صرح رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في مطلع السنة الماضية (2019)، بأن لبنان يعاني من “الإستعمار المالي”[1]. لم يقصد الرئيس عون من هذا التصريح، الذي أعقب “انتخابات نيابية ديموقراطية” (أيار 2018)، التذكير بأن لبنان هو دولة ناقصة السيادة، بسبب استمرار احتلال “إسرائيل” لأراضيه وعدوانها على بحره وسمائه. إنما كان يشير إلى “دور” الولايات المتحدة الأميركية في إضعاف سيادة الدولة اللبنانية وتهديدها.
- أهداف الهيمنة الأميركية في لبنان
عندما نتحدث، بكثافة، عن “الدور الأميركي”، فإننا نقصد كل سياسة الحكومة الأميركية في لبنان. وهذه السياسة تبتغي هدفين ثابتين. الأول، إبقاء لبنان في وضعية “الدولة الرخوة”[2]، التي تُسَخَّر للمصالح الإستراتيجية للإمبريالية الأميركية و”الأطلسية” في المشرق العربي وسائر غربي آسيا. الثاني، تصفير القدرات الدفاعية اللبنانية في مواجهة “إسرائيل”، وإبعاد لبنان عن الكفاح الوطني والقومي ضد النظام الصهيوني في الإقليم والعالم.
تكفينا وقائع المرحلة اللبنانية الراهنة، وما من حاجة للعودة إلى الماضي، لكي نلاحظ، بحدود معينة، أن الأجهزة السيادية الأميركية، في إطار اختصاصها الإداري ـ المهني، تتولى تنفيذ هذه السياسة وتعمل على تحقيق أهدافها. يتم ذلك، إما بالقوة العسكرية، أو بـ”القوة الناعمة”، حسب الظروف، بحيث تحمي هذه الأجهزة، “الوجود الأميركي” في لبنان، الذي نشأ من “الوضع التاريخي” للولايات المتحدة فيه. فقد ورث الإمبرياليون الأميركيون، بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) المصالح الكولونيالية الأوروبية، في ما يسمى “الشرق الأوسط”، ومنه الكيان ـ النظام الطائفي اللبناني.
تشكل “الوضع التاريخي” للهيمنة الأميركية في لبنان، من خلال تحولات تاريخية لبنانية وعربية ودولية مختلفة. فقد وقفت الولايات المتحدة، وراء كل تحول لتوليد وترميم “النظام السياسي ـ الدستوري” الطائفي اللبناني القائم. فيما صارت فرنسا، باعتبارها القابلة الأولى / sage femme لهذا “النظام”، وكذلك بريطانيا وبقية الأوروبيين، على هامش هذه التحولات. وقد رأينا ذلك بعد الحرب الأهلية الصغرى عام 1958. وعند نهاية الحرب الأهلية الكبرى (1975 ـ 1989) وتوقيع اتفاق الطائف. ثم طيلة مرحلة نظام الطائف حتى “ثورة الأرز” ( 1989 ـ 2005). ومن عدوان “إسرائيل” على لبنان في تموز عام 2006، إلى “ما سمي كذباً وزوراً وبهتاناً بثورات الربيع العربي”[3] (2011). مذاك، وجدنا كيف تململ “الحراك اللبناني” مرتين في عام 2012، وفي عام 2015، ثم انفجر في 17 تشرين الأول 2019، وما زال مستمراً إلى وقتنا الراهن.
- ممَّ يتشكل جيش الإحتلال الأميركي في لبنان
أنبت “الوضع التاريخي” للهيمنة ما يسمى بـ”الوجود الأميركي” في لبنان. وتبدأ مكوناته، أي أدواته الأميركية الخالصة، العلنية، ونقول هذا من غير حصر، من ثلاثي : السفارة ـ وزارة الخارجية، الجيش[4]، وكالة التنمية. ثم الجامعة والمدرسة، المستشفى، الشركات، الجمعيات، وقفيات / صناديق الإحسان، الإعلام والإعلان المنتج في أميركا. ثم، وصولاً، إلى مراكز البحث “المحلية”[5] والقومية، مواقع التواصل الإجتماعي، النخب من أصول لبنانية، روابط المغتربين، هيئات كنيسة. أما المكونات السرية لهذا “الوجود”، التي يصعب ملاحظتها، ولكن يمكن تخمينها، أحياناً فإنها تتمثل بالحضور والنشاط السري للأجهزة الأمنية والإستخبارية والعسكرية.
