اكتسبت منطقة القرن الإفريقي أهميةً كبرى عقب حرب أكتوبر 1973م؛ فقد كان لإغلاق باب المندب دورٌ جوهريٌ في التأثير على مجريات الحرب المصرية "الإسرائيلية"، وهو ما لفت الانتباه إلى أهمية ذلك المضيق والممر المائي في التأثير على واقع دول المنطقة، فضلًا عن اكتساب منطقة القرن الإفريقي أهميتها؛ من كونها تطلّ على البحر الأحمر وخليج عدن، وتتحكم في حركة التجارة العالمية، وخاصةً النفط القادم من منطقة الخليج إلى أوروبا؛ حيث يقدر عدد السفن وناقلات النفط العابرة في مضيق باب المندب بالاتجاهين بـ 21000 سفينة بحسب بعض التقديرات، وهو ما يصل إلى 30% من حمولات النفط في العالم.
وقد شهدت تلك المنطقة عبر التاريخ تنافسًا بين القوى الكبرى عبر العصور، بدايةً من التنافس بين القوى الاستعمارية؛ خاصةً بين بريطانيا وإيطاليا وفرنسا، ومرورًا بفترة الحرب الباردة التي قام الاتحاد السوفييتي خلالها بإنشاء قاعدة عسكرية في بربرة في الصومال، إلا أنه سرعان ما انتهى وجود تلك القاعدة عقب انهيار العلاقات بين الاتحاد السوفييتي والصومال نتيجةً لدعمه لإثيوبيا في حربها ضد الصومال، وأخيرًا تشهد المنطقة تنافسًا عالميًّا وإقليميًّا فقد أصبحت من أكثر مناطق العالم احتواءً للقواعد العسكرية (فرنسية، أمريكية، ألمانية، إيطالية، يابانية، صينية، تركية، وأخيرًا سعودية وإماراتية)؛ الأمر الذي قد يكون له تداعياتٌ خطيرةٌ على الأمن القومي المصري، وهو ما يعني أن هناك حاجةً ماسَّةً لسياسة داخلية وخارجية عقلانية ومتجاوبة يمكنها التعامل مع المتغيرات الحديثة لتلك القوات الموجودة في المنطقة، والاستفادة منها وتقليل مخاطرها إلى الحد الأدنى.
أولًا: التنافس الإيراني/ الخليجي في منطقة القرن الإفريقي
أدَّت التطورات المتلاحقة التي يشهدها العالم العربي منذ عام 2010م فيما عُرف بثورات الربيع العربي إلى صعود بعض القوى الدولية والإقليمية التي سعت لتعظيم حضورها القوي في المنطقة، وقد أسهمت الحرب في اليمن وتصاعد العمليات الحربية بين الحوثيين المدعومين من قِبَل إيران وبين قوات التحالف العربي في سعي كلّ قوة منهما للسيطرة على مسرح العمليات وترسيخ أقدامها في المنطقة الأكثر أهميةً في حركة التجارة الدولية، خاصةً تجارة النفط الخليجي إلى أوروبا، وهو ما دفَع إيران إلى التواجد في كل من جيبوتي وإريتريا من أجل الحصول على موطئ قدم لها على البحر الأحمر الذي يكاد يصبح بحرًا عربيًّا خالصًا، بينما عملت كلٌّ من الإمارات والسعودية على إنشاء قواعد عسكرية لهما والاستثمار في موانئ كل من الصومال وجيبوتي وإريتريا(1).
كما عملت كل منهما على تقديم المساعدات المالية للصومال من أجل قطع علاقاتها بإيران ، فقد تعهدت المملكة العربية السعودية بتقديم 50 مليون دولار مساعدةً للصومال فور قطع علاقاتها مع إيران ، وهو الأمر الذي أسفر عنه في النهاية قيام الصومال بإعلان دعمها لكلّ من الإمارات والسعودية في حربها ضد الإرهاب، وهو ما نتج عنه في النهاية فشل إيران في التواجد في المنطقة، خاصةً بعد إعلان كل من جيبوتي والسودان قطع علاقاتهم معها(2).
