السؤال بتوقيته يناقض الأحوال بالغة التردى التى بات عليها العالم العربى حتى يكاد يحذف المصطلح نفسه من القاموس الدولى.
والسؤال بسياقه تعبير عن المسكوت عنه فى العلاقات المصرية السعودية من تباينات فادحة وتوترات مكتومة.
رغم عبارات المودة والدفء بين قيادات البلدين عن التفاهمات العميقة التى تجمعهما، فإن السؤال يطل على كل الملفات المشتعلة بالنيران فى الإقليم باستحياء أحيانا وبسفور فى أحيان أخرى.
لا يمكن الادعاء أن العلاقات التى توصف بالاستراتيجية على ما يرام.
كما لا يمكن إخفاء الضيق المتبادل فى كثير من الأزمات.
هذه حقيقة يصعب نفيها بالكلام الدبلوماسى المعتاد.
النفى المتكرر ينطوى على رغبة مشتركة فى تجنب أية تصدعات خطيرة ببنية علاقات يحتاجها الطرفان بعمق.
هذه حقيقة أخرى يصعب دحضها.
غير أن النفى وحده لا يصلح وتجاهل الحقائق لا يفيد.
هناك اعتقاد سعودى شبه جازم أنها مؤهلة لقيادة العالم العربى وأن مصر فى أوضاعها الاقتصادية الصعبة والداخلية المرتبكة ليس بوسعها أن تستعيد أدوارها القيادية فى الخمسينيات والستينيات.
المشكلة ـ كما يراها أكاديميون وصحفيون سعوديون مطلعون على كواليس الحكم ـ أن نظراءهم المصريين لا يريدون أن يسلموا بهذه الحقيقة ويستنكفوا الاعتراف بأن قيادة العالم العربى آلت إلى السعودية بلا منازع.
بعض ما ينشر تعبير صريح عما هو مكتوم.
وهذا يستحق الحوار الجدى لا دفن الرءوس فى الرمال.
لا يمكن لأى من البلدين الشقيقين أن يلعب دورا استراتيجيا مستقبليا فى معادلات الإقليم دون الاستناد إلى الآخر.
بعض الشطط يؤذى طبيعة النظر للعلاقات.
لا مصر دولة صغيرة ولا السعودية يمكن الاستغناء عنها.
ما نحتاجه بالضبط المصارحة باحترام.
بعض التصرفات الدبلوماسية السعودية، أفلتت عن طبيعتها المحافظة إلى الضيق المعلن فى دوائر الجامعة العربية، بأى رأى يجتهد خارج ما ترى من مواقف وتتبع من سياسات.
الظاهرة اللافتة أثارت تساؤلات عن مدى كفاءة قيادتها المفترضة للعالم العربى، بحسب دبلوماسيين عرب بارزين.
القيادة لا تعنى الفرض والإذعان بقدر ما تعنى القدرة على بناء التوافقات العامة فى الملفات الملغمة، فلكل دولة تقديراتها السياسية التى تتسق مع مصالحها.
بأية حسابات التطلع السعودى للقيادة لا ينبع من فراغ أو يتبع أوهاما.
فهى لاعب رئيسى فى الإقليم متداخل ومشتبك بكل الأزمات من اليمن عند خاصرتها الجنوبية إلى سوريا وبراكين النيران فيها إلى العراق بصراعاته وحروبه بدرجة أقل نسبيا إلى حضورها المؤثر فى المعادلات اللبنانية الداخلية.
بتلخيص آخر إنها الطرف العربى الأكثر تأثيرا فى ملفات الإقليم باستثناء الأزمة الليبية.
على نحو صريح تطرح نفسها كطرف رئيسى فى معادلات الإقليم يقابل الدور الإيرانى المتصاعد.
هذه كلها حقائق تضفى شيئا من الأحقية على طلب القيادة.
غير أن طلبها يعترضه خشية انزلاق أكبر وأفدح إلى حروب مذهبية والفرز على أساس طائفى.
الخشية بذاتها تسحب من مفهوم القيادة قدرته على بناء شبه إجماع عربى.
على العكس تتمتع القاهرة بسمعة تاريخية تنفى عنها أية تهمة مذهبية.
أخطر مأزق محتمل أن تجد السعودية نفسها على خلفية أية تسوية متوقعة للأزمة السورية مدعوة للتقارب مع إيران.
التقارب بذاته شبه محتم لتسوية الأزمات الأخرى وعلى رأسها الأزمة اليمنية التى تهم السعودية أكثر من أى ملف إقليمى آخر.
التحدى هنا أن جوهر اللعبة سوف يختلف بعد أية ترتيبات جديدة.
فما الذى يمكن أن تتبناه لقيادة العالم العربى فى أوضاع جديدة أكثر تماسكا نسبيا؟
الإجابة تستدعى أن تكون هناك رؤية استراتيجية ومشروع يتجاوز الاعتبارات المذهبية.
القيادة مشروع ورؤية وقدرة على إلهام المواطنين العرب العاديين.
مثقفون وأكاديميون سعوديون يعترفون بشجاعة أن الأوضاع الداخلية تعرقل أى تطلع لقيادة العالم العربى.
فلا دولة حديثة فى بنيتها السياسية والاجتماعية، فضلا عن سيادة الأفكار الوهابية التى توصف بأنها أحد المصادر الرئيسية لتيارات العنف والإرهاب.
المثير فى أى اقتراب سعودى إيرانى محتمل، أن مصر تكاد أن تكون مستبعدة فى أى تصور مشترك لتسوية أزمات الإقليم، رغم أن طهران لا تكف عن طرق أبوابها.
هذه نقطة ملغمة فى المسكوت عنه بالعلاقات المصرية السعودية.
بوضوح أكثر هناك حالة تكبيل للسياسة الخارجية المصرية فى قدرتها على المبادرة تجاه اللاعبين الإقليميين الآخرين.
الملف السورى بذاته منطقة ألغام كاملة.
تقريبا نقاط الخلاف أوسع من نقاط الاتفاق.
الرياض أقرب إلى أنقرة فيما مصر أقرب إلى موسكو.
فى الاقتراب السعودى التركى نظرة جديدة للعلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين.
وهذه نقطة إضافية فى ملف المسكوت عنه.
«عقدة الأسد» صلب التباينات الحادة.
لم يكن هناك اعتراض ولا حماس من الرياض للحضور المصرى بطلب روسى فى مفاوضات فيينا بشأن تسوية الأزمة السورية.
بحسب سعوديين، فإن لديهم إحباطا من بعض الإشارات المصرية فى التعاطى مع نظام «شبار الأسد» حيث استضافت القاهرة وزيرا من حكومته لأول مرة منذ نحو خمس سنوات.
ليس هناك مبرر واحد لمثل هذا الإحباط، فالسعودية نفسها استقبلت رجل الاستخبارات القوى «على مملوك» فى أراضيها قادما على طائرة روسية.
فى غياب أية درجة حقيقية من التفاهمات ربما تكون القاهرة استشعرت ضيقا من إقصائها فى الترتيبات الأخيرة للمعارضة السورية قبل الدخول فى المفاوضات مع النظام.
نفس الإقصاء تعرض له الدور المصرى فى إدارة الحوارات اليمنية مع فصائلها المختلفة قبل الذهاب إلى جنيف، لتسوية أزمتها وفق المرجعية الدولية.
الإقصاء فى الحالتين تعبير عن أزمة مكتومة لا علاقات استراتيجية.
إذا أردنا أن نتصارح بالحقائق كاملة، فإن هناك ضيقا سعوديا صامتا من إحجام القاهرة عن التدخل البرى فى اليمن لحسم الصراع بالقوة مع الحوثيين وقوات «على عبد الله صالح».
لم تكن القاهرة مستعدة للتورط من جديد فى المستنقع اليمنى.
فى التدخل العسكرى انفردت السعودية بقراره باسم «التحالف العربى».
لأول مرة منذ تأسيسها تستخدم ما تراكم لديها من سلاح خارج أراضيها.
وكانت تلك لحظة حاسمة طلبت بعدها إعلانها قائدا رسميا للنظام العربى الذى تهالك تماما استنادا إلى حضور عسكرى وقوة مالية لا تمتلكها أى دولة عربية أخرى.
ورغم أن أغلب الجنود العرب الذين يحاربون فى اليمن إماراتيون وسودانيون إلا أن فورة القوة استبدت بصانع القرار السعودى رغم أنه يدرك منذ البداية أن أقصى ما هو ممكن تعديل الموازين العسكرية على الأرض قبل الذهاب إلى موائد التفاوض من جديد.
من حق السعودية أن تتطلع للقيادة، فهذا حق مشروع لكل من يتصور أنه يمتلك مقوماتها.
غير أن التجربة أثبتت على مر العقود التى تلت الخروج المصرى من معادلات المنطقة بعد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، أن أحدا فى العالم العربى ليس بوسعه ملء الفراغ الذى خلفته.
COMMENTS