تتحرك أدوات “الوجود الأميركي” في لبنان، كـ”جيش”، بل هي “جيش”، يضم وحدات ذات تخصصات متعددة. يقوم هذا “الجيش الأميركي” من نوع خاص، بالتغلغل العمودي والأفقي في الدولة والمجتمع في لبنان، عبر الوسائل والإمكانيات “المحلية” التي يحصل عليها أو يشكلها لضمان فعاليته. إذا فرجنا زاوية الرؤية، سنلاحظ تركز التغلغل الأميركي في بعض الأطر القطاعية، وأبرزها[6] :
ـ قطاع الحكومة بشقيه المدني[7] (ـ البلدي) والعسكري[8]
ـ قطاع الشركات ومجتمع الأعمال
ـ قطاع الإعلام وشبكات التواصل
ـ قطاع الأحزاب والجمعيات السياسية والنقابية والمهنية
ـ قطاع المنظمات غير الحكومية أو “المجتمع المدني”
ـ قطاع التعليم والسلك الأكاديمي[9]
ـ قطاع المجتمع الأهلي : هيئات الطوائف والعائلات ومؤسساتها الدينية والسياسية والصحية والإجتماعية[10].
أشرنا آنفاً إلى هدفين ثابتين للسياسة الأميركية في لبنان. بيد أن هذا التغلغل الإجتماعي ـ السياسي في القطاعات المذكورة، يكشف عن هدف أميركي استراتيجي ثالث، مزدوج، ألا وهو، من ناحية، دعم هيمنة النخبة “المحلية” الطائفية الموالية للولايات المتحدة، وتعزيز مصالحها في السلطة والدولة والمجتمع في لبنان. ومن ناحية ثانية، “تفريخ” نخب “محلية” جديدة، ذات وجه نصف طائفي، أو شبه علماني، موالية للولايات المتحدة أيضاً. وتكون وظيفتها أن تزود النظام السياسي ـ الدستوري” الطائفي، بالكوادر والكتلة الإجتماعية اللازمة لاستمراره، كما لإنعاش نظام الهيمنة الأميركية “المحلي” ـ الإقليمي ـ الدولي[11].
تؤلف أدوات “الوجود الأميركي” في لبنان، جيش احتلال هجين، حقيقي. وتعمل كل مُرَكَّباته، كدينامية خارجية تدور على “مقتضى سياسة الولايات المتّحدة و… في مسار تحرّك يتماشى مع السياسة الخارجية الأميركية”[12]. لا يتحرك هذا “الجيش” إلا خلف شعارات “محلية” خادعة تهدف إلى إعادة تشكيل المجال السياسي[13]. في هذا “المسار” الأميركي نجد “المجتمع المدني” في لبنان يتحرك أيضاً[14]. وهذا ما يفسر، حالياً، مقترح الولايات المتحدة وأطراف محلية وعربية وأوروبية إجراء “انتخابات نيابية مبكرة”، ثم إصرارهم على أن يكون “المجتمع المدني” جزءاً من الحكومة الجديدة التي ستخلف حكومة حسان دياب المستقيلة.
ثمة مصادر متنوعة تسمح برسم خط كرونولوجي عام، يتبع أهم الخطوات الميدانية التي اعتمدتها أو تعتمدها الولايات المتحدة في التغلغل القطاعي في الدولة والمجتمع في لبنان، وفي إعادة تشكيل توازن المجال السياسي بعد فشل أنصارها في انتخابات 2018، وهي تكشف عن مهام هذا “الجيش” في تنفيذ أهداف الإحتلال الأميركي في لبنان.
هيئة تحرير موقع الحقول
الأحد، 06 جمادى الأولى، 1442، الموافق 20 كانون الأول، 2020
[1] الرئيس ميشال عون في حوار إعلامي مفتوح بمناسبة مرور سنة على انتخابه. وكالات، 30 تشرين الأول 2018.
[2] ورقة “إشكالية تمكين المنظمات العربية غير الحكومية من تنفيذ قرارات المؤتمرات الدولية (مقاربة نقدية)”. علي نصّار. قدمت مسودة هذه الورقة في حلقة نقاش حول ” كيفية تمكين المنظمات غير الحكومية من تنفيذ قرارات المؤتمرات الدولية”. وقد نظم الحلقة : جامعة الدول العربية، وزارة الشؤون الإجتماعية في مصر، مركز البحوث العربية ـ القاهرة، اللجنة الإجتماعية والإقتصادية لغرب آسيا (إسكوا). وذلك خلال الفترة ما بين 19ـ22 أيلول 2000. الصفحة 10 ـ 13. عدد الصفحات 49
[3] وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودي عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ. وردت في جريدة عكاظ السعودية، يوم الأحد 13 كانون الثاني/ يناير 2019.
[4] السفارة الأميركية ودورها التجسسي. تقرير مفصل بعنوان : السفارة الأميركية في بيروت : دمج النشاط الإستخباري والتجسسي بالعمل الديبلوماسي. منشور في موقع الحقول أوائل تموز عام 2011. عدد الصفحات 5.
[5] بشر “المركز اللبناني للدراسات” وهو واجهة بحثية أميركية، بالإنهيار المالي الذي نعيشه منذ شهور، وذلك قبيل أيام من موعد الإنتخابات النيابية 2018، التي خسر فيها فريق 14 آذار الأغلبية البرلمانية. وقد لاحظنا أنه : بدأ “المركز اللبناني للدراسات” الذي يموله الأميركيون حملة على مؤتمر باريس 4، وأنه سيمهد للإنهيار المالي في لبنان. وهذه الحملة هي جزء من الضغوط الأميركية على لبنان، وتحديداً على المقاومة فيه. وقد تكون سيناريو المواجهة الأساسي بعد انتخابات 6 أيار. أنظر تقرير باسل صلوخ الذي وزعه المركز منذ أيام. [باريس 4: أحلام اليقظة
يبدو أن ساعة الحساب المالي في لبنان قد دقّت أخيرًا، أو أقلّه هذا ما يُستشفُّ من البيان الختامي لآخر بعثة لصندوق النقد الدولي بتاريخ 2 شباط 2018. وهو يحذّر من أنّ “دين لبنان لا يمكن ان يستمر بحسب السيناريو الأساسي. وفي سياق النموّ المتدنّي في لبنان وارتفاع معدّلات الفوائد عالمياً، لا تنفكّ ديناميّات الدين في التدهور، والدين العام في التنامي بسرعةٍ ليصل إلى ما يناهز 180 بالمئة من إجمالي الناتج المحلّي بحلول 2023 بموجب السيناريو الأساسي عينه، ليواصل ارتفاعه فيما بعد؛ كذلك، ستتعزّز التبعيّة الكاملة والمتبادلة بين المصارف والدولة، كما أنّ اعتماد لبنان المتزايد على تدفّق الإيداعات سيعرّض الاقتصاد لمزيد من التقلّبات في ثقة المودعين”. يمكن وصف ردّة الفعل اللبنانيّة …
باسل صلّوخ, أستاذ مشارك في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت وباحث مشارك في المركز اللبناني للدراسات
https://www.lcps-lebanon.org/featuredArticle.php?id=139
April 2018 ]…
[6] “دليل المنظمات غير الحكومية”، منشورات وزارة الخارجية الأميركية، باللغة العربية، 2012. الصفحة 43. عدد الصفحات 80.
[7] توفر التركيبة السياسية في برلمان 2018 عينة ملائمة على ذلك. ولدى تحليل هذه التركيبة يتبين أن بعض النواب في بعض الكتل السياسية ـ النيابية، هم “وديعة أميركية صافية” لديها.
[8] حول التغلغل الأميركي في الجيش، راجع :
ـ الصراف «يبق البحصة»: هذه قصتي مع «جماعة اليرزة»، ملاك عقيل، جريدة الجمهورية الثلاثاء 28 آب 2018 :
http://www.aljoumhouria.com/news/index/432688
ـ مقابلات تلفزيونية للنائب اللواء جميل السيد الفوضى الأمنية في منطقة بعلبك ـ الهرمل. شاهد :
ـ جميل السيد: اتمنى على الرئيس بري اقصاء من يزرع الفتنة في داره
AL Jadeed Live Streaming Channel
Published on Jul 17, 2018
https://www.youtube.com/watch?v=lVqwM1Is1AQ
ـ جميل السيد: التقصير الأمني مؤامرة على البقاعِ وأهله
aljadeedonline
Published on Jun 20, 2018
ـ نشرت جريدة الأخبار يوم السبت 14 تموز 2018، مقالاً للكاتب الأميركي من أصل لبناني أسعد أبو خليل، بعنوان : قائد الجيش اللبناني في واشنطن: الزيارة الثالثة.
[9] تعمل منظمات أميركية لاستقطاب الطلاب والعمل الإجتماعي في لبنان عبر جملة من البرامج الأكاديمية والإجتماعية والثقافية.
[10] يمكن الحصول على نظرة مفصلة، عن هذا التغلعل القطاعي، خصوصاً بعد انفجار “الحراك الشعبي” في تشرين الأول 2019.
ـ أنظر : اليمين الجديد في لبنان. ورقة بحثية بعنوان : ثورة “اليمين الجديد” في لبنان: قراءة في دور “المنظمات غير الحكومية” في “الحراك الشعبي 2019”. مؤرخة في 30 كانون الأول 2019.
[11] لوحظ منذ عام 2016، أنه في إطار “تجديد النخب” الموالية لهم، يتجه الأميركيون، والأوروبيون من خلفهم، نحو تطوير دور الفاعل غير الحكومي في السياسة اللبنانية. وهناك معطيات تنبئ بتسييس أكبر لهذا الدور في المرحلة المقبلة. خصوصاً، إذا ما استمر الصراع الطائفي حبيس المسار الدستوري. لقد عجزت الولايات المتحدة عن إنجاز “الثورة الملونة” في لبنان، أو ما سمي بـ”ثورة الأرز”. لكنها، حسب تلك المعطيات، ربما تطمح، من خلال عملية إعادة تكييف اتفاق الطائف، ضمن موازين القوى الحالية والمتوقعة، طبعاً، إلى أن يسهم الفاعل غير الحكومي في إنجاز نصف “ثورة ملونة”.
[12] أنظر :
ـ كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة. “في مواجهة الدول الفاشلة… لم يعد لدينا عذر في الشرق الاوسط”. مقال منشور في جريدة النهار، يوم الثلاثاء، 13 كانون الأول/ديسمبر، 2005.
[13] بعد تفجير مرفأ بيروت، صرح المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط ديفيد هيل، بأن “لبنان بحاجة لتطبيق إصلاحات اقتصادية ونقدية ومحاربة الفساد المستشري وتحسين الشفافية”. ورغم هول التفجير الكارثي، أصر على أن “واشنطن لن تقدم مساعدات طويلة الأجل للبنان، حتى ترى [في السلطة] قيادة قادرة على الإصلاح والتغيير”.وكالات، الأربعاء 19 آب 2020.
[14]راجع “أخبار” لقاء ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأميركي مع “ممثلي المجتمع المدني” في لبنان، خلال زيارته إلى بيروت مطلع شهر أيلول الماضي.