استمر الحصار العربي هذا العام للأعمال الدرامية السورية، كجزء من الموقف السياسي ضد سوريا. أدت مقاطعة العديد من الفضائيات، لا سيما الخليجية منها، لأعمال المواسم الرمضانية المنصرمة، إلى كساد نصف الإنتاج. لكن الدراما تشبثت، رغم كل ذلك، بالحياة من خلال إنتاج أعمال هادفة، تتناول الأزمة السورية وتداعيات الحرب، في محاولة للحفاظ على مكانتها في وجدان المُشاهد السوري أولا والمشاهد العربي ثانيًا.
من أعمال هذه السنة مسلسل «الندم» إخراج الليث حجو، للكاتب حسن س. يوسف الذي لزم الصمت دراميًا منذ اندلاع الحرب معتبرًا انه من المبكر الخوض في ما يجري، ليقدم هذا الموسم عملاً حقيقيًا وجريئا. في «الندم» العنوان واضح وصريح، استطاع من خلاله الكاتب أن ينقل ما في نفسه الى وجدان الناس كما يفعل الشعراء تمامًا، فيتماهى المشاهد مع الشخصيات في حياتهم اليومية على إيقاع أصوات القصف والتفجيرات والطائرات. هذه الحياة التي ندخلها من أبواب العائلة والحب وعالم التجارة والأعمال والأمن.
نعيش فصول الحكاية من خلال رواية يكتبها الابن الأصغر لعائلة صناعيّ سوريّ وطني بنى نفسه من الصفر ووظّف أمواله داخل بلده. وما المَشاهد التي تأخذنا الى داخل مصنع اللحوم الحديث بتقنياته الجديدة وبمستوى النظافة التي نلمسها من خلال ملابس العاملين إلا محاولة لتبيان مكانة الصناعة في الاقتصاد السوري بوصفها أحد أهداف الحرب الدائرة منذ العام 2011، التي تسبّبت بخسارة العديد من المصانع المُنتجة للغذاء والدواء والملابس.
يلجأ الابن الأكبر للعائلة الى بيع المصنع ليدخل في عالم التعهدات والمقاولات، ما فتح الباب لذوي الشهية من أصحاب الأموال والمستأثرين باقتصاد البلد من خلال علاقات تضمن مصالحهم مع أصحاب السلطة. عكس «الندم» عالم النفعية الفاسد الذي أطلق العنان لفئة رجال الاعمال، للتحكم بمفاصل الدولة.
يتجرأ «الندم» على تعرية تداعيات الحرب على سُلّم القيم. نجد أنفسنا أمام شخصيات تمتهن النصب والخطف لقاء فدية وبيع وقود «النظام» الى المسلحين الذين يحاصرون المدن السورية، في محاولة لفضح السلوك الانتهازي للأفراد والجماعات. ومن جهة أخرى، يشير الى أهمية تشريع القوانين لتدارك الانسياق وراء هذه الظواهر أي قانون عقوبة الإعدام لكل خاطف، في محاولة لتثبيت دور الدولة التشريعي والتنفيذي.
في شوارع مدينة دمشق التي يعرفها معظم العرب، انفجارٌ هنا وصاروخ هناك، يحصد الأرواح البريئة. في ساحة المرجة التي لا تبعد كثيراً عن موقع التفجير، تجوب سيارات حديثة الصنع مزدانة بالبالونات على وقع الزمامير والزغاريد، في مشهدية تعكس التناقض في المجتمع السوري المنقسم إلى عالمين.
كان لأجهزة الأمن السورية حصتها في «الندم». فهي تعتقل من دون تهمة واضحة وتخفي السجين عن أهله فيدفعون الرشى الطائلة لمعرفة مصيره. أما التهمة فجاهزة: إنه جاسوس. لا هو سجين معترف به ولا يمثل أمام محكمة، في إشارة واضحة الى التجاوزات بحجّة الأمن الوطني. فهل من يتعلم أن «حبّ سوريا والإعجاب بها كما هي» كما يدعي الابن الأكبر للعائلة، لا يكفي لتقدمها وتجاوز محنة حرب الإرهاب.
الجديد الذي قدمه لنا «الندم» بدون كلام، هو دخول «حزب الله» على خطّ الحرب. الصورة تتحدث عن نفسها، يمشي الراوي في الشوارع وفيها تجوب سيارات عسكرية كُتب عليها «حزب الله» ورفعت أعلامه على موسيقى الأناشيد الحماسية. العنصر الآخر هو تدخل روسيا وتساؤل المواطن السوري (البائع)، عما إذا كانت روسيا ستنهي الحرب. هذا الطرح الدرامي المباشر يعبّر عن ارتباط الدراما بالسياسة، فلا تكتفي بالتلميح والصورة، بل تتعداها الى تسمية الأمور بأسمائها.
نجد في «الندم» تداعيات الحرب كلها. من انقطاع للكهرباء، والعودة الى «الترانزستور»، وأصوات القصف، وتسول الأطفال، وتشرد العائلات، الى الاحتيال وسرقة الأدوية وبيعها في الطرق، الى التداول بأسماء الأسلحة والصواريخ وكيفية سقوطها، الى الاعتقال التعسفي وخوف الناس من المجهول، الى الغلاء وفقدان البضائع في الأسواق، الى ملازمة المنازل واللجوء الى «الفايسبوك» كفضاء للتواصل الاجتماعي وللتعبير عن الرأي، الى النفايات في نهر بردى
في شريطٍ يثير الحزن والدهشة، يعبر النصّ الدرامي إلى هجرة الأزواج الجدد، وانتشار التدخين في صفوف الفتيات، إلى سكن الطالبات، وممارسة الدعارة. نلمح في صورة عائلة «أبو عبدو الغول» (سلوم حداد) واقع سوريا اليوم، فالرجل الذي دخل بالصدفة عالم تجارة اللحوم والمواشي ينتقل الى التصنيع مع سوريا الحديثة. يريد الصناعي توريث أولاده، «جيل يسلم جيلا بالمعروف والعمل بنور رب العالمين». لكنّ الابن الثاني يتمرّد فيهاجر، وفي ذلك تماهٍ مع تخلي المعارضة السورية عن الإجماع الوطني لتصبح معارضة الخارج، حيث يقول أبو عبدو «هو لا يريدني، أنا لا أريده»، فيرسل لولده جواز سفره، كمن يسهّل له سلوك التخلي عنه، أي عن البلد.
غاص «الندم» في المحنة السورية داخلا الى عمق النفس الإنسانية خلال علاقات الحب والزواج والعلاقات العائلية (أبو عبدو الأب الذي يناديه ابنه بسيد القوم)، ليكشف لنا عمق الأزمة السياسية وحجم الأخطاء التي ستقود حتمًا الى فعل ندامة، أراده الكاتب فعلا مطلوبًا من المواطن السوري.
في «الندم» تغدو الحرب حدًّا فاصلاً بين القديم والجديد، ومنها المفاهيم: الحرب العبثية، الأخلاق النسبية، الوفاء والإخلاص واجب، الاختلاف هو الحقيقة المؤكدة في الحياة، الحرب كالمرض، الشرع والقانون (تقديم الشرع على القانون مسايرة للدين)، الموت نشيد الغفران، الحرب امتحان إنساني.
فرحٌ عارمٌ بمطر دمشق يعرضه «الندم» في مشهدية رائعة تعبّر عن تطهّر المجتمع السوري من أخطائه، فالندم هو لوم الذات وتطهرها مما اقترفت، هو عتاب للنفس تصدح به كلمات أغنية الشارة: «قلبي علينا، افترقنا حين التقينا، قلبي علينا واذ توقفنا مشينا. كلٌ على درب، كلٌ بلا قلب، كأننا ما تعارفنا وكأننا ما هوينا».
مسلسل «الندم» دليل على كفاءة الدراما السورية في قراءة الواقع، بعد مضي خمس سنوات من الحرب.نجوى زيدان، كاتية وصحفية عربية من لبنان/ رئيسة تحرير موقع الحقول
السفير، 9 تموز /يوليو 2016
https://assafir.com/Article/212/501856/AuthorArticle
من أعمال هذه السنة مسلسل «الندم» إخراج الليث حجو، للكاتب حسن س. يوسف الذي لزم الصمت دراميًا منذ اندلاع الحرب معتبرًا انه من المبكر الخوض في ما يجري، ليقدم هذا الموسم عملاً حقيقيًا وجريئا. في «الندم» العنوان واضح وصريح، استطاع من خلاله الكاتب أن ينقل ما في نفسه الى وجدان الناس كما يفعل الشعراء تمامًا، فيتماهى المشاهد مع الشخصيات في حياتهم اليومية على إيقاع أصوات القصف والتفجيرات والطائرات. هذه الحياة التي ندخلها من أبواب العائلة والحب وعالم التجارة والأعمال والأمن.
نعيش فصول الحكاية من خلال رواية يكتبها الابن الأصغر لعائلة صناعيّ سوريّ وطني بنى نفسه من الصفر ووظّف أمواله داخل بلده. وما المَشاهد التي تأخذنا الى داخل مصنع اللحوم الحديث بتقنياته الجديدة وبمستوى النظافة التي نلمسها من خلال ملابس العاملين إلا محاولة لتبيان مكانة الصناعة في الاقتصاد السوري بوصفها أحد أهداف الحرب الدائرة منذ العام 2011، التي تسبّبت بخسارة العديد من المصانع المُنتجة للغذاء والدواء والملابس.
يلجأ الابن الأكبر للعائلة الى بيع المصنع ليدخل في عالم التعهدات والمقاولات، ما فتح الباب لذوي الشهية من أصحاب الأموال والمستأثرين باقتصاد البلد من خلال علاقات تضمن مصالحهم مع أصحاب السلطة. عكس «الندم» عالم النفعية الفاسد الذي أطلق العنان لفئة رجال الاعمال، للتحكم بمفاصل الدولة.
يتجرأ «الندم» على تعرية تداعيات الحرب على سُلّم القيم. نجد أنفسنا أمام شخصيات تمتهن النصب والخطف لقاء فدية وبيع وقود «النظام» الى المسلحين الذين يحاصرون المدن السورية، في محاولة لفضح السلوك الانتهازي للأفراد والجماعات. ومن جهة أخرى، يشير الى أهمية تشريع القوانين لتدارك الانسياق وراء هذه الظواهر أي قانون عقوبة الإعدام لكل خاطف، في محاولة لتثبيت دور الدولة التشريعي والتنفيذي.
في شوارع مدينة دمشق التي يعرفها معظم العرب، انفجارٌ هنا وصاروخ هناك، يحصد الأرواح البريئة. في ساحة المرجة التي لا تبعد كثيراً عن موقع التفجير، تجوب سيارات حديثة الصنع مزدانة بالبالونات على وقع الزمامير والزغاريد، في مشهدية تعكس التناقض في المجتمع السوري المنقسم إلى عالمين.
كان لأجهزة الأمن السورية حصتها في «الندم». فهي تعتقل من دون تهمة واضحة وتخفي السجين عن أهله فيدفعون الرشى الطائلة لمعرفة مصيره. أما التهمة فجاهزة: إنه جاسوس. لا هو سجين معترف به ولا يمثل أمام محكمة، في إشارة واضحة الى التجاوزات بحجّة الأمن الوطني. فهل من يتعلم أن «حبّ سوريا والإعجاب بها كما هي» كما يدعي الابن الأكبر للعائلة، لا يكفي لتقدمها وتجاوز محنة حرب الإرهاب.
الجديد الذي قدمه لنا «الندم» بدون كلام، هو دخول «حزب الله» على خطّ الحرب. الصورة تتحدث عن نفسها، يمشي الراوي في الشوارع وفيها تجوب سيارات عسكرية كُتب عليها «حزب الله» ورفعت أعلامه على موسيقى الأناشيد الحماسية. العنصر الآخر هو تدخل روسيا وتساؤل المواطن السوري (البائع)، عما إذا كانت روسيا ستنهي الحرب. هذا الطرح الدرامي المباشر يعبّر عن ارتباط الدراما بالسياسة، فلا تكتفي بالتلميح والصورة، بل تتعداها الى تسمية الأمور بأسمائها.
نجد في «الندم» تداعيات الحرب كلها. من انقطاع للكهرباء، والعودة الى «الترانزستور»، وأصوات القصف، وتسول الأطفال، وتشرد العائلات، الى الاحتيال وسرقة الأدوية وبيعها في الطرق، الى التداول بأسماء الأسلحة والصواريخ وكيفية سقوطها، الى الاعتقال التعسفي وخوف الناس من المجهول، الى الغلاء وفقدان البضائع في الأسواق، الى ملازمة المنازل واللجوء الى «الفايسبوك» كفضاء للتواصل الاجتماعي وللتعبير عن الرأي، الى النفايات في نهر بردى
في شريطٍ يثير الحزن والدهشة، يعبر النصّ الدرامي إلى هجرة الأزواج الجدد، وانتشار التدخين في صفوف الفتيات، إلى سكن الطالبات، وممارسة الدعارة. نلمح في صورة عائلة «أبو عبدو الغول» (سلوم حداد) واقع سوريا اليوم، فالرجل الذي دخل بالصدفة عالم تجارة اللحوم والمواشي ينتقل الى التصنيع مع سوريا الحديثة. يريد الصناعي توريث أولاده، «جيل يسلم جيلا بالمعروف والعمل بنور رب العالمين». لكنّ الابن الثاني يتمرّد فيهاجر، وفي ذلك تماهٍ مع تخلي المعارضة السورية عن الإجماع الوطني لتصبح معارضة الخارج، حيث يقول أبو عبدو «هو لا يريدني، أنا لا أريده»، فيرسل لولده جواز سفره، كمن يسهّل له سلوك التخلي عنه، أي عن البلد.
غاص «الندم» في المحنة السورية داخلا الى عمق النفس الإنسانية خلال علاقات الحب والزواج والعلاقات العائلية (أبو عبدو الأب الذي يناديه ابنه بسيد القوم)، ليكشف لنا عمق الأزمة السياسية وحجم الأخطاء التي ستقود حتمًا الى فعل ندامة، أراده الكاتب فعلا مطلوبًا من المواطن السوري.
في «الندم» تغدو الحرب حدًّا فاصلاً بين القديم والجديد، ومنها المفاهيم: الحرب العبثية، الأخلاق النسبية، الوفاء والإخلاص واجب، الاختلاف هو الحقيقة المؤكدة في الحياة، الحرب كالمرض، الشرع والقانون (تقديم الشرع على القانون مسايرة للدين)، الموت نشيد الغفران، الحرب امتحان إنساني.
فرحٌ عارمٌ بمطر دمشق يعرضه «الندم» في مشهدية رائعة تعبّر عن تطهّر المجتمع السوري من أخطائه، فالندم هو لوم الذات وتطهرها مما اقترفت، هو عتاب للنفس تصدح به كلمات أغنية الشارة: «قلبي علينا، افترقنا حين التقينا، قلبي علينا واذ توقفنا مشينا. كلٌ على درب، كلٌ بلا قلب، كأننا ما تعارفنا وكأننا ما هوينا».
مسلسل «الندم» دليل على كفاءة الدراما السورية في قراءة الواقع، بعد مضي خمس سنوات من الحرب.نجوى زيدان، كاتية وصحفية عربية من لبنان/ رئيسة تحرير موقع الحقول
السفير، 9 تموز /يوليو 2016
https://assafir.com/Article/212/501856/AuthorArticle