ومن ناحية أخرى فقد عملت تركيا بقوة على دعم علاقاتها بدول شرق إفريقيا، وذلك في إطار رؤية أنقرة الجديدة باعتبارها دولةً مركزيةً، وفاعلًا دوليًّا في منطقة الشرق الأوسط، وقد تمكَّنت تركيا بالفعل من خلال سياستها الخارجية في إفريقيا من إنشاء أول قاعدة عسكرية لها في الصومال عام 2016م، كما عقدت مع السودان اتفاقًا يقضي بإدارتها لجزيرة سواكن القريبة من الحدود المصرية، وهو ما يدل على تنامي الدور التركي في الإقليم(3).
1- القواعد العسكرية الإماراتية في القرن الإفريقي:
سعت دول الإمارات العربية المتحدة منذ نشأتها في أوائل السبعينيات من القرن الماضي إلى بذل جهود كبيرة لتطوير استثماراتها، ونتيجة استخدامها لسياسات السوق المفتوح، حققت وفورات اقتصادية كبيرة، وفائضًا تجاريًّا كبيرًا، وهو ما أدَّى إلى زيادة قوة الاقتصاد الإماراتي فوفقًا لمؤشرات البنك الدولي نجحت الإمارات في تحقيق معدلات تنمية تفوق الـــــ6% سنويًّا، فضلًا عن استثمارها للفوائض النفطية في استثمارات غير نفطية؛ حيث تمَّ تركيز جزء منها في القوة العسكرية من أجل حماية استثماراتها، فقد قامت الإمارات في عام 2011م بإنفاق 5.5% من الناتج المحلى الإجمالي على شراء الأسلحة، وتطوير منظومة الدفاع الجوي وسلاح الطيران والقوات البحرية، وفي أوائل عام 2015م اتَّجَهَت إلى تطوير شراكة مع الصومال لمكافحة الإرهاب؛ حيث قامت بفتح مركز تدريب في مقديشو لتدريب وحدات القوات الصومالية وزوَّدَتها بالعديد من المركبات، وفي نهاية عام 2015م تعهَّدَت بدفع رواتب قوات الأمن الحكومية الاتحادية الصومالية لمدة أربع سنوات، ثم تلا ذلك في يونيو 2016م إرسال شحنتين من ناقلات الجنود المدرعة، والشاحنات الناقلة للمياه، والدراجات النارية لقوات الشرطة الصومالية(4).
وفي أواخر عام 2016م وقَّعت كلٌّ من حكومة الإمارات وحكومة جمهورية أرض الصومال اتفاقية من أجل التعاون الأمني بينهما لإقامة قاعدة عسكرية في بربرة مع تمركز القوات الإماراتية في أرض الصومال، وقد أقرَّ البرلمان الصومالي في فبراير 2017م بالموافقة على قرار إنشاء قاعدة عسكرية إماراتية في مدينة بربرة شمال غرب الصومال بجمهورية أرض الصومال.
ولا تُعَدُّ تلك القاعدة بمثابة الوجود الأول للإمارات في منطقة القرن الإفريقي؛ فخلال عام 2016م حصلت شركة موانئ دبي على ترخيص لإدارة مرفأ بربرة لمدة 30 عامًا بإجمالي استثمارات تُقَدَّر بــ 442 مليون دولار(5).
ولم يقتصر الوجود الإماراتي على الصومال فقط، وإنما امتد ليشمل استئجار ميناء عصب الإيريتري والمطار الرئيسي لمدة 30 عامًا، ففي أواخر عام 2015م بدأت الإمارات في بناء مرفق مياه في المياه العميقة على الساحل المجاور لميناء عصب، وبحلول مايو من عام 2016م كانت مساحة 60 ألف متر مربع من الساحل قد تمَّ حفرها، وبُنِيَ رصيف بطول 700 متر، وتم نشر القوات الإماراتية حول مرافق المطار والميناء، وتم إعادة توجيه الطريق السريع بين مينائي عصب ومصوع ليدور حول المحيط الخارجي للقاعدة العسكرية، وبذلك تكون الإمارات قد نجحت في التواجد بقوة في منطقة القرن الإفريقي؛ سواء من خلال القواعد العسكرية، أو من خلال إدارة الموانئ الحيوية في واحدة من أهم مناطق التجارة العالمية(6).
وفي ذات السياق، عادةً ما تحتاج الدول التي تقوم بإنشاء قواعد عسكرية خارج أراضيها إلى تحقيق عدة أهداف تتعلق بأمنها القومي؛ منها جمع معلومات استخباراتية، وتسهيل حركة الإمداد والتموين لبعض العمليات في مناطق الصراعات والحروب، أو تأمين حركة التجارة الخاصة بها في المناطق شديدة التوتر(7) ، وقد قدمت تلك القواعد دعمًا لوجستيًّا للإمارات في عملياتها العسكرية في اليمن من خلال عملية الرمح الذهبي التي قامت بها قواتها في غرب اليمن من أجل استعادة مدينة الحُديدة من الحوثيين، فضلًا عن فرض الحصار البحري لمنع وصول الأسلحة الإيرانية، وتأمين مصالحها الحيوية المتمثلة في مرور النفط عبر البحر الأحمر للأسواق الأوروبية(8).
2- القاعدة العسكرية السعودية في جيبوتي:
يُعَدُّ توطيد العلاقات السعودية الجيبوتية إجراءً دفاعيًّا واستباقيًّا في ذات الوقت من قبل المملكة العربية السعودية في إطار صراعها الإقليمي مع إيران، وكذلك من أجل التأثير على الحرب الدائرة مع الحوثيين في اليمن، خاصةً بعد اكتشاف المخابرات السعودية أن تدفق الأسلحة الإيرانية للمليشيات الحوثية في اليمن يتم عبر جيبوتي، بالإضافة إلى قيام إيران في أبريل 2016م بتحريك قِطَع بحرية عسكرية نحو مضيق باب المندب في خطوة استفزازية، وقد أوردت وكالة أنباء فارس الإيرانية أن القِطَع البحرية تضمنت الفرقاطة اللوجستية بوشهر والمدمرة "البرز"، وأن ذلك التحرك جاء بدعوى توفير الأمن لخطوط الملاحة البحرية الإيرانية، وهو الأمر الذي جعل المملكة العربية السعودية تسعى لإقامة قاعدة عسكرية في جيبوتي، فمن ناحية يمكنها منع الإمدادات العسكرية الإيرانية لليمن، ومن ناحية أخرى فتح جبهة جديدة ضد الحوثيين بحيث يمكن الهجوم عليهم من أكثر من محور، فضلًا عن حماية النفط السعودي المارّ من البحر الأحمر إلى الموانئ الأوروبية(9).
ومن جهة أخرى، نجحت السعودية في ضم جيبوتي إلى التحالف الإسلامي ضد الإرهاب، ونتيجة لتدفق الاستثمارات السعودية إلى جيبوتي، رفضت جيبوتي إقامة قاعدة عسكرية روسية بها، وذلك نتيجة دعمها للنظام السوري وهو ما يُعَدُّ موقفًا مناهضًا للموقف السعودي، كما رفضت جيبوتي أن تكون أراضيها مسرحًا للحرب بالوكالة بين القوى العظمى، وذلك خشية وجود قواعد عسكرية لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا على أراضيها، وهو الأمر الذي قد يُشَكِّل تهديدًا لأمنها القومي في المستقبل(10).
وقد وقَّع وزير الدفاع الجيبوتي وولي العهد السعودي محمد بن سلمان في 26 أبريل 2017م اتفاقية عسكرية ودفاعية بين البلدين؛ حيث تسعى المملكة العربية السعودية من خلالها إلى مراقبة أيّ تدخل عسكري أو تهريب للسلاح من جانب إيران إلى اليمن، وقد أشار وزير الدفاع الجيبوتي إلى أن خبراء سعوديون وصلوا إلى بلاده لتقييم التعاون العسكري بين البلدين، وتفقُّد المنطقة التي يمكن إقامة قاعدةٌ عسكريةٌ بها(11) .
ثانيًا: التنافس الأمريكي ـ الصيني في القرن الإفريقي
عند الحديث عن الزعامة والريادة الإقليميَّة والعالمية؛ فإن المعيار يكون للقوة الحقيقية والنفوذ المبنية على أساس من الأرقام والإحصاءات، لا سيما وأنها أصبحت لغة العصر الحديث، ويظهر ذلك جليًّا من خلال التنافس القائم بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين حول ريادة العالم الجديد، وهو الأمر الذي يثير الجدل حول التغييرات التي طرأت على الرؤية الاستراتيجية بين الحلفاء من جراء تغيُّر عوامل القوة والضعف على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، فالصين التي انتزعت الريادة الاقتصادية على مستوى العالم من الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2012م تسعى أيضًا لإثبات وجودها العسكري والسيطرة على أبرز الممرات الملاحية في العالم من أجل حماية مصالحها التجارية المتنامية بشكل سريع حول العالم.
ومنذ بداية الألفية الجديدة وكافة وثائق الأمن القومي الأمريكي تُصَنِّف الصين على أنها ليست حليفًا استراتيجيًّا، وإنما تضعها مع روسيا في خندق واحد من حيث المنافسة باعتبارهما المنافسين الحقيقين للولايات المتحدة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين(12) ، فحتى الآن، وعلى الرغم من الأبعاد التعاونية للعلاقات الأمريكية /الصينية، أصبحت الصين منافسًا استراتيجيًّا للولايات المتحدة الأمريكية؛ من خلال بناء النفوذ وعقد الشراكات مع دول آسيا، وأيضًا من خلال بناء القدرات العسكرية، وبرغم أن المنافسة العسكرية الصينية/ الأمريكية تركزت على المناطق البحرية المحيطة ببحر الصين الشرقي ومضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، إلا أنَّ الصين قد بدأت في التحرك إلى غرب المحيط الهادي والمحيط الهندي.
وفي ذات السياق، تُعَدُّ المنافسة على امتلاك التكنولوجيا أحد أبرز ميادين المنافسة بين الصين وأمريكا؛ ففي عام 1986م وضع الأميرال الصيني "ليو هوا تشينج" خطة البحث والتطوير في مجال التكنولوجيا والمعروفة باسم برنامج 863، والذي أسفر عن نتائج مبهرة من حيث امتلاك الجيش الصيني للعديد من الأسلحة المتطورة في مجال الفضاء وتكنولوجيا الليزر عالية الدقة، وفي عام 2011م نجحت الصين في التجارب الأولى لإنتاج أول حاملة طائرات صينية لتدخل الصين وبقوة في عام 2012م كأحد القوى البحرية الكبرى في العالم، وفي عام 2015م أعلنت الصين عن الاستراتيجية العسكرية الصينية، والتي تسعى من خلالها لأن تصبح قوةً عسكريةً عالميةً من أجل حماية مصالحها التنموية والتي تغطي آسيا وإفريقيا والأمريكيتين وأوروبا(13).
وتمتلك الولايات المتحدة الأمريكية العديد من القواعد العسكرية حول العالم، وخاصةً في الدول الحليفة مثل (اليابان، أستراليا، إيطاليا، البرتغال، تركيا، كوريا الجنوبية، والبحرين .. إلخ)؛ حيث تسعى من خلال كلِّ قاعدةٍ منهم إلى تحقيق العديد من الأهداف من أبرزها ردع الأعداء المحتملين؛ فالقواعد العسكرية الأمريكية في أوروبا تسعى إلى منع نُمُوّ القوة الروسية المتصاعدة، والقواعد العسكرية في منطقة الخليج العربي وتركيا تسعى إلى محاصرة إيران، كما أنها تسعى من خلال إقامة قاعدة عسكرية في جيبوتي إلى السيطرة على أحد أهم المضائق البحرية والمتحكمة في ثلث تجارة النفط العالمية، وذلك على الرغم من إعلانها الدائم أن هذه القاعدة هي من أجل محاصرة الحركات الإرهابية في الصومال والسودان واليمن ومكافحة عمليات القرصنة في منطقة خليج عدن(14).
وتُعَدُّ القاعدة الأمريكية في جيبوتي (قاعدة ليمونييه) مركزًا لإطلاق الطائرات بدون طيار في جميع أنحاء القارة لمهاجمة الجماعات المسلحة مثل حركة شباب المجاهدين في الصومال، وبوكو حرام في نيجيريا، وتنظيم القاعدة في اليمن، كما أنها تقوم بأعمال المراقبة الجوية وجمع المعلومات الاستخباراتية، وهي كذلك مركز لعمليات القوات الخاصة في منطقة شرق إفريقيا، حيث قامت في عام 2012م بإنقاذ الرهائن الدنماركيين والأمريكيين في الصومال، فضلاً عن دورها في الحفاظ على أمن التجارة في منطقة خليج عدن والقرن الإفريقي، وفي عام 2014م قامت الحكومة الأمريكية بتمديد عقد إيجار القاعدة من الحكومة الجيبوتية لمدة 20 عامًا(15).
ويعتمد الوجود العسكري الصيني في الخارج على إنشاء مراكز دعم لوجيستي، والتي تُعَدُّ جزءًا من الدبلوماسية العسكرية الصينية التي تتخذ ثلاثة أشكال رئيسة؛ هي(16):
1- الأساطيل البحرية الصينية خلال الفترة من 2009 إلى 2015م؛ حيث قامت الصين بإرسال 19 أسطولاً بحريًّا في خليج عدن والصومال وجيبوتي وكينيا وعُمان والسعودية وباكستان.
2- محطات التوقف لتقديم الدعم وإعادة تموين السفن مثل محطات التوقف في جيبوتي وعدن وجدة وصلالة.
3- قوات حفظ السلام الصينية في الشرق الأوسط والتي تتكون من 1152 جنديًّا في بعثات الأمم المتحدة في لبنان وجنوب السودان ودارفور والصحراء الغربية.
ووفقًا للاستراتيجية العسكرية الصينية فقد بدأت الدخول في مجال جديد للمنافسة من خلال إنشاء قواعد عسكرية في المناطق الحيوية حول العالم؛ ففي أغسطس عام 2017م أعلنت الصين عن أول قاعدة عسكرية لها في العالم بدولة جيبوتي في منطقة القرن الإفريقي، بالإضافة إلى التسهيلات التي حصلت عليها الصين من خلال استئجار ميناء هامبانتويا في سريلانكا لمدة 99 عامًا، وذلك على الرغم من الوعود السيريلانكية للهند بأنها لن تسمح باستخدام الميناء في الأغراض العسكرية، وفي 9 فبراير 2018م أشارت العديد من التقارير إلى أن الصين تسعى لإنشاء قاعدة عسكرية في باكستان، وهو ما أثار العديد من المخاوف بشأن الخطة الصينية الاستراتيجية طويلة الأمد في المحيط الهندي، وتشير التقارير إلى أن الصين بدأت بالفعل في تطوير مطار جيواني في باكستان حتى يصبح ملائمًا لاستقبال الطائرات الصينية الكبيرة (17).
القاعدة الصينية في جيبوتي: التحوُّل من شريك اقتصادي إلى حليف استراتيجي
على الرغم من أن بداية العلاقات الدبلوماسية بين جيبوتي والصين كانت منذ يناير 1979م بَيْدَ أنَّ تطور العلاقات القوية بين البلدين لم يحدث إلا منذ عام 2012م؛ حيث أخذت العلاقات طابعًا تنمويًّا عبر العديد من مشاريع البنية التحتية التي شملت بناء ميناء جديد ومطاران وخط سكة حديد بين جيبوتي وإثيوبيا، ومحطات للغاز والمياه، وهو ما يُمَثِّل تغيُّرًا كبيرًا للدور الصيني التقليدي في إفريقيا، والذي لم يكن يتخطَّى عملية استخراج الموارد.
فقد أعلن وزير الدفاع الصيني في 8 أبريل 2016م عن بناء أول قاعدة عسكرية صينية في العالم بجيبوتي؛ حيث سيترتب عليها الوجود الصيني في جيبوتي لمدة تسع سنوات حتى عام 2026م من خلال قوة يصل قوامها 10000 جندي صيني، وتُعَدُّ تلك القاعدة اللبنة الأولى للخطة الاستراتيجية العسكرية الصينية الجديدة التي تسعى الصين من خلالها لأن تصبح قوةً عسكريةً عالميةً لها الهيمنة والسيطرة على الممرات المائية وحركة التجارة العالمية، وذلك بهدف دعم سياساتها الاقتصادية القائمة على استراتيجية "طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين"، والتي تسعى بكين من خلالها لبناء شبكة دولية واسعة لتأمين طرقها التجارية لضمان سفر المواد الخام وسفن الطاقة الصينية دون عائق بالإضافة إلى منتجاتها المحمولة عبر خليج عدن (18).
وفي 1 أغسطس 2017م أعلنت الصين رسميًّا عن افتتاح أول قاعدة صينية خارج أراضيها، ورفع العلم في جيبوتي في منطقة القرن الإفريقي؛ حيث أعلنت أنها قاعدة لمكافحة عمليات القرصنة على طول القرن الإفريقي، ومن ناحية أخرى تسعى جيبوتي إلى استغلال وجود تلك القاعدة في تطوير البنية التحتية لها عبر تنمية علاقتها مع الصين حتى تصبح جيبوتي أحد مراكز التجارة الصينية الكبرى في العالم، وهو ما سيؤدي إلى تحسُّن مستوى المعيشة لمواطنيها(19).
ثالثًا: تداعيات بناء القواعد العسكرية في منطقة القرن الإفريقي على الأمن القومي المصري والإثيوبي
من الجدير بالذكر أن التكالب الدولي والإقليمي على بناء القواعد العسكرية في منطقة القرن الإفريقي سيكون له العديد من التداعيات السلبية والإيجابية على الأمن القومي المصري والإثيوبي، فمن أبرز التداعيات السلبية المتوقعة على الأمن القومي المصري هو أن غالبية تلك القوى ستسعى بشكل أو بآخر إلى السيطرة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وبالتالي السيطرة على حركة التجارة الدولية، الأمر الذي سيكون له تأثيرٌ سلبيٌّ على الملاحة في قناة السويس التي تُعَدُّ واحدة من المصادر الرئيسة للدخل القومي المصري، كما أنه في حال تعارُض المصالح السياسية والاقتصادية بين كافة تلك القوى الدولية والإقليمية سوف تحاول كل قوة الحصول على دعم وتأييد باقي دول المنطقة، وهو ما سيترتب عليه وجود تداعيات خطيرة على قدرات دول منطقة القرن الإفريقي الاقتصادية والعسكرية، وبالتالي التأثير بشكل مباشر على الأمن القومي المصري.
أما فيما يتعلق بوجود القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي؛ فمن المتوقَّع أن يكون له العديد من التداعيات الإيجابية على الاقتصاد الإثيوبي، لا سيما وأن الصين تسعى إلى إنشاء العديد من مشروعات البنية التحتية مثل خط السكة الحديد الذي يربط بين إثيوبيا وجيبوتي وهو ما سيترتب عليه إخراجها من عزلتها بعد أن أصبحت دولةً حبيسةً عقب استقلال إريتريا، كما أن الصين تقوم ببناء خط أنابيب لتصدير الغاز الإثيوبي إلى الصين عبر جيبوتي(20) ، الأمر الذي يعني توافر المزيد من الموارد الاقتصادية لإثيوبيا، والتي ستُمَكِّنُها من إنشاء العديد من المشروعات التي تطمح إلى إقامتها والموضَّحة في خطتها الاستراتيجية لعام 2050م؛ حيث تسعى إلى إنشاء أربعة سدود أخرى أكبر من سدّ النهضة، وهو ما من شأنه التأثير على الأمن المائي المصري، والذي يُعَدُّ مسألةً حيويةً بالنسبة لمصر وأمنها القومي.
فضلاً عما سبق، فإن وجود قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، مع سعي الولايات المتحدة الأمريكية الدائم لإحداث تقارب بينها وبين إثيوبيا باعتبارها أكبر قوة عسكرية في منطقة القرن الإفريقي، يعني المزيد من التعاون في مجالات التدريب والاستخبارات وجمع المعلومات على الصعيد الأمريكي / الإثيوبي(21).
ومن ناحية أخرى فإن وجود قواعد عربية إماراتية وسعودية في كلٍّ من الصومال وإريتريا قد يكون وسيلة للضغط على إثيوبيا ومشروع سدّ النهضة في ظل التقارب المصري السعودي، وهو ما يُشَكِّل وسيلة ضغط لصالح الجانب المصري فيما يتعلق بمفاوضات سَدّ النهضة المتعثرة منذ ما يقرب من عامين، وبالتالي تحتاج مصر لاتباع سياسة خارجية أكثر انفتاحًا مع القوى المتنافسة في المنطقة، ومحاولة الحصول على أكبر قدر ممكن من المنافع لتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية في القارة الإفريقية، كذلك تحتاج مصر إلى العمل على زيادة استغلال قوتها الناعمة لإعادة الثقة بينها وبين دول القارة الإفريقية ودول حوض النيل، وإظهار نفسها على أنها الشريك الأكثر فاعلية في المنطقة.
محمد فؤاد رشوان، دكتوراه في العلوم السياسية، معهد البحوث الإفريقية، جامعة القاهرة.
"قراءات إفريقية" 20 نوفمبر/تشرين الثاني، 2018
العنوان الأصلي للدراسة : "التنافس على بناء القواعد العسكرية في القرن الإفريقي .. وتأثيره على الأمن القومي المصري والإثيوبي" (محرر الحقول)
المراجع :
(1) Saudi to open military base in Djibouti, 5/12/2016:
https://www.middleeastmonitor.com/20161205-saudi-to-open-military-base-in-djibouti/
(2) Gerald Feierstein, Craig Greathead, The Fight For Africa : The New Focus Of The Saudi – Iranian Rivalry , in Policy Focus (Washington, DC, middle east institute , Vol,2,2017) P. 3
– Jacquelyn Meyer Kantack, The Gulf Contest for the Horn of Africa, in 26 September 2017 at : https://bit.ly/2JINCzI
(3) د. أميرة عبد الحليم، القواعد العسكرية في البحر الأحمر .. تغير موازين القوي، 30 يناير 2018م في :
– http://acpss.ahram.org.eg/News/16525.aspx
(4) قاعدة عسكرية إماراتية جديدة في إفريقيا.. توسيع القوة الخشنة لأبوظبي، 13/02/2017م:
– http://www.emasc-uae.com/news/view/7802
(5) Najah M. Adam, Op.Cit., Pp.184-185
(6) دواجة العدواني، سباق القواعد العسكرية في القرن الإفريقي، 5 أكتوبر 2017م في:
– https://meemmagazine.net
(7) Najah M. Adam, Berbera basing politics: Understanding actors, interests, and animosities, in African Journal of Political Science and International Relations (Nairobi, Academic Journals , Vol 11(2) , July 2017 ) , P.P., 183- 184
(8) Eleonora Ardemagni, The Horn of Africa’s Growing Importance to the U.A.E., 25 April 2017, at: https://bit.ly/2Fxp8XH
(9)أحمد ابو الخير ، أول قاعدة عسكرية سعودية بالخارج في جيبوتي.. نواة حماية باب المندب؟، في الخليج أو لاين بتاريخ 12/10/2016م في:
– http://klj.onl/KRj3K
(10) Djibouti finalizing deal for Saudi Arabian military base:
– https://www.ft.com/content/c8f63492-dc14-11e6-9d7c-be108f1c1dce
(11) جيبوتي: نرحب بالقاعدة العسكرية السعودية.. حدود علاقتنا أكبر، 28/11/2017م: https://sabq.org/sDNVBT
(12) التنافس الأمريكي- الصيني من أجل الزعامة والريادة الإقليمية والعالمية، 1/03/2015م:
– https://www.politics-dz.com/threads/altnafs-almriki-alsini-mn-gl-alzyam-ualriad-alqlimi-ualyalmi.123 /
(13)Jacqueline Deal, Military Competition With China, at:
– http://www.choosingtolead.net/military-competition-with-china/
(14) Sun, Degang / Zoubir, Yahia H, The Eagle’s Nest in the Horn of Africa: US Military Strategic Deployment in Djibouti, In African Spectrum ( Hamburg , GIGA German Institute of Global and Area Studies, Vol. 51 , No1, 2016) P.P., 113-115
(15) Joseph Braude , Tyler Jiang, Djibouti is Jumping, , March 2016 at:
– http://www.fpri.org/article/2016/03/djibouti-is-jumping/
(16) Degang Sun, China’s Soft Military Presence in the Middle East, 11 march 2015 at: http://www.mei.edu/content/map/china%E2%80%99s-soft-military-presence-middle-east
(17) Rajeswari Pillai Rajagopalan, A New China Military Base in Pakistan?, 9 February 2018 at: https://thediplomat.com/2018/02/a-new-china-military-base-in-pakistan/
(18) François Dubé, China’s Experiment in Djibouti, 5 october 2016 at: https://thediplomat.com/2016/10/chinas-experiment-in-djibouti/
(19) Ahmad Saffee, Research Fellow, Chinese Naval Base in Djibouti: Possibilities and Implications, in Issue Brief, ( London, Institute of strategic Studies, 30 August 2017), Pp.,1-4
(20) د. حمدي عبد الرحمن، سباق القواعد العسكرية في القرن الإفريقي: الفرص والمخاطر الأمنية بالنسبة لمصر، في السياسة الدولية، )القاهرة : مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، المجلد 53 ، العدد 211، يناير 2018م) ص 126.
(21) Gashaw Ayferam, Zelalem Muchie, " The Advent of Competing Foreign Powers in the Geostrategic Horn of Africa: Analysis of Opportunity and Security Risk for Ethiopia" , in International Relations and Diplomacy, ( Suite, David Publishing, Vol. 4, No. 12 ,December 2016), Pp., 793-794.