أخذ «فردريكو مايور» مدير اليونسكو الأسبق يروى لـ «فاروق حسني» المرشح لذات المنصب قصة صعوده إليه، قبل وقت قصير من إجراء الانتخابات. لم يدر بخلد المتحاورين فى ذلك اللقاء الباريسى أن القصة ذاتها يمكن أن تتكرر بطرق مختلفة وفى ظروف مستجدة، فى البداية – كما يروى «مايور» ـ بدت حظوظه محدودة، فالمرشح الرئيسى أمامه «أحمد مختار أمبو» الأفريقى المسلم رأس لسنوات طويلة اليونسكو.. واعتبر على نطاق واسع خصماً للهيمنة الأمريكية عليها، التى دخلت فى صدامات عنيفة معه أدت الى تجميد عضويتها فى المنظمة الدولية والامتناع عن تسديد حصتها فى تمويلها. فى الجولة الأولى من تلك الانتخابات حصد «أمبو» (22) صوتاً، وهو ذات الرقم الذى حصده «فاروق حسني» فى الجولة الأولى من الانتخابات الأخيرة لليونسكو ، بينما حصد «مايور» (6) أصوات فى ذات الجولة، وفى الجولات التالية، واحدة بعد أخرى، بدأت ترتفع حصص المرشح الإسبانى « مايور» بينما ثبتت حصص «أمبو» عند الرقم (22)، وعندما اقترب صحفى أسبانى من « مايور» عند نهاية الجولة الرابعة متسائلا عن توقعاته بشأن الجولة الخامسة والحاسمة.. أجابه على الفور: «أنت تتحدث الآن مع المدير العام الجديد لليونسكو».. وبالفعل انسحب «أمبو» من السباق الانتخابى فى ذلك المساء البعيد.
من مفارقات هذه القصة المفعمة بحقائق الانتخابات فى المنظمة الثقافية الأرفع فى العالم أن « مايور»، الذى صعد الى رئاستها بدعم أمريكى وأوروبى فى مواجهة المرشح الأفريقى العتيد، وجد نفسه ـ هذه المرة ـ متحمساً لمرشح أفريقى ومسلم آخر فى مواجهة ضغوط أمريكية عاتية، وغير مسبوقة فى مستوى ضراوتها، وفى اعتقاده أن المنظمة الدولية على عهد اليابانى «ماتسورا» فقدت روحها وأدوارها التى أنشئت من أجلها.
عندما روى «مايور» قصة صعوده لليونسكو قصد أن ينصح «حسني» بالصبر على الضغوط التى يتعرض لها، فاللعبة يمكن أن تتغير حساباتها من جولة لأخرى، وهو ما حدث فعلاً، فقد تقدم المرشح المصرى باضطراد من جولة لأخرى، ولم يتوقف رصيده عند الرقم الذى حازه فى الجولة الأولى، غير أنه خسر فى الجولة الحاسمة أمام الحصان البلغارى الأسود الذى كانت حظوظه محدودة فى البداية، قبل أن تستقر الرهانات الأمريكية والأوروبية عليه، لا لأنها تؤمن به، أو تعتقد أنه الأفضل، بل لأن المطلوب الوحيد هو الحيلولة بكل الوسائل دون صعود مرشح عربى ومسلم فى هذه المرحلة بالذات الى رئاسة اليونسكو سواء كان «فاروق حسني» أو أى شخص آخر ينتمى إلى ذات العالم.
1
كانت اللعبة قد دخلت آخر مراحلها الحاسمة.. الأوراق فوق الطاولة حقائقها ظاهرة وحساباتها معقدة.. كل الوسائل مشرعة، ضربات تحت الحزام وفوقه، صفقات ومناورات وضغوط لخطف صوت واحد يحسم المعركة الانتخابية الطويلة والمضنية والأكثر إثارة فى تاريخ اليونسكو.
