الكل من اليسار الى اليمين ومن الشمال الى الجنوب من الطوائف والمذاهب يطالب بمواقف وطنية للاصلاح وبدون استثناء، لكن البعض من الكل يفسر الوطنية على هواه ومصالحه واهدافه ويفصل الوطن على مقاسه، فيحضرني هنا كلام المعلم كمال جنبلاط في 13/4/1963 حيث قال:
"لا تقوم الوحدة الوطنية بالتكاذب المشترك، ولا بالتعصب المقابل، ولا في التكتل السياسي لكل فئة من المواطنين في مواجهة الفئة الأخرى، ولا يمكن للقبول المذعن والقسري بالتعايش المشترك في ظل نظام الطائفية السياسية بأن يسمى وحدة وطنية".
فالموقف الوطني لا يستقيم اذاً الا بالاقلاع عن التكاذب الذي نسمعه كل يوم وهو مستمر منذ الخمسينات من القرن الماضي، ولا يستقيم ايضاً الا بمغادرة التعصب الى الابد نظراً لتأثيره الكبير في زعزعة الاستقرار والامن والسلم الاهلي، كما لا بد من حلول الاحزاب العلمانية مكان التجمعات السياسية الفئوية، والإنتقال من نظام الطائفية السياسية الى نظام المواطنة والعدالة والمساواة واستقلال القضاء والحرية، وهذا يتطلب ان تكون لدينا القناعة المطلقة عند كل منا بأن الشعب اللبناني هو المعني المباشر للحفاظ على استقلاله ووحدته وتقدمه ومصيره وليس احداً سواه.
ونتمسك بما اكده سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الدكتور عبد اللطيف دريان "بأن اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب، يجب ان يبقى الاطار الجامع، وتطبيقه امانة في اعناقنا، فالدستور حامي الجميع ومن دون دولة القانون سننتقل للفوضى. لذلك لا بد من تكامل السلطات وفق الصلاحيات المنصوص عليها بالطائف.."
إن ما نشاهده من تصرفات واقوال لما يحصل يومياً في البلد من تعارض التنفيذ مع نصوص اتفاق الطائف الذي عدل الدستور على اساسه، لا بد ان يستتبع الفوضى والزبانية والاستزلام ويؤدي الى الدويلات، ويستحضر الحرب خدمة لمصالح هؤلاء ومصالح الدول الاجنبية.
ان استعادة لبنان لوقفة العز الاستقلالية عام 1943، وتعزيز ميثاقه الوطني الذي ناضل كل شعب لبنان وبقياداته الوطنية آنذاك لولادته، ان استعادة وقفة العز هذه تقتضي ان يظلل عملنا السياسي روح الميثاق الوطني بحيث ينعكس على كل مناحي الحياة، وكذلك استثمار الثروات مهما كان حجمها فينتج عن ذلك كل الخير الدائم وليس الشر المستطير.
واننا نقف هنا ايضاً مع غبطة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في دعوته لوقفة وطنية اصلاحية تحيي لبنان "بعد النقص في الولاء الوطني، ورهن الشركة الميثاقية تدريجياً بالعدد لا بالتعددية".
من اجل ذلك نقول ان الوقفة الوطنية للاصلاح لا تتم ولن تنجح الا بتأمين ما تقدم اعلاه الذي يشكل قواعد لازمة للخروج من الغيبوبة، ويتطلب ايضاً تصحيحاً عاماً وهيكلاً كاملاً في عقولنا بحيث يجسد بعدها في التصرفات القولية والقانونية والمادية، ومن هنا تبقى العروبة الصافية المؤمنة بالديمقراطية والحرية وحقوق الانسان والمقاومة للاعداء والتي ننتمي اليها هي السند الاكيد بحمايتنا وتقدمنا وتطورنا، وليس العروبة القائمة على الاستبداد والظلم وعلى تعميم الجهل والفساد والعمالة والتطبيع مع الاعداء.
ونقول انه علينا ان ننتبه الى معالجة مركَّب الاقلية الذي يحركه رجال في السلطة وخارجها، من اجل الفرقة بكل انواعها واشكالها لصالح استثمارهم السياسي للبقاء في مناصبهم، ومن اجل اثارة الفتن لصالح الاجنبي.
اما الدعوة للاصلاح لقد عرفناها منذ السنوات الاولى للاستقلال وبعده وحتى تاريخه، لكن بدون جدوى، واليوم نرفع الصوت عالياً مع سماحة العلامة المرجع السيد علي فضل الله بقوله:
"ان الحلول لن تأتي من الخارج، هي تأتي عندما يشعر المسؤولون بانهم امام شعب لا ينسى، شعب يراقب ويحاسب في وقت الحساب، وعندها فقط سيحسبون الحساب لمواقفهم، وسيخرجون من حساباتهم الخاصة الى حسابات انسان هذا البلد."
ولا بد هنا من الاشارة الى ان الطبقة السياسية عمّمت الكذب الذي افسد اخلاق الناس، كما والخطابات الشيطانية، مما عرقل وما زال نهضة وتطور الدولة، واصبح اليأس والحذر مسيطراً على معظم ابناء شعبنا، مما يتطلب معه قيام كل القوى الحية في المجتمع الى كشف كل المرتكبين والاخذ بما قاله المعلم كمال جنبلاط:
"اكبر ضمانة لنا في لبنان هي ان نحافظ على هدوء اعصابنا، وان نفضح هذه المؤامرات كلما بدت وبرزت قرونها، وان نحمي وحدتنا الوطنية، وان نرمي الدجالين والانتهازيين وعملاء كل اجنبي في عرض البحار او في غياهب السجون، فالتطهير ضرورة وطنية ملحة بالنسبة الى الدولة وبالنسبة الى لبنان وشعبه".
وبهذه المعاني والقواعد ننجح في تمتين الوحدة الوطنية والبدء في عملية الاصلاح التي تنطلق من وحدة وطنية حقيقية ذات بعد عربي صافٍ واصيل، ونستمر في النجاح حتى تحقيق الاهداف العربية والوطنية، ويأخذ لبنان دوره كرسالة، ويقف بكل قواه وليس ببعضها بوجه الغطرسة الصهيونية لتحرير الارض.
الوحدة الوطنية التي نفهمها هي التي اوصلت فارس الخوري في سوريا لرئاسة الوزراء، وهي التي بتوفرها ترأس حميد فرنجية وفد لبنان الذي ضمّ رئيس وزرائه آنذاك رياض الصلح في اجتماعات هيئة الامم المتحدة، كما ان تقدير الزعيم العربي جمال عبد الناصر لموقف الرئيس فؤاد شهاب في لقائه عند الحدود اللبنانية السورية يأتي في هذا السياق ايضاً، وكذلك تفويض كل العرب للرئيس سليمان فرنجية لتمسكهم بدور لبنان العربي لالقاء كلمتهم في هيئة الامم المتحدة.
هكذا نفهم الوحدة الوطنية، وهكذا نفهم الاصلاح، لنتحد جميعاً لتحقيق ذلك.
المحامي عمر زين
الأمين العام السابق لاتحاد المحامين العرب
بيروت، 20 آب/ أغسطس، 2019