غداة استقلال الجزائر كدولة وطنية، ناتجة عن حركة تحرر وطني خاضت حرب ثورية تحررية عنيفة اسقطت نظاماً كولونيالياً استمر لقرن واثنتين وثلاثين سنة في تدمير مُمنهج للبنى التقليدية للشعب الجزائري الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لم تتبنّ الدولة مشروعا ثقافيا يتلاءم مع طبيعة الثورة الجزائرية الريفية، أي انه لم يُعمل ـ كما حدث في تجارب وطنية عديدة ـ على ترقية الثقافة الشعبية والموروث الغنائي الريفي في القلب منها، وانما جرى الاهتمام فقط بالموسيقى الاندلسية (بمدارسها المختلفة الاشبيلية “المالوف” و الغرناطية ..الخ) المنتشرة في “الحواضر” والمدن الجزائرية التي استقبلت كغيرها من مدن المغرب الكبير جاليات اندلسية كبيرة. واضيف اليها الموسيقى الشرقية (مصرية او مشرقية شامية وعراقية)، في ترسيخ لمفهوم الفصل بين الثقافة الشعبية (البسيطة وذات الطابع الفولكلوري) والثقافة النخبوية (المتخصصة والعالمة). كما يُمكن ان نقرأها عند غرامشي او عند بورديو (الحالة الجزائرية كانت مجال بحوثه السوسيولوجية) وتكريسا لـ”ثنائية تضليلية” بين “ثقافة الاغلبية” و”ثقافة النخبة”، ولهذا الخيار اسباب عديدة ـ من وجهة نظرنا ـ قد يطول شرحها مما قد يبعدنا عن مضمون المقال .
ظلت قصائد الشعراء الجزائريين الريفيين التي يؤديها مغنون ريفيون بآلات موسيقية تقليدية غير وترية غالبا (قصبة، قلال، بندير..الخ) تجسيدا للقيم الرمزية المرتبطة بالريف الجزائري، ـ بقيت “القصبة” رفيقا دائما لمقاتلي جيش التحرير في الجبال والغابات، ـ في كل مناطق البلاد والتي تغنّت بالحب وببطولات المقاومة ضد الاستعمار، تماما كما تغنّت بأقطاب وشيوخ الطرق الصوفية كمُمثلين للتدين الشعبي، مُغيّبة الى حد كبير وبقيت في اطارها الشفهي الا في حالات استثنائية.
في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي ومع سياسة “الانفتاح الاقتصادي” ذات الطابع اللبرالي التي قادها الرئيس السابق الشاذلي بن جديد، والتي ارتدّت عن “المشروع التنموي الاشتراكي” الذي قاده الرئيس الجزائري السابق هواري بومدين. كان اساس سياسة بن جديد اعادة هيكلة مؤسسات القطاع العام والتخلي عن مشاريع التصنيع وتشجيع الاستيراد والاستهلاك وتُوجت بزيارة الرئيس لأمريكا 1985.
وجدت “السلطة” في اطار ارتدادها عن المشروع البومدييني ـ القائم على تغيير طبيعة النظام ولكن ايضا على تغيير سلوك الجزائريين ـ في اغاني ” الراي” ما يشجع على هذا النهج، بعد ان قام شباب من احياء شعبية بعصرنة التراث الموسيقى الريفي، بإدخال الات موسيقية غربية ومزجها مع الالحان التقليدية الاصلية، وسحب البساط من “شيوخه” واحداث “ثورة” في كلماته بتجنب اداء القصائد، لتُصبح تعبيرا عن التحرر من كل قيد اجتماعي او ديني، تصل حد العبثية والمجون احيانا.
تمثل الدعم الرسمي لظاهرة “الراي” بتبنيه من طرف العقيد السنوسي (من الجيش) والذي كلف بتنظيم اول مهرجان كبير لشباب “الراي” الصاعدين في الجزائر العاصمة سنة 1985 (مدعوما من وزارة الداخلية). كان على راس هؤلاء شاب يُدعى خالد حاج ابراهيم من مدينة وهران ليعلن من خلال تسميته الجديدة “الشاب خالد” بدء مرحلة “شباب الراي” التي تتجاوز مرحلة “الشيوخ”، وهو اللقب الذي كان يُعطى لأقطاب القصيد الريفي الملحون.
وجد الشباب الجزائري في هذه الاغاني تعبيرا عن اسلوب حياة جديد اكثر “تحررا” و”فردانية “و”تمردا” وتشجيعا على قيم الاستهلاك. فلم يعد هنا الشاب الجزائري ـ والمغاربي ـ يكتفي بسماع الاغنية والرقص على انغامها الخفيفة فحسب وإنما اضحت بالنسبة اليه ملاذا وتعبيرا عن رؤيته للحياة وسلوكا تحرريا يُميّزه. يُمكن ان نفهم هذه الظاهرة من خلال الاعتماد على ما كتبه بورديو مثلا عن “سوسيولوجيا الاعمال الفنية” وارتباطها بالظروف الاجتماعية او بجملة” الاستعدادات او القابليات” او مفهوم “الهابيتوس”.
في نفس الفترة بدأ الاسلام السياسي بالتجذر في الاحياء الشعبية للمدن الكبرى وتصاعد خطابه ضد “النظام” الذي شجعه في بداية انتهاجه لسياسية اللبرالية، على الانتشار ليضرب اجنحته الراديكالية الرافضة لنهج الانفتاح، ووجد الشباب الجزائري نفسه امام نموذج ورؤية جديدة للحياة اساسها نظرة سلفية متشددة وجذرية قادها شاب اخر يدعى علي بلحاج، تمرد هو الاخر على “شيوخ” المرجعية الدينية التقليدية للجزائر.
وجد هذا المد السلفي في اغاني “الراي” نقيضا لمشروعه “الدعوي” و”لنموذجه الاجتماعي” المنشود، فبدأت الاشرطة المُسجّلة لخطب علي بلحاج العنيفة (جنبا الى جنب مع اشرطة الشيخ كشك في مصر) تنافس اغاني”الشاب خالد” و”الشاب مامي”. كانت مظاهر الحجاب المنتشرة في الشارع تصطدم مع اغاني “الشابة الزهوانية” الداعية للتحرر ولكسر “القيم الاجتماعية المقيّدة للمرأة”.
في التسعينيات تجمّعت تلك القوى الاسلامية في جبهة موحدة ليصبح “الشاب علي بلحاج” الرجل الثاني فيها ونجما لأكبر “حزب اسلامي” في العالم الاسلامي. كان قاب قوسين او ادنى من استلام الحكم. مع وصول مشروع الشاذلي الى الطريق المسدودة. كان جوهر مشروعه هو اقتسام الحكم مع “جبهة الانقاذ”، ودخلت البلاد في حرب دموية شرسة.
في هذه الاثناء خرج الشاب خالد بموسيقاه لينشرها في شمال الضفة الاخرى من البحر المتوسط، ثم في باقي مناطق العالم. فيما ترك “خلفاؤه” في الجزائر ضحية للعنف الذي استهدفهم مثل الشاب حسني، والمنتجين رشيد وفتحي ومثقفين وصحفيين ومسرحيين آخرين تولت الجماعات المسلحة تصفيتهم. فكان على الشباب الجزائري ان يختار بين الشاب خالد و”رايه” او بين “الشاب علي بلحاج” و”سلفيته”، في تجسيد لمعالم مشروع الناهب الدولي ـ كما يُسمّيه روبير بشعلاني ـ و”ادواته الوظيفية” والقائم على ترسيخ ذات الخيارين المفروضين على الشباب العربي اليوم، وهما: سلفية وهابية متزمتة او توجهات” لبرالوية” خاضعة لمتطلبات” الهوية العولمية”، وكلاهما يصُبّان في نفس الاتجاه وفي خدمة مصالح هذا المشروع .
عبد الله بن عمارة، الجزائر
مركز الحقول للدراسات والنشر
10 جوان/ يونيو/ حزيران 2016