كانت قد انتهت للتو ( ليلة عيد الفطر) الجولة الثالثة من الانتخابات، ارتفع رصيد المرشح المصرى إلى (25) صوتا من (58) صوتا يمثلون المجلس التنفيذى للمنظمة الثقافية الدولية، تلاحقه ثلاث سيدات حديديات، الأولى، وزيرة الخارجية البلغارية السابقة «انيتا بوكوفا» بـ (13) صوتا، ومفوضة العلاقات الخارجية فى الاتحاد الأوروبى «بنيتا فيرورو فالدنر» بـ (11) صوتا وسفيرة الإكوادور السابقة فى واشنطن «ايفون عبدالباقي» بـ (9) أصوات، وكانت الرهانات الانتخابية فى أروقة اليونسكو تميل الى الاعتقاد أن الحسم سوف يتأخر للجولة الخامسة والأخيرة، وأن المرشحين الأربعة سوف يخوضون معركة تحسين المراكز فى الجولة الرابعة، التى سوف يتقرر على أساسها من ينافس «فاروق حسني» فى جولة الحسم، ولكن.. وبصورة مفاجئة انسحبت المرشحة النمساوية من السباق الانتخابى، رغم أنها قد حصلت على صوتين إضافيين فى الجولة الثالثة، ويمكنها أن تحسن موقفها فى الجولة التالية، غير أنها تلقت تعليمات صارمة بالخروج منه وإفساح المجال لـ «الحصان البلغارى الأسود» للرهان عليه وحيدا فى معركة إسقاط المرشح المصرى، الذى كان يوصف حتى اللحظات الأخيرة من السباق بأنه الأوفر حظا.
ويعتقد «فاروق حسني»، و الشواهد أمامه، أن قرار الحسم قد جرى فى نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التى شارك فيها رؤساء ورؤساء وزراء ووزراء خارجية الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، صوت غربى واحد فى مواجهته، ولم يكن مهما من تفوز من المرشحات الثلاثة، القرار: ألا يفوز هو.
2
فى تلك اللحظات الحاسمة، التى تلت مباشرة الجولة الثالثة، استشعرت «ايفون عبدالباقي»، وهى لبنانية الأصل، أنها تعرضت لخديعة أمريكية، وأنه غُرر بها، فقد تلقت تأكيدات متكررة بأنها المرشحة المفضلة لدى الولايات المتحدة، التى عملت فيها سنوات طويلة، وتربطها علاقة صداقة قديمة مع السيدة «هيلارى كلينتون» وزيرة الخارجية الأمريكية، عندما كانت السيدة الأولى فى البيت الأبيض على عهد زوجها الرئيس السابق «بيل كلينتون».
قررت أن تنتقم، وقررت أن تجلس فوراً الى المرشح المصرى، وكانت تعرف طريقها إليه، فهى قد عملت لسنوات فى مكتب «بطرس غالي» عندما كان أميناً عاماً للأمم المتحدة، وتربطها صلات أسرية معه، وبشكل أو بآخر جرى اتصال بينهما عبر «منير فخرى عبد النور» أمين عام حزب الوفد، وهو قريب للدكتور« بطرس غالي» من ناحية والدته وهى ابنة «أمين باشا غالي».. وكان هناك اقتراح ـ فى البداية ـ باللقاء فى بيت «عبدالنور» الباريسى، غير أن «ايفون» عادت واقترحت أن يلتقيا فى بيت صديقة لبنانية مقربة منها .. وعندما جاء «حسني» فى موعده بدا أمامه البيت موحيا بذوق رفيع لصاحبته والثراء فيه ظاهر.
كانت «ايفون عبدالباقي» غاضبة، وبكلمات مقتضبة قالت لمنافسها المصري: «لقد خُدعت.. وأريد الانتقام من أمريكا»، وفيما يبدو أنها أدركت متأخراًَ أن السفير الأمريكى فى اليونسكو «كيللون» قد تلاعب بأوراقها ومشاعرها، وعدها طويلا وكثيرا بأن يقف معها حتى النهاية، وها هو الآن يضحى بها عند منعطف الحسم.. وربما اكتشفت متأخراً أنها قد اُستخدمت لمرحلة مؤقتة لتشتيت أصوات أمريكا اللاتينية بعيدا عن «فاروق حسني»، دون أن يكون الرهان الحقيقى عليها، ولم تكن لديها أفكار محددة للانتقام، ولم يكن لديها قرار إذا ما كان يتوجب عليها الانسحاب الآن، فقد حُسم مصيرها، أم تخوض الجولة الرابعة. وسألت «فاروق حسني»: «هل انسحب.. الآن؟».. فرد عليها الوزير المصري: «إذا تنازلت الآن.. فهذا قرارك، أما غدا فإن خروجك اضطراري».. صمتت «ايفون» لوهلة قصيرة، فلم يكن لديها أدنى فرصة لمنافسة «حسني» فى الجولة الأخيرة، فالأمر قد استقر الآن على الحصان البلغاري. قبل أن تقول:«لابد أن استأذن أولا الرئيس الإكوادورى قبل إعلان قرار الانسحاب». ثم أشارت إلى أن نجلها الأكبر، وهو فى الأربعين من عمره، هو الذى يدير حملتها الانتخابية، وأنه لم يصل ـ بدوره ـ إلى قرار حتى هذه اللحظة!
