تكاد بريطانيا أن تصبح الثقب الأسود الجيوسياسي الذي يبتلع الإتحاد الأوروبي. توقعات المحللين التي تطرح مثل هذا التقدير واقعية، لأن المملكة المتحدة هي دولة مركزية في النظام الأوروبي، وفي النظام الأنكلو ساكسوني. عجزت اليونان، وكذلك إسبانيا، والبرتغال، عن جر الإتحاد الأوروبي إلى دوامة التفكك بسسب موقعها الطرفي في هذا النظام، الذي يمثل قلب أو بؤرة النظام الرأسمالي ـ العالم.
خرجت بريطانيا من أوروبا الموحدة. Brexit هو حدث جيوسياسي تاريخي. هو عنوان الفشل الجيو اقتصادي والجيواستراتيجي في تجربة الوحدة الأوروبية المعاصرة. لا زال الأوروبيون تحت وطأة الصدمة. تتعجل بيروقراطية بروكسل، التي تتسلط على قراراتها فرنسا وألمانيا، قطع الأواصر مع المتمردين البريطانيين، من دون أن تلتفت، ولن تلتفت، إلى عوامل الوهن الرأسمالي الدولتي الذي كشفته موجة Brexit.
تراكمت خلف انفصال بريطانيا الجيوسياسي عن البر الأوروبي الغربي، كل أزمات النظام الدولي الأحادي القطب الذي ينهار الآن. الخطاب السياسي الشعبوي لـ”حزب الإستقلال” في المملكة المتحدة، ركز على قضايا البطالة والهجرة والتنمية، لتبرير دعوته للخروج من أوروبا. يعبر هذا الخطاب، وجاذبيته الشعبية بين الإنكليز، عن انقسام الرأسمالية الإنكليزية حول مفهوم الدولة القومية. لم يكن مفهوم أوروبا الموحدة، كقطب دولي يحقق المصالح القومية للمملكة، بديلاً منه.
التنافس الإقتصادي، البنيوي، بين الرأسماليات الأوروبية الكبرى، اتخذ أشكالاً عدائية أو تآمرية لكسب مصالح اقتصادية وجيوثقافية في يوغوسلافيا واليونان وفي إسبانيا والبرتغال، كما في دول البلقان ووسط أوروبا. انضمام أو ضم هذه الدول إلى قطار الوحدة الأوروبية وسع المجال الجيواقتصادي لكل من فرنسا وألمانيا. اما بريطانيا فإنها بقيت مثل المتطفل على منطقة اليورو. أنصار الوحدة الأوروبية فيها، هم الأيرلنديين والسكوتلنديين، وبعض الإنكليز.
الأزمات المالية والنقدية التي عصفت بالإقتصاد الأوروبي في المرحلة الماضية، جعلت القزم السياسي الأوروبي قزماً اقتصادياً. عندما أرادت أوروبا بناء قوة عسكرية موحدة ـ هذه الأوهام بقيت تراود ساسة باريس وبرلين، حتى مطلع الألفية الجديدة ـ ردعتها واشنطن. وعندما رغبت الرأسمالية الأوروبية بأن توسع تبادلاتها التجارية والمالية مع الصين، عن طريق طلب قروض مالية من بكين، لكي تحل تلك الأزمات، ردعتها واشنطن.
فشل الإتحاد الأوروبي، طيلة ربع قرن، في إثبات استقلاليته الجيوسياسة عن الولايات المتحدة. أزمة أوكرانيا ليست البرهان الأخير على عجز بروكسل عن حماية المصالح الجيواستراتيجية الأوروبية عبر حلف شمال الأطلسي. كل المحاولات التي بذلها الأوروبيون لصوغ مفهوم جيواستراتيجي أوروبي مستقل، عن سلطان أميركا، خلفت أزمات مزمنة، من يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق إلى ليبيا وسوريا، وأوكرانيا، ناهيك عن فلسطين المحتلة.
أزمة الهجرة الجنوبية إلى الشمال الأوروبي تفاقمت وشتتت القرار الأوروبي. يعدو نزاع بروكسل مع تركيا عن كونه قابلاً للحل بإغلاق بوابة الهجرة التركية، وفتح “فضاء شينغن” أمام الرأسمالية التركية. المسألة الرئيسية هي أن هذا النزاع هو ذو طابع قومي ـ إقليمي متفاقم، ناجم عن اضطراب مكانة أميركا الدولية. لأن كلا القوتين المتنازعيتين ـ ما انفكتا ـ تابعتين للولايات المتحدة. لا نقبل، هنا، خلط أزمة المهاجرين صوب أوروبا، بأزمة “الإرهاب الإسلامي” الذي ينكأ، وسيواصل نكأ، بنية الأمن الأوروبي.
تريد الرأسمالية الإنكليزية التحرر من الشروط الأوروبية الجيوسياسية وإعادة ترتيب موقعها في النظام الرأسمالي الدولي. لن تستقل ولن تخرج عن إرادة إمبريالية الولايات المتحدة، طبعاً، بل ستكون أكثر اهتماماً بالحلف الأنكلوساكوني الذي يلمها مع كندا وأوستراليا ونيوزيلندة، تحت قبة الهيمنة الأميركية. لكن النظام الراسمالي ـ العالم يتغير. تدفق التيار الأوراسي بنهضة روسيا وصعود الصين، طرح “فرصاً” إقليمية ودولية عجز الإتحاد الأوروبي عن التقاطها.
يلف السرور الرأي العام العربي من فشل أوروبا. بعض النخب العربية متفائلة من ان وهن الإتحاد الأوروبي او تفككه، سوف يضعف التيار النيوليبرالي ـ الصهيوني الذي سيطر على السلطة في الدول الأوروبية. هذه تخمينات واقعية قابلة للنقاش،. وربما نعثر على أساسها في بهتان القوة الأميركية في العالم. وأن نجد أساسها في القيود الجيوعسكرية التي تكبل قوة “إسرائيل” بفعل صمود ونمو محور المقاومة والإستقلال في أوراسيا.
تبدو Brexit أكثر من استفتاء أخرج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. Brexit حدث تاريخي يؤكد أن المصير الجيوسياسي العربي ما زال بين أيدي المقاومين العرب للتسلط الإمبريالي ـ الصهيوني. ليس مهماً أن نفرح أو نحزن، المهم أن نعمل ليصير هذا الفشل الأوروبي “فرصة” بل “فرصاً” لتوطيد الديناميات الدولتية والإجتماعية لمحور المقاومة والإستقلال في الوطن العربي … الكبير.
هيئة تحرير موقع الحقول
الأحد، 21 رمضان، 1437، الموافق 26 حزيران، 2016