اغتيل السفير الروسي في تركيا أندريه كارلوف في العاصمة أنقرة، قبل نحو 7 سنوات، يوم 19 كانون الأول/ ديسمبر عام 2016. كان الديبلوماسي المغدور يلقي كلمة في افتتاح معرض للصور الفوتوغرافية، حين اقترب منه ضابط شرطة بملابس مدنية وأطلق عليه النار فأرداه قتيلاً. تم توقيف مواطنين أتراك بتهمة تدبير جريمة الإغتيال. وأظهرت التحقيقات أنهم من أفراد جهازي الإستخبارات والشرطة، كما أنهم أعضاء في “حركة خدمة”، وهي إحدى تنظيمات “الإسلام السياسي” القوية والنافذة في المجتمع التركي، التي أسسها فتح الله غولن، ويقودها من مقره في الولايات المتحدة الأميركية.
أدين المتهمون في المحاكم المختصة بجرائم “القيام بمحاولة انقلاب والقتل العمد”، وصدرت الأحكام بحقهم في يوم 21 آذار/ مارس 2021، حيث سيقوا إلى السجن المؤبد. لكن التحقيقات والمحاكمات التي استمرت نحو أربع سنوات، لم تفك كل ألغاز تلك الجريمة. فمنذ شهر تقريباً، وتحديداً في أواسط شهر حزيران / يونيو من عامنا هذا، نشرت صحيفة “صباح” تقريراً موثقاً يشير إلى ضلوع أشخاص آخرين في اغتيال كارلوف، ينتمون إلى التنظيم ذاته، وإنهم يقيمون في الولايات المتحدة الأميركية، أسوة بزعيمهم غولن. كما يشير إلى دوافع المجرمين وتنظيمهم “الإسلامي”، ومنها “الدافع الأميركي” الذي نلمحه بشكل ما.
يبين التقرير الذي حرره الصحافي التركي عبد الرحمن شيمشك المختص بالشؤون الأمنية في صحيفة صباح، أن الشبكة التنفيذية المحلية التي قادت ونفذت عملية الإغتيال داخل تركيا، كانت مسنودة إلى الشبكة الخارجية الممتدة في الولايات المتحدة والسويد والمانيا والمؤلفة من أتراك يقيمون هناك. وترك شيمشك للقراء صور لبعض هؤلاء مع عناوين مساكنهم أو مكاتبهم في أميركا.
ويقول شيمشك إن المدعو “تيميل السنجاق / Temel Alsancak هو الرأس المدبر لاغتيال السفير كارلوف”، وأنه مقيم في تكساس بالولايات المتحدة الأميركية، تحت الاسم الرمزي “قادر”. ويضيف بأن : هذا “الوغد الذي قتل كارلوف، عضو في الهيكل الأمني لمنظمة غولن، ويعيش في مأواه الأميركي برفاهية، وقد أسس 4 شركات ـ واجهة منفصلة عن بعضها البعض، مهمتها توفير تأشيرات/ visas أميركية لأتباع غولن”. وهذه المعلومات تغذي الظنون بأن السنجاق وشبكاته، ما كانت لتدلف إلى عالم الإرهاب الدولي، لولا الحظوة السياسية التي نالتها لدى المستويات العليا في الحكومة الأميركية وأجهزتها الأمنية.
وقد سألت الحقول خبيراً عربياً في الشؤون التركية يقيم في العاصمة اللبنانية بيروت، أن يبدي رأيه بتقرير “صباح”. فأجاب قائلاً : “إن المعلومات الواردة فيه، هي جزء من الحملة الواسعة التي بدأها حزب العدالة والتنمية [الإخواني الحاكم في تركيا] ضد جماعة فتح الله غولن، عقب الإنقلاب العسكري الفاشل على الرئيس التركي رجب أردوغان، يوم 15 تموز/ يوليو 2016، بل قبل الإنقلاب، حينما اندلع صراع بين أردوغان وغولن على الزعامة السياسية لتركيا. واستطاع الرئيس التركي إضعاف خصمه بصورة كبيرة”.
ولفت إلى أن “المشاركة في هذه الحملة تشمل صحفاً أخرى مثل حريت ويني شفق، بل كل ـ ما يمكن أن يسمى ـ أمة الإعلام في تركيا التي يسيطر عليها أردوغان بشكل شبه تام”. وأضاف : “إن الدور التخريبي للأميركيين في دول كثيرة ليس خافياً علينا أبداً. إلا أنه من الصعب أن نعتبر المعلومات الورادة في تقرير شيمشك كأنها دليل على صراع تركي ـ اميركي، بوجود أجندة تحالف بين أنقرة وواشنطن”.
وتؤيد بعض الأوساط الغربية رأي هذا الخبير، عن تبعية صحيفة “صباح” وغيرها للإستخبارات التركية. بيد أن أهمية التقرير تعززت، بعد حديث مصادر عربية عن مشاركة أميركية مباشرة في إخفاء أدلة تكنولوجية عن المحققين في جريمة اغتيال كارلوف. وتلفت هذه المصادر إلى أن الشرطي التركي مولود مارت ألتنطاش الذي أطلق النار على السفير الروسي، تلقى دعماً تكنولوجياً من شريك له في الجريمة، هو موظف سابق في “مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التركية”، عمد إلى محو الرسائل من البريد الإلكتروني لألتنطاش.
غير أن الدعم الحاسم للشبكة المحلية التي نفذت الجريمة، جاء من شركة “آبل” الأميركية، التي كان ألتنطاش يستخدم هاتفاً خلوياً من إنتاجها. ولما عجزت سلطات التحقيق التركية عن فك شيفرته لسحب الداتا منه، رغم الاستعانة بالكثير من الخبراء، توجهت إلى شركة “آبل” بطلب الدعم التكنولوجي لفتح هاتف القاتل، غير أن الشركة الأميركية رفضت مساعدة المحققين.
هذه المعلومات عن دور “آبل”، تعيدنا إلى ما ذكر آنفاً، عن أن قتلة كارلوف أدينوا بجريمتي “القيام بمحاولة انقلاب والقتل العمد“. فالإنقلاب سبق الإغتيال بخمسة أشهر، وربط المحاكم بعد التحقيقات بين الجريمتين، أدى إلى فك لغز الدور الأميركي فيهما. إلا المسؤولين الأتراك اشتبهوا بدور واشنطن في تحريك الإنقلاب العسكري في ليلة وقوعه ذاتها.
ففي تلك الساعات العصيبة التي هددت مصير نظام أردوغان والحكم “الإخواني” في تركيا، صرح رئيس الحكومة بن علي يلدريم بأن “فتح الله غولن يتزعم منظمة إرهابية”. ثم أضاف إن “الدولة التي تقف إلى جانب فتح الله غولن ليست صديقة لنا”. وكان من الواضح ان الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة التي قصد يلدريم أنها تقف مع “الإرهاب الغوليني” الذي صار عدواً لنظام حكم أردوغان.
ولكي نستكمل فك لغز الدور الأميركي في اغتيال السفير الروسي في تركيا، نشير إلى ما ورد في تقرير “صباح” عن أن غاية مخططي الاغتيال، كانت “قطع العلاقات السياسية والعسكرية بين تركيا وروسيا وإدخالهما في حالة حرب”. وهذا، بلا ريب، هدف أميركي جيواستراتيجي عظيم الأهمية.
فالولايات المتحدة الأميركية دعمت الإنقلاب على أردوغان، والإتحاد الروسي أفشل الإنقلاب. يقول تقرير الراديو البريطاني : إن جنود القوات الخاصة في الجيش التركي، هاجموا في تلك الليلة فندق كلوب توربان الفخم في منتجع مارماريس الساحلي، حيث كان الرئيس التركي رجب أردوغان قد نزل فيه لقضاء عطلة، وتمكنوا من قتل اثنين من حراسه. لكن المهاجمين أخفقوا في اعتقال وربما اغتيال أردوغان نفسه، بسبب تلقيه بلاغاً من مصدر ما، فبادر إلى الفرار من الفندق بطائرة مروحية ونجا بنفسه. وتؤكد مصادر ديبلوماسية عربية أن موسكو هي التي أبلغت أنقرة بأن واشنطن تريد رأس أردوغان. وعلى كل حال، يقول سياسي عربي بارز، فإن الرئيس التركي لم يكن أمامه مكاناً غير موسكو أو طهران يستطيع أن يفر إليه، فيما لو نجح الإنقلاب وبقي على قيد الحياة.
وما ذكره شيمشك في صحيفة صباح عن أن غاية مخططي اغتيال السفير كارلوف، كانت “قطع العلاقات السياسية والعسكرية بين تركيا وروسيا وإدخالهما في حالة حرب”، يغذي الظنون بأن الأميركيين بدعمهم للشبكات التي نظمت عملية الإغتيال ونفذتها، كانوا يريدون بالفعل، ضرب التقارب التركي ـ الروسي، لأنه سيزيد حجم الفتوق في الكتلة الأوراسية ما يهون عليهم تمزيقها.
ولذلك، فإن واشنطن، في ما خص تركيا، “تعاني” من إدمان الرئيس أردوغان على “استخدام موقع تركيا الجيوبوليتيكي، [بغية] الجلوس على كرسيين للتفاعل مع كل من الغرب [الأطلسي] والشرق [الأوراسي]”، ولذلك رغبت في “إزالته” بالإنقلاب العسكري أو باغتيال كارلوف. بينما تفضل فتح الله غولن، حليف أردوغان السابق، الذي اخترقت شبكاته المجتمع التركي والدولة التركية في الوطن والمهجر. لأن “غولن الذي لا ينتقد إسرائيل ويرفض التمرد الفلسطيني عليها، متصالح مع الغرب، انطلاقا من اقتناعه بأن الغرب يقود العالم، وبأنه يتحتم على كل من يريد الحضور على الساحة العالمية التصالح والتنسيق معه لا مصادمته، وفي المقابل نظر الغرب إليه بالرضى دائماً”.
إذن، بأردوغان أو غولن، بالإنقلاب العسكري أو بالإغتيال السياسي، تريد واشنطن أن تبقي أنقرة قابعة على “الكرسي الأطلسي” دون سواه، ولا نعجبن إذا اكتشفنا اليوم أو غداً، أن الأميركيين هم الذي يديرون التقزيم الإقتصادي المتصاعد في تركيا، حالياً…
مركز الحقول للدراسات والنشر
الأربعاء، 02 محرم، 1445، الموافق 19 تموز، 2023
COMMENTS