انتهى اللقاء الذى لم يطل كثيرا، تخللته حفاوة بالغة من السيدة اللبنانية صاحبة المنزل الباريسي. وبدا واضحا أمام المرشح المصرى، وهو يغادر، أن المرشحة الإكوادورية لم تشر مرة واحدة أثناء اللقاء إلى أنها سوف تدعمه أو تقف بجواره أو تنسحب لصالحه.. ما كان يؤرقها أن تنتقم، ولم يكن بمقدورها أن تفعل شيئا أكثر من أن تباغت الأمريكيين بقرار الانسحاب فى توقيت قاتل، قبل الاقتراع فى الجولة الرابعة بوقت قصير، فالإكوادور ليس لها صوت فى المجلس التنفيذى، وهيمنتها على الأصوات اللاتينية محدودة للغاية، والدول التى صوتت من أجلها غير ملزمة بأن تصوت فى الاتجاه الذى تريده عند انسحابها. و.. بشكل ما حققت «ايفون» بعض ما أرادت، فقد بدا السفير الأمريكى لدى اليونسكو «كيللون» مذعورا عندما أعلن الخبر، فلم تخطره بشكل مسبق، ولم تنسق معه.
وعلى مرأى من شهود قال السفير الأمريكى آمرا إحدى المقربات منه والمعنية مباشرة بالملف اللاتينى فى انتخابات اليونسكو:«تصرفي»!.
3
فى جو عصبى، الأوراق اختلطت فيه والسيناريوهات المسبقة ارتبكت، لم يكن لأحد أن يعرف الاتجاه الذى يمكن أن يمضى إليه التصويت فى الجولة الرابعة التى أخذت شكل الحسم بين مرشحين اثنين، وتصاعدت بصورة مباغتة فرص «فاروق حسني» فى الحسم، وساندت «إسبانيا» مدعومة من «البرازيل» و«كوبا» و«شيلي» و«فنزويلا» فى خطف أربعة أصوات لاتينية جديدة للمرشح المصرى، من بينها صوت«الأرجنتين»، مكنته من أن يتعادل مع المرشحة البلغارية (29 /29)، وكاد يفعلها ويفوز باليونسكو، لو أنه اخترق صوت إفريقى إضافى واحد، ولكن الفرصة أفلتت، وأتيح وقت جديد لضغوط وصفقات نيويورك أن تحسم الحرب كلها.
4
كانت موقعة اليونسكو قاسية فى شراستها، المفاجآت فيها بلا حصر، والصدمات لا تتوقف، وحقائق السياسة تبدد أوهامًا استقرت لعقود فى طبيعة العلاقات التى توصف بأنها استراتيجية وغير قابلة للكسر بين مصر والولايات المتحدة وأوروبا وبينهما إسرائيل!
بدا أن حلفاء النظام هم أول من يستهترون به، بما يمثل إهانة حقيقية لمصر التاريخية، التى دعت دولا لا يعتد بها نظام الحكم الحالى فى أمريكا اللاتينية أو الشرق الأقصى (الصين ـ الهند ـ ماليزيا ـ باكستان ـ سيرلانكا) للوقوف بجانب المرشح المصرى، بينما عمد الحلفاء، الذين يوصفون بالاستراتيجيين فى الخطاب الرسمى، على التشهير به وإهانته واستخدام كل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة، لإسقاط مرشحه.
5
من حق مصر أن تطل بموضوعية على ما جرى فى حرب اليونسكو، فهناك حقائق سياسية تبدت تتجاوز فى أهميتها الانتخابات ونتائجها المباشرة، أخطرها على الإطلاق ما تأكد أنه انهيار خطير فى الدور المصرى بالقارة الإفريقية، وهو انهيار يفوق فى حجمه أية توقعات وحسابات، فلم تحصد مصر إلا (4) أصوات فى أعلى التقديرات من إجمالى (13) صوتا للكتلة الإفريقية فى المجلس التنفيذى لليونسكو، رغم أن القادة الأفارقة فى أكثر من قمة أصدروا قرارا بدعم المرشح المصرى لليونسكو، لكن مستوى الالتزام بدا منخفضا، وعلى ضفافه بدا الوزن المصرى فى قارتها الإفريقية هزيلا، لا هيبة فيه ولا احترام، وكان ذلك ثمنا فادحاً للاستهتار الطويل والمرير بالقارة الإفريقية، والانسحاب العملى من قضاياها ومعاركها، والتنكر للدور التاريخى فيها، فمصر هى التى قادت أوسع عملية تحرير فى التاريخ للقارة السوداء فى مطلع الستينيات، وكانت قبلة حركات التحرير فيها على عهد الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر» الذى وصفه «نيلسون مانديلا» بأنه «زعيم زعماء إفريقيا»، ولكن تلك أيام خلت، وأحوال تغيرت، فقد انقلبت مصر على أدوارها وأخلت مواقعها الإفريقية المتقدمة للولايات المتحدة وفرنسا، واتبعت السياسات الغربية فى القارة، حتى أصبحت مادة تندر، ومؤشر ما جرى فى اليونسكو ينذر بمصائب أفدح فى ملف «مياه النيل»، وملفات مصيرية أخرى، فلا أحد يأخذنا على محمل الجد أو الاحترام فى القارة المترامية الأطراف.
وبحسب مصادر إفريقية فإن العقيد «معمر القذافي»، الذى دعم حملة فاروق حسنى بصورة كبيرة، انتزع القرار الإفريقى بتأييده دون مشاورات مسبقة، أخذ القرار وانتهى الأمر.. ومرر القادة الأفارقة القرار ولكنهم لم يلتزموا به(!)
والمثير ـ هنا ـ أن «الأغاخان»، الذى تربطه علاقات عمل مشتركة مع دول إفريقية عديدة ممثلة فى المجلس التنفيذى لليونسكو، وصداقة وطيدة مع «حسني»، تحرك على ذات الملف، ولكن يبدو ـ الآن ـ واضحا أن جهود «القذافي» و«أغاخان» لم تسفر عن شيء له قيمة، ببساطة موجعة لأن سياساتنا الإفريقية بلا قيمة.
6
بدا الصوت العربى فى حرب اليونسكو بصورة نسبية أكثر تماسكا، غير أن هذا التماسك جرى عبر مشادات عديدة، وقد كانت هناك ـ فى البداية ـ محاولة من بعض الأطراف الغربية لترشيح الدكتور «غسان سلامة» لرئاسة اليونسكو لتشتيت الأصوات العربية، غير أن لبنان امتنع، كما جرى سحب المرشحة المغربية، وضغطت الجزائر لسحب مرشح جزائرى تقدمت به كمبوديا، وقد حصل على صفر فى الجولات الأربع التى خاضها، ولم يفكر فى الانسحاب، وكانت خشية الرئيس «عبدالعزيز بوتفليقة» من أن يحصل هذا المرشح على صوت واحد فيظن أنه صوت الجزائر.. ووصل التماسك الاستثنائى ـ مع بعض الخروقات من دولة أو اثنتين ـ فى هذه الحرب إلى ذروته بإعلان عدد من الدول البترولية استعدادها لتعويض المنظمة الدولية عن أية حصص تمويل أمريكية قد تسحبها، مقابل أن يتعهد المرشح المصرى بالوقوف بحزم لتنفيذ قرارات اليونسكو الخاصة بالقدس.
فى أجواء حرب اليونسكو تأكد شيء من التاريخ وحقائقه، غلبت الهوية العربية حسابات السياسة، وعندما خسر المرشح المصرى السباق الانتخابى صرخ السفير الليبى باليونسكو بألم شديد: «كسرونا»، لم يكن يتحدث عن «فاروق حسني»، أو الانتخابات بذاتها، أو النظام المصرى والموقف منه، بل عن معنى مختلف.. يتعلق بالهوية والانتماء والوزن التاريخى الخاص لمصر فى الوجدان العربى، بصورة أو أخرى كانت مصر التاريخية حاضرة فى انتخابات اليونسكو، وإلى حد كبير خذلتها مصر الحالية بحساباتها وسياساتها التى يميل الاعتقاد العام فى العالم العربى ـ فى قصور الحكم كما فى الشوارع ـ أنها فقدت دورها ووزنها وهيبتها.
7
فى مشاهد اليونسكو تجلت مفارقات أخرى، فالأصوات اللاتينية والإسلامية والآسيوية التى وقفت بجوار المرشح المصرى لا تحظى بلدانها برعاية النظام الحالى، فالرئيس «مبارك» عهد عنه تجنب المشاركة فى القمم اللاتينية العربية، والإعلام المصرى دأب على السخرية من اليسار اللاتينى، وأصوات دوله كلها ذهبت للمرشح المصرى، البرازيل وكوبا وفنزويلا، بالإضافة إلى شيلى والأرجنتين، وهى دول أغلب قادتها متأثرون بالتجربة الناصرية،
الرئيس الكوبى «رؤول كاسترو» أيد المرشح المصرى بصورة كاملة لا تردد فيها، وأعطى تعليمات مشددة لوزير خارجيته فى حضور «فاروق حسني» بأن يقف معه حتى النهاية، وأن يحاول حشد أصوات لاتينية جديدة لصالحه، وبعبارات لها عمقها الاستراتيجى ذكّر بدور ثورة يوليو فى إلهام التغيير بأمريكا اللاتينية، ولعل الدافع الرئيسى للاصطفاف اللاتينى إلى حد ما وراء المرشح المصرى يعود إلى حرب الولايات المتحدة عليه، الحرب انتقلت ـ عبر مصر ومرشحها ـ بين اليسار اللاتينى والنفوذ الأمريكى إلى أروقة اليونسكو، والفاجعة ـ هنا ـ أن مصر الرسمية تابعة استراتيجيا للسياسة الأمريكية، اليسار اللاتينى يعرف قدر مصر أكثر مما يعرفها بعض المسئولين فيها، البرازيل ـ مثلا ـ حسمت أمرها منذ البداية، وتحركت فى أروقة اليونسكو، ونسقت مع السفيرة المصرية باليونسكو «شادية قناوي» المواقف، حتى بدا أن المرشح المصرى يتلقى تقريرين عن أجواء الكواليس من السفيرين المصرى والبرازيلى على قدم المساواة.
وفى اعتقاد الرئيس البرازيلى «لولو دى سيلفيا» أن العلاقات مع مصر مسألة استراتيجية، تتجاوز انتخابات اليونسكو والوعد المصرى بدعم البرازيل فى انتخابات رئاسة «الفاو» المقبلة، لا يصح التهاون فيها، ولكن لا أحد فى مصر يشاركه ذات الاعتقاد(!)
8
يلفت الانتباه فى قصة ما جرى باليونسكو هذا التزامن بين الحرب على المرشح المصرى بقيادة الولايات المتحدة والفشل الذى انتهت إليه القمة الثلاثية فى نيويورك التى ضمت بجانب الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» رئيس الوزراء الإسرائيلى « بنيامين نتنياهو» ورئيس السلطة الفلسطينية «محمود عباس».
فى اليونسكو بدا القرار الأمريكى حاسما ونهائيا ومنحازا إلى ما تطلبه إسرائيل من إطاحة بالمرشح المصرى المتهم بالعداء للسامية ـ على ما يقولون.
وفى نيويورك بدا الرئيس الأمريكى منحازا إلى الضغوطات الإسرائيلية، التى ترفض ايقاف الاستيطان وتطلب التطبيع العربى مجانا، وبدت أنها سخرية من التاريخ والعرب معا، أن يطلب «أوباما» من القادة العرب اتخاذ خطوات تشجع إسرائيل على دخول عملية التسوية مجددا، وكأن هناك سلاماً، وكأن هناك خطة أمريكية تلتزم الحد الأدنى من القرارات الدولية، لا شيء من ذلك كله، وقبل أن نلوم أمريكا علينا أن نلوم أنفسنا على استهتارنا الطويل بحقوقنا وكرامتنا ورهن إرادتنا للسياسات الأمريكية فى المنطقة.
9
ما جرى فى اليونسكو كان حربا استخدمت فيها كل الوسائل للحيلولة دون صعود «فاروق حسني» لرئاستها، الطلقة الأولى فى الحرب جاءت من برلين، فقد استدعت وزارة الخارجية الألمانية عددا من السفراء العرب وأبلغتهم بصورة رسمية اعتراضها على ترشيح «حسني»، داعية إلى اختيار مرشح آخر، فهو متهم بـ «العداء للسامية» والحض على حرق الكتب اليهودية، وكانت تلك ذريعة ترددت بعد ذلك على نطاق واسع، وألصقت به التهمة إعلاميا، كأنها حقيقة لا تحