«مستعمَراتنا في الهند الغربية، مثلاً، لا يمكن إعتبارها دولاً … فالهند الغربية هي المكان الذي فيه تجد إنجلترا أن من المناسب زراعة السكر والبن وبعض السلع الإستوائية الأخرى»، جون ستيوارت ميل.
بالرغم من كل الدعاية الأوروبية والمرددين خلفها حول تخلف وبدائية زراعة أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية التي سيطر عليه الأوروبي إلا إن الوثائق تشير على ما يناقض هذه الدعاية فعلى سبيل المثال يشير العالم الزراعي أ.ج. فولكر والذي عُين في الهند في تسعينيات القرن التاسع عشر «لن يجد المرء في أي مكان أمثلة أفضل على إبقاء الأرض نظيفة من الأعشاب بعناية، وعلى البراعة في تصميم معدات رفع المياه، وعلى المعرفة بأنواع التربة وبإمكانياتها، وكذلك بالوقت المضبوط للبذر والحصد، كما يجد المرء في الزراعة الهندية … لم أر أبداً صورة أكمل للزراعة كهذه». لذلك لم يكن الحديث عن بدائية زراعة غير الأوروبي سوى مبرر لتدميرها، فبالنسبة للأوروبي أصبحت الزراعة مجرد وسيلة لإستخلاص الثروة كما منجم الذهب، ولم تعد تعتبر مصدر غذاء السكان المحليين ولا حتى قوام حياتهم وهذا جوهر ما قصده ميل في مقولته.
في كتابه «كيف ساهمت أوروبا بتخلف أفريقيا» يشير والتر رودني إلى أن الأفارقة قبل التواجد الأوروبي طوروا زراعتهم وأدخلوا نباتات غذائية جديدة من خارج القارة، لكن الأوروبي أختزل هذا الإنتاح المتنوع إلى المحاصيل النقدية فقط بإستبعاد الأغذية الرئيسية، فمثلاً، أُجبرت غينيا الإستوائية التي أشتهرت بزراعة نبات «اليام» وهو محصول غذائي يحتوي على قيمة عالية من النشا والسكر على ترك هذا المحصول الإلتزام بزرع الكاكاو فقط، كذلك تحولت كل ليبريا إلى عبارة عن مزرعة تابعة لشركة الإطارات والمطاط «فايرستون» الأمريكية، كذلك تم التخلي عن كل المنتجات الغذائية في داهومي وجنوب غرب نيجيريا من أجل زيت النخيل وهذا السبب كان وراء حظر تجارة العبيد؛ فالعبد الذي يستخرج زيت النخيل في نيجيريا من أجل المكانات [آلات المصانع] البريطانية أصبح أكثر فائدة من العبد الذي يُباع في أسواق النخاسة الاوروبية على حد تعبير أحد أعضاء مجلس الشيوخ البريطاني، كذلك أجبرت تنزانيا على زراعة السيزال المستخدم في إنتاج الورق وأوغندا على زراعة القطن. في آسيا حدث نفس الأمر ففي الحرب الأهلية الأمريكية قرر الفرنسيون إن دليتا الميكونج في الڤييتنام هي المكان المثالي لزراعة الأرز وأصبحت الڤيتنام ثالث أكبر مصدر في العالم في الوقت نفسه كان معظم الڤييتناميين يموتون جوعاً!.
سياسة الإجبار هذه أتخذت طريقين للتنفيذ كما أشار لها رودني؛ أولها إنتاج الفلاحين بالسخرة فقد كانت المحاصيل النقد تزرع تحت تهديد السياط والبنادق الأوروبية وهذا الإجبار كان هو السبب بإشتعال حروب الماجي ماجي في تنزانيا، والثورة الوطنية في أنجولا عام 1960، وبالرغم من إستخدام القوة الغاشمة إلا أن الضرائب كانت هي الطريقة الأنجع بالنسبة للمستعمِر، فكانت الإدارة الإستعمارية تجبي الضرائب بعملة المستعمِر، فكان على الفلاحين المستعمَرين إما أن يزرعوا المحاصيل النقدية ويتخلوا عن محاصيلهم الغذائية أو أن يعملوا في المزارع والمناجم الأوروبية ولكي يستطيعوا مواكبة تزايد الضريبة كان عليهم أن يزيدوا إنتاجهم من المحاصيل النقدية تاركين محاصيلهم الغذائية. أما الطريقة الثانية فكانت المزراع الأوروبية الضخمة فبعد غزو مملكة الكانديان (سريلانكا اليوم) عام 1815 أستولتى البريطانيين على أكبر هضبة في الجزيرة وسموها أرض التاج وتقرر إن البن هو المحصول المربح في الجزيرة فعرضت هذه الهضبة للمستثمرين البريطانيين بسعر خمسة شلنات للفدان الواحد، كذلك حدث في جاوا حيث أعلن الإستعمار الهولندي إن كل الأراضي القفر هي ملك الحكومة الهولندية ويحق لها تأجيرها لشركات الزراعة الهولندية، أمتد نظام التأجير للقرى حيث ليستطيع سكان جاوا دفع الضرائب كان عليهم أن يؤجروا أراضيهم الزراعية للشركات الهولندية مقابل العملة، كان هذا النظام يعني الطلاق بين الزراعة والتغذية فقد أختيرت مزروعات ليس على أساس قيمتها الغذائية للبشر وإنما لأثمانها العالية بالنسبة لوزنها وحجمها بحيث يمكن الإحتفاظ بهوامش الربح حتى بعد نفقات تصديرها لأوروبا.
كانت هذه المزراع بحاجة إلى رصيد واسع وجاهز من العمال الزراعيين ذوي الأجور المنخفضة فأتخذت الإدارة الإستعمارية عدة تكتيكات للإجهاز نهائياً على زراعة التغذية الذاتية وجعل السكان المحليين معتمدين على أجور المزارع الاوروبية حصراً. تبعاً لذلك دمرت القوى الإستعمارية التجمعات الأفريقية المعتمدة على الزراعة ودفعتها إلى معازل صغيرة لا تشبه أرضها الأصلية ولا تحتوي على ابسط إحتياجات الزراعة، ولأن هذه التجمعات أصبحت غير قادرة على تحقيق الكفاف ناهيك عن الفائض الذي يمكّنها من دفع الضرائب، لذلك ألتجأت هذه التجمعات إلى العمل ضمن المناجم والمزارع الإستعمارية معتمدة على الأجور فقط. يبقى أخبث تكتيك لدفع الفلاحين المحليين على عدم الإنتاج هو التكتيك الذي كانت له أوخم العواقب التاريخية وهو سياسة إبقاء أسعار الغذاء المستورد منخفضة من خلال رفع التعريفات والدعم، كانت هذه السياسة ذات حدين، اولاً، إقناع الفلاحين إنهم لا يحتاجون إلى زراعة الغذة بأنفسهم لأن بإمكانهم أن يشتروه رخيصاً، ثانياً دمرت ورادات الغذاء الرخيصة سوق الغذاء المحلي وبذلك أفقرت منتجي الغذاء المحليين.
نجحت الحكومات الإستعمارية في تثبيت الإعتماد على الأغذية المستوردة ففي العام 1647 كتب مراقب بريطاني في أمريكا الوسطى «إن الرجال منكبون على زراعة السكر لدرجة أنهم يفضلون أن يشتروا الغذاء بأسعار مرتفعة جداً على أن ينتجوه بأنفسهم إن ربح أعمال السكر لا متناه» وبسبب جحيم مزارع السكر المنتشر بشكل جنوني في القرن الثامن عشر كانت أمريكا الوسطى تستورد كل أغذيتها من السمك المجفف والغلال والبقول والخضروات من الخارج، جعل هذا الإعتماد على الإستيراد المنطقة كلها على شفير هاوية بإنقطاع الإستيراد وحصل ذلك عام 1780 عندما انقطعت الصادرات مات 15 ألف إنسان في جامايكا وحدها ولا تزال هذه المنطقة تعتمد على الغذاء المستورد إلى اليوم.
كانت هذه الأساليب الإستعمارية بالغة التدمير للمجتمعات ففرض زراعة التصدير أعجز التطور بتوجيه هياكل الإنتاج والتجارة المحلية لخدمة مصالح التصدير الضيقة، فتم تدمير التجارة الداخلية التي كانت من الممكن أن تفيد في التطور الداخلي المستقل. ودمرت الصناعات المزدهرة التي تخدم الأسواق المحلية، فقضى هجوم المنسوجات الرخيصة من مصانع نسيج لانكشاير على غازلي وناسجي الهند. كما إن الزراعة النقدية المعدة للتصدير في أمريكا الجنوبية قطعت التجارة الداخلية بين كياناتها؛ بسبب إنعدام الإتصالات البرية لإرتباط كل كيان بمينائه …. إن الزراعة النقدية المعدة للتصدير التي رسخها الأوروبي مقابل تدمير الزراعة الغذائية كانت هي السبب وراء المجاعات التي حصلت في رقع العالم التي دمرها، كُتب الكثير عن هذه المجاعات تحت عنوان «الندرة» لكن هذه الخرافة لم تكن موجود اصلاً، هنالك فقط الغرب الرأسمالي الذي منع الناس من إطعام أنفسهم.
كارلوس شهاب
المقال منشور على صفحة "مجموعة العمل الوطني العربي" على موقع "فايسبوك"
يوم الخميس 13 حزيران/ يونيو 2019