّ سواء، وجمعت روابط وثيقة بين اقتصادات أكبر مُتحارِبَيْن في تلك الحرب وهما بريطانيا وألمانيا.

حتى وإن افترضنا أنّ الترابط بين الولايات المتحدة والصّين قد يُخفِّف خطورة اندلاع حرب بين البلدين، فقد بدأت الروابط الاقتصادية تتفكّك خلال السنوات الأخيرة مع انفصال كل طرف عن اقتصادِ الآخر.

تنبع الشكوك من اندلاع حرب قوى عظمى أيضا من الإيمان بقوّة الرّدع النووي، ولا شكّ أنّ خطورة الدمار المؤكّد المشترك جرّاء حرب نووية قد لعبت دورا في منع تحوُّل الحرب الباردة إلى أخرى ساخنة. لكن في العقود الأخيرة، بدأ التقدُّم التكنولوجيّ يُضعِف قوّة هذا الرّادع، وبدأ مزيج من أنظمة الرؤوس النووية عالية الدقّة والمصغّرة محدودة القوّة يُفسِح المجالَ لما لم يكُن في الحسبان: حرب نووية “محدودة”، لا ينجُم عنها دمار عالميّ.

وأخيرا، يُجادل الباحثون بأنَّ ما يُسمّى النظام الليبراليّ الدوليّ سوف يحفظ السِّلْم. من هذا المُنطلق، فإنَّ القيادة الأميركية، من خلال مؤسسات متعددة الجنسيات كالأُمم المتحدة ومنظمة التّجارة العالميّة وصندوق النقد الدّولي، وانتشار مبادئ التعاون السلمي، سوف تتيحُ الانتظامَ وقابليّة التنبؤ بالسلوك الدّولي.

والبعضُ من أمثال عالم السياسة جي. جون إكينبيري يستشرف بتفاؤل صُمودَ هذا النظام حتّى عقود طويلة من الزمن في المستقبل، رغم الصعود الصيني والنهاية الحتميّة للهيمنة الأميركية. لكنّ هذا الافتراض إشكالي، فالنظام لا تتحدّاه الديناميكيّات الدوليّة المتغيّرة فحسب، بل التطورات السياسية في البلدان التي كانت تقليديّا تدافع عنه. في الولايات المتحدة وأوروبا، يُعَدُّ صعود الشعبويّة انتفاضا ضد النظام الحالي والنُّخَب التي تدافع عنه وتتربّح منه. الدّعم الداخلي للنظام يتآكل، وتوازن القوى يميل لصالح بلدان أخرى وسيصبِح في النهاية أقل فعالية في التوسط في النزاعات. ولعلّ القوى الصّاعدة تراها فُرصة لإعادة النظر في البُنية كلها، مما سيُضاعف احتماليّة نشوب الحرب.

بعيدا عن النظرية، يُبرهن التّاريخ أيضا أن كوابح الحرب بين القوى العظمى أضعف مما تبدو عليه عادة. وبالتحديد، فإنَّ مسار التنافس الألماني والبريطاني الذي تمخضت عنه حرب عام 1914 يخبرنا كيف يُمكن لقوّتين عُظميين الانجرار في النهاية إلى صراع بدا أنّه مستبعد جدا حتّى اللحظة التي نشب فيها. ولا يُمكن لأوجه الشبه في التنافس الحالي بين الصين والولايات المتحدة أن تكون أوضح مما هي عليه.

في السنوات الأولى من القرن العشرين، بدأت القوّة الاقتصادية والتكنولوجية والبحريّة المتسارعة النموّ لألمانيا تفرضُ تحديّا للنظام الدولي القائم بقيادة بريطانيا. ورغم الروابط التجارية الوثيقة بين البلدين، بدأت النُّخَب البريطانية ترى في القوة الاقتصاديّة الألمانية مصدر تهديد. علاوة على ذلك، كانت بريطانيا تمقت النجاح الاقتصادي الألماني لأنه كان نتيجة لسياسات تجارية وصناعية تعتبرها غير مُنصفة: شعرت بريطانيا أن الازدهار الألماني يعود إلى تدخُّل الدولة بدلا من نهج عدم التدخُّل الذي حكم الاقتصاد السياسي البريطاني. وكانت النُّخَب البريطانية تُكِنُّ حقدا عميقا تجاه ألمانيا لأنها رأت ثقافتها السياسية التي تُفضِّل الجيش وقيمه نقيضا جوهريا للقيم الليبرالية. وببساطة، فقد كانت ترى في ألمانيا طرفا سيّئا متعذّر الإصلاح. ولا عجب أن البريطانيين مع اندلاع الحرب رأوا في الصراع حملة أيديولوجيّة لليبراليّة ضد الأوتوقراطية والنزعة العسكريّة البروسيّة.

كان البريطانيّون والألمان يتنافسون على المكانة بقدر تنافسهم على السلطة، وقد استفزّت إستراتيجية السياسة العالميّة الألمانية المُتمثِّلة في بناء بحريّة ضخمة والبحث عن المستعمرات بريطانيا التي لم يسعها كونها بلدا تجاريّا يطفو على إمبراطوريّة تمتد إلى ما وراء البحار أن تتجاهل ظهور قوة بحريّة معادية لها على الضفة المقابلة من بحر الشمال. لكن الحقيقة أن برنامج بناء السفن الحربيّة الألماني كان مدفوعا بالسعي إلى المكانة أكثر من الاعتبارات الاقتصادية والعسكرية، ولم يكن هدف ألمانيا بالضرورة أن تتحدى بريطانيا وإنّما أن يُعترَف بها قوّة عظمى مكافِئة.

رغم هذه المنابع للصراع المحتمل، لم يكُن اندلاع حرب بين الدولتين في أغسطس/آب عام 1914 بالأمر المفروغ منه. ومثلما أشار المؤرّخان زارا ستاينو وكيث نيلسن: “لم يكُن هناك صدام مباشر حول أراضٍ أو عروش أو حدود” بين البلدين، وكانت هناك في الحقيقة عوامل مهمة يُمكنها أن ترعى السِّلْم كالتجارة والثقافة والروابط والنُّخَب المتشابكة والعائلات الملكيّة، على سبيل المثال.

فلماذا ذهب البلدان إلى الحرب؟ تُجيب المؤرخة مارغريت ماكميلان أن الصراع كان “نتيجة إحساس قوّة عظمى أنّ أفضليّتها تُسلَب منها، ونتيجة لمنافِس صاعِد أيضا”، ومثلما تكتب فإن أوجه الشبه بين التصادم الألماني البريطاني قبل عام 1914 وبين العلاقات الصينية الأميركيّة صادمة ومُنذِرَة، إذ تجد الولايات المتحدة نفسها في مكان بريطانيا، قوّة مهيمنة حاليّة قوّتها النسبيّة في طور التآكل التدريجي. حالها حال لندن سابقا، تستاء واشنطن لصعود الصين الذي تُرجعه إلى عوامل كالسياسات الاقتصادية والتجارية غير المنصفة، وتنظر إلى عدوّها بوصفه طرفا سيئا تتنافى قيمه مع الليبرالية. ومن جهتها، تريدُ الصين حالها حال ألمانيا قبل اندلاع الحرب العالميّة الأولى أن تنال الاعتراف بوصفها قوّة مكافئة على المسرح الدولي وتسعى لبسط هيمنتها على المناطق المحيطة بها. إن عجز بريطانيا عن التأقلم بسلميّة لصعود ألمانيا ساهم في اندلاع الحرب العالمية الأولى، واتّباع الولايات المتحدة خُطى بريطانيا هو ما سيُحدِّد انتهاء التنافس الأميركي الصينيّ بالحرب من عدمه.

بالنسبة إلى قادة الصين، يُخبرنا تاريخ بلادهم عمّا يُمكن أن يحدث للبلدان الكبرى التي تُخفق في القفز إلى منازل القوى العظمى. ويقول الباحثون إنَّ هزيمة الصين على يدِ بريطانيا وفرنسا في حربَيْ الأفيون الأولى والثانية خلال منتصف القرن التّاسع عشر إنّما جاءت من عدم مقدرتها على التكيّف مع التغييرات التي جلبتها الثورة الصناعيّة. وبسبب ضعف استجابة قادة الصين، تمكّنت القوى الإمبريالية الأقوى من السيطرة على شؤون البلاد، ويُشير الصينيّون إلى العصر الذي تبع هذه المرحلة، حيثُ أخضعت اليابانُ والقوى الغربيّة الصين “بِقَرن الإذلال”.

صعودُ الصّين الحاليّ تقوده رغبة في الانتقام من الإذلال الذي تجرّعته، واستعادةِ مكانتها التي كانت قبل القرنِ التاسع عشر بوصفها قوّة مهيمنة في شرق آسيا، وكان برنامج “الإصلاح والانفتاح” الذي قاده دينغ شياو بينغ هو الخطوة الأولى في هذه العمليّة. لكي تستنهض نموّها وتحديثها الاقتصادييْن، تكاملت الصين مع النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة. فكما قال دينغ نفسه عام 1992: “إنّ مَن يتخلّفون عن الركب يتجرّعون الهزائم”. لم يكُن هدف بكين على المدى البعيد هو اكتساب الثراء ببساطة، إذ سعت لأن يُمكِّنها هذا الثراء من اكتساب القدرات العسكريّة والتكنولوجيّة التي تحتاج إليها لانتزاع الهيمنة في شرق آسيا من قبضة الولايات المتحدة. لم يكن انضمام الصين إلى النظام العالمي للحفاظ عليه وإنٍما لكي تتحدّاه من الدّاخل.

آتت تلك الإستراتيجية ثمارها، وباتت الصين تقترب من الولايات المتحدة في كلّ مقياس مهمّ من مقاييس القوّة. في عام 2014، أعلن صندوق النقد الدولي أن الصين تخطّت الولايات المتحدة، وهي أكبر قوة اقتصادية في العالم، في معيار تعادُل القوة الشرائية.

وعند قياس معدّل تداولات الأسواق، يُشكِّل الناتج المحلي الإجمالي 70% من ناتج الولايات المتحدة. ومع التعافي المتسارع للصين من الهبوط الاقتصادي جراء الجائحة، فإنّها على الأرجح سوف تتخطّى الولايات المتحدة بوصفها الاقتصاد الأوّل في كل معيار تقريبا قبل نهاية العقد الحالي. والأمر سيان في الشؤون العسكرية. في عام 2015، لاحظت دراسة أجرتها وكالة راند أنّ الفجوة في القوة العسكريّة بين الجيشين الصيني والأميركيّ في شرق آسيا آخذة في الانكماش طردا، كما أن الأساطيل والقواعد الأميركية في المنطقة تقع تحت تهديد القدرات الصينية المُحسَّنة. وعبَّر مؤلفو الدراسة عن دهشتهم إزاء هذا التغيّر قائلين: “حتى بالنسبة إلى العديد من المساهمين في هذا التقرير، ممّن يتتبعون التطورات في الشأن العسكري الآسيوي بانتظام، كانت سرعة التغيير صاعقة”.

بشكل متزايد، يرى صنّاع السياسة الأميركيون التنافس الصيني الأميركي لا بوصفه تنافسا تقليديا بين قوّتين عظميين وإنّما بوصفه صراعا بين الديمقراطية والشيوعية. في يوليو/تموز الماضي، ألقى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو خطابا كان الغرض الرئيسي منه تقديم العداوة الأميركية الصينية ضمن محددات أيديولوجية، وأخذ يقول: “علينا أن نأخذ في الحسبان أنَّ نظام [الحزب الشيوعي الصيني] هو نظام ماركسي لينيني”. يهدف خطاب من هذا النوع إلى التأسيس لمرحلة أكثر تفاقما من الصدع الأميركي الصيني عبر استدعاء كنايات الحرب الباردة للاتحاد السوفيتي بوصفه “إمبراطوريّة الشر”، ونزع الشرعية عن الحكومة الصينية في أنظار الأميركيين وتصوير الصين باعتبارها طرفا سيئا في السياسات الدولية.

ليس النظر للصين من موشور الأيديولوجيا حكرا على الصقوريين من أمثال مايك بومبيو، بل إنَّ طيفا واسعا من أبناء المؤسسة في واشنطن يعتقدون أن التهديد الحقيقي للولايات المتحدة ليس في القوة العسكرية والاقتصادية المتزايدة للصين، وإنما في التحدي الذي تفرضه بكين للنموذج الأميركي في التنمية السياسية والاقتصادية. إنّ المنعطف الأيديولوجيّ في سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين يفتقر إلى الحكمة، إذ إنه يُولِّد مزاجا محموما في واشنطن ويرفع احتماليّة الحرب. سيكونُ من الأفضل لواشنطن انتزاع الأيديولوجيا من المعادلة وإبقاء عداوتها مع الصّين ضمن محددات حرب القوى العظمى التقليدية، التي تهدف فيها الدبلوماسية إلى إدارة التنافس بالمساومة والتوفيق والبحث عن أرضية مشتركة.

علاقة الولايات المتحدة والصّين اليوم تهوي في سقوط حر، فلقد تأزمت العلاقات الاقتصادية بسبب الحرب التّجارية التي شنّتها إدارة ترامب، وإثرَ السياسة التي تتبعها شركات التكنولوجيا الأميركية لتدمير شركات صينيّة مثل “هواوي”. من السّهل أن نرى عدد نقاطِ الصّراع التي يُمكن أن تؤدّي إلى حرب خلال السنوات القادمة، وقد تجتذب الأحداث في شبه الجزيرة الكورية الولايات المتحدة والصين، إذ أدّت المناورات العسكرية لكلا البلدين إلى زيادة التوترات في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان. تتحدّى واشنطن أيضا التفاهمات الراسخة حول وضع تايوان من خلال الاقتراب من الاعتراف باستقلال الجزيرة عن الصين والاعتراف علنا بالالتزام العسكري للولايات المتحدة بالدفاع عن تايوان. كما ردّت الولايات المتحدة بقوة على قمع بكين أقلية الإيغور المسلمة في الصين وفرضها قانونا أمنيا جديدا قاسيا على هونغ كونغ. في كلتا الحالتين، أدانت مجموعةٌ من المسؤولين الأميركيين من كلا الحزبين الصينَ، وفرض كلٌّ من الكونغرس وإدارة ترامب عقوبات انتقامية.

رغم هذا التراجع، من غير المُرجَّح أن تتخلى الصين عن هدفها المُتمثِّل في التحوُّل إلى قوة مهيمنة إقليمية في شرق آسيا، كما ستُواصِل بكين الضغط على الولايات المتحدة لمنحها الاحترام باعتبارها قوة عظمى مكافِئة. إن تجنُّب الحرب من خلال استيعاب رغبات الصين سيتطلّب من الولايات المتحدة التراجع عن ضمانها الأمني ​​لتايوان والاعتراف بمطالب بكين في الجزيرة، وستحتاج واشنطن أيضا إلى القبول بحقيقة أن قيمها الليبرالية ليست قيمة عالمية، وبالتبعية التوقُّف عن التدخُّل في الشؤون الداخلية للصين من خلال إدانة سياسات بكين في هونغ كونغ وسنجان وإصدار دعوات مبطنة لتغيير النظام.

هناك فرصة ضئيلة في أن تتخذ الولايات المتحدة هذه الخطوات، والقيام بذلك سيعني الاعتراف بنهاية سيادة الولايات المتحدة، وهذا يجعل احتمالية نشوب حرب ساخنة أكثر احتمالا. على عكس ما حدث أثناء الحرب الباردة، عندما قبلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي عموما مجالات النفوذ الأوروبية لبعضهما بعضا، فإن وجهات نظر واشنطن وبكين مختلفة تماما حول مَن يجب أن يتمتع بالامتياز في شرق الصين وبحر الصين الجنوبي وتايوان.

كما من غير المُرجَّح أن يعمل الرأي العام الأميركي بمنزلة ضابط على هذا المسير المحتمل نحو الحرب. تاريخيا، لم تكن مؤسسة السياسة الخارجية للبلاد تستجيب بشكل خاص للرأي العام، ولا يعرف الكثير من الناخبين الأميركيين سوى القليل عن الالتزامات العسكرية الأميركية في الخارج وتداعياتها. في حالة هجوم صيني، خاصة ضد تايوان، فإن تأثير “التجمع حول العَلَم” وقدرة حكومة الولايات المتحدة على التلاعب بالرأي العام من المُرجَّح أن يُحيِّد المعارضة العامة للحرب. كان قادة الولايات المتحدة يُدينون بكين باعتبارها ديكتاتورية شيوعية عدوانية وتوسُّعية تهدف إلى قمع محبي الحرية في منطقة ديمقراطية. سيُقال للرأي العام الأميركي إن الحرب كانت ضرورية لدعم القيم العالمية للولايات المتحدة. بالطبع، وكما كان الحال مع الحرب العالمية الأولى وحرب فيتنام وحرب العراق، فإن خيبة الأمل العامة ستكونُ في حال سارت الحرب بشكل سيئ.

خلال السنوات الأخيرة، أشار عدة مراقبين، منهُم محللون بارزون في الصين والولايات المتحدة، إلى أن الولايات المتحدة والصين قد تكونان على مسار الحرب دون وعي منهما، مثلما كان الحال بين بريطانيا وألمانيا في عام 1914. ومع أنَّ المَسير نحو الصّراع لم يزل جاريا فإنَّ الجميع حاليا جالسون على حوافّ مقاعدهم. المشكلة هي أنه رغم أنَّ أنصار المواجهة المتصاعدة يلقون مزيدا من الآذان المُصغية، فإن معارضة هذه السياسات قد أُسكِتت داخل مؤسسة السياسة الخارجية أيضا. أحد الأسباب لذلك هو أن العديد من أنصار سياسات ضبط النفس في السياسة الخارجية الأميركية قد أصبحوا في السنوات الأخيرة أكثر تزمُّتا فيما يخص الصين. وقلة من الباحثين والمحللين الذين يعتقدون أن على الولايات المتحدة الانسحاب من الشرق الأوسط (وحتى أوروبا لدى البعض) يقولونَ إن على أميركا أن تُجري تعديلات إستراتيجية مماثلة في شرق آسيا.

وبدلا من ذلك، يزعم البعض داخل هذا المعسكر حاليا أن على الولايات المتحدة أن تُعارِض اتّجاه الصين نحو الهيمنة الإقليمية. لكن هذا الجدال مبني على كابوس جيوسياسي استحوذ على المفكر الإستراتيجي البريطاني السير هالفورد ماكيندر في بدايات القرن العشرين: إن هيمنت قوّة واحدة على الأراضي الأوراسية، فإنها قد تبسط هيمنتها عالميّا عندئذ. وهناك نقاط ضعف عديدة في جدال ماكيندر، ذلك أنّه نتيجة عصر كان يضع القوة العسكريّة وحجم الكثافة السكانية وإنتاج الفولاذ والفحم في كفّة واحدة. لقد هُوِّل التهديد الأوراسي أيام ماكيندر، وما زال الأمر كذلك، فالهيمنة الصينية الإقليمية ليست بالأمر الذي يستحق خوض حرب لأجله.

تظل مسألة إمكانية الولايات المتحدة أو عزمها على التخلّي عن هيمنتها في شرق آسيا والاعتراف بالصين قوة عظمى مكافئة لها سؤالا مُشرّعا على العديد من الإجابات. لكن ما لم تُقْدِم واشنطن على هذا الأمر، فإنّها ستكون على مسار متسارع نحو حرب تجعل الكوارث العسكريّة التي خلّفتها في فيتنام وأفغانستان والعراق تبدو قليلة بالمقارنة.

مركز الحقول للدراسات والنشر
الثلاثاء‏، 23‏ ربيع الثاني‏، 1442، الموافق ‏08‏ كانون الأول‏، 2020

 

Please follow and like us: