ينقشع ضباب الركود السياسي في دول غرب البحر الأسود. خلال الإنتخابات الرئاسية التي جرت في بلغاريا ومولدافيا، منذ أيام، صوّت جمهور الناخبين لصالح رومن راديف وإيغور دودون. كلا الرئيسين الفائزين يعارضان علاقات التبعية الإقتصادية والسياسية التي فرضها "المركز الأوروبي" في بروكسل على بلديهما "الطَّرَفِيين", أنصار بروكسل هزموا.
أما رومانيا فإنها احتفلت بذكرى انضمامها إلى الإتحاد الأوروبي قبل 10 سنوات. رغم الإعتراف الخجول بأنها لم تتمكن من "تقليص الفوارق التي تفصلها عن الأعضاء القدامى في الاتحاد الاوروبي". كما أن "رومانيا تحتل مرتبة متخلفة عن باقي بلدان الاتحاد"، من ناحية بلوغ "أبرز منافع عملية الانضمام" إليه.
لقد وعد زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي ليفيو دراغنا، الذي فاز بأكبر عدد من مقاعد البرلمان الجديد (11 كانون الأول 2016) مواطنيه، ببرنامج حكومي، لزيادة رواتب موظفي الحكومة، ورفع الحد الأدنى للأجور، ومنح تسهيلات أو إعفاءات ضريبية للمتقاعدين، وتقديم مخصصات إضافية، ونفقات مجانية للطلاب.
يعبر الإنحياز الإجتماعي في خطاب دراغنا، عن الحاجة الماسة لوقف التدهور الإجتماعي في رومانيا، الذي نتج عن تكييف اقتصادها لصالح قوى العولمة الأورو ـ أميركية. لكن المأزق الروماني، ينجم، كما يبدو، عن الإبقاء على التوجه العولمي ذاته،، والمضي فيه، رغم ما أحدث من أهوال اجتماعية ـ سياسية في رومانيا وجوارها، بدءاً من اليونان وبلغاريا ومولدافيا، حتى أوكرانيا.
لم يتضمن الخطاب الإشتراكي ـ الديموقراطي أي انتقاد لنظام "اقتصاد السوق" الرأسمالي الهجين، الذي أنشئ على أنقاض نظام "الحكم الإشتراكي"، الذي قاده الرئيس الروماني السابق نيكولاي تشاوشسكو حتى مقتله عام 1989. مع أن الإحصاءات الرسمية والتقارير الدولية، تبين مسؤولية النظام الجديد، عن تحويل رومانيا إلى جيب فقر، يتوسط حزام البؤس، الذي زرعت أسسه قوى العولمة الأورو ـ أميركية، في دول غرب البحر الأسود.
لقد ارتفع متوسط صافى الرواتب فى رومانيا إلى 419 يورو فى كانون الأول / ديسمبر عام 2014. ورصدت بيانات المعهد الوطنى للإحصاء، أعلى متوسط لصافى الأجور الشهرية فى قطاع استخراج النفط الخام والغاز الطبيعى، حيث بلغ 1303 يورو. بينما سجل أقل دخل فى قطاع الفنادق والمطاعم وبلغ 238 يورو
بعد 5 أشهر أعدت جامعة هوهنهايم في ألمانيا، دراسة عن متوسط الراتب لـ 100 مهنة. وقد تبين أن أعلى الرواتب في البلاد، يجنيها موظفو قطاع المال والشركات (المستشار المالي 8333 يورو، المحامي 7500 يورو، ألخ). أما أدناها فيحصل عليه موظفو قطاع المطاعم وبيع الأغذية (النادل 2300 يورو، الخباز 2100 ألخ) والنقل (السائق 1803 يورو).
تحتل رومانيا المرتبة الثانية ضمن لائحة أفقر بلدان الاتحاد الأوروبي. بينما تمثل ألمانيا قاطرة الإقتصاد الأوروبي. وكما لاحظنا تساوي أعلى الرواتب في ألمانيا 6,3 ضعفاً مثيلاتها في رومانيا. كما تساوي أدنى الرواتب في ألمانيا 7,57 ضعفاً مثيلاتها في رومانيا. تصور هذه المقارنة هول الفجوة الإجتماعية الهائلة التي تفصل "مواطني" دول "المركز" عن "مواطني" دول "الأطراف" في الإتحاد الأوروبي.
تؤدي الفجوة الإجتماعية إلى تدهور مستوى المعيشة لدى الرومانيين، وهي المحرك الرئيسي لهجرتهم نحو دول أوروبية أخرى. ووفق إحصاءات منظمة الأمم المتحدة لشؤون الطفولة، فإن الفقر وسوء تحسين الأغذية، قد تسببا بانتشار سوء التغذية بين الرومانيين. وتضيف : أن مشكلة فقر الدم تؤثر على قرابة نصف عدد سكان رومانيا.
اكتسب مواطنو رومانيا وبلغاريا حق حرية التنقل والعمل في الاتحاد الأوروبي ابتداء من عام 2014. وتبين دراسة هيئة البلديات الألمانية في عام 2013، أن "مهاجري الفقر" ـ حسبما تصفهم ـ من رومانيا وبلغاريا الدولتين العضوين في الاتحاد الأوروبي، قد ارتفع خلال السنوات الخمس الأخيرة، من 64 ألف مهاجر إلى 147 ألفا
طالب البروفيسور هريبيرت بروكير من معهد البحوث حول سوق العمل في نورنبيرغ، مواطنيه الألمان "عدم الفزع" من "مهاجري الفقر". لأن "تجارب إسبانيا وإيطاليا"، بينت أن "البلغار والرومانيين اندمجوا بشكل رائع في سوق العمل، في قطاعات الصحة والفندقة والبناء. ولم تتأثر أنظمة الرعاية الاجتماعية بذلك"، لأنها لا تشملهم.
تصف تقارير الأمم المتحدة نسبة وفيات الأمهات الرومانيات أثناء النفاس (49 مولود حي لكل 100.000 مولود حي) بأنها مرتفعة. ويتسبب الإجهاض بنسبة كبيرة من تلك الوفيات. وتربط ذلك بمعدل الإجهاض في رومانيا، الذي يزيد خمسة أضعاف عن مثيله في دول أوروبا الغربية. كما تلفت إلى أن تخلي الأمهات عن أطفالهن يعد مشكلة حقيقة.
لقد انخفض عدد الرومانيين من 23,2 مليون في نهاية عهد تشاوشسكو (عام 1990)، إلى 19,83 مليوناً، بعد ربع قرن على قتل تشاوشسكو (عام 2015). لكن الهجرة وتدهور أحوال النساء وصحتهن، ليس سبباً وحيداً لهذه الكارثة الديموغرافية التي ضربت رومانيا. فالفشل القومي في ضمان التوازن الديموغرافي، يبقى أضخم "حصاد" الرومانيين من العولمة.
إن قدرة حزب دراغنا على تنفيذ برنامجه الإنتخابي تصطدم بالقيود الأوروبية على حقوق السيادة الوطنية لبلاده. فهذا البرنامج الذي يتطلب زيادة الإنفاق المالي العام، يخرج عن نصوص معاهدة ماستريخت، التي تحدد السياسات المالية والنقدية لدول الإتحاد الأوروبي. ولذلك يصبح السؤال عن واقعية "الوعود الوطنية" التي أعطاها هذا الحزب لناخبيه مشروعاً.
إن التصريحات التي أدلى بها الرؤساء المنتخبون في كل من صوفيا وكيشينيوف، تدل على أن أكثرية أطراف النظام الإقليمي في غرب البحر الأسود، تميل إلى التشكيك بسياسات التكامل الأوروبي. ما يعني تراجع العولمة الأورو ـ أميركية في النظام الدولي، وفي الإتحاد الأوروبي نفسه، وقد بلغ ذروته مع إعلان أكثرية الناخبين في بريطانيا عن رغبتهم بالخروج منه.
لقد لاحظ باحث ألماني في قضايا الديناميكا الإجتماعية في أوروبا، كيف أنه "في ثمانينيات القرن الماضي، لم يستطع نصف الذين يعيشون على حافة الفقر من تجاوز الفقر. أما اليوم فقد زادت هذه النسبة إلى 65 في المئة. وهذا يعني أنه من الصعب لمن يقع في الفقر، حتى في بلد مثل ألمانيا، أن يخرج منه". لذا، يصعب أن نتوقع خروج رومانيا من حالة الفقر المزمن التي تسيطر على حياة شعبها، من دون إعادة النظر بالسياسات التي تسببت بها، حتى وإن أدى ذلك إلى غضب بروكسل من بوخارست.
علي نصّار، مدير موقع الحقول
الإثنين، 09 كانون الثاني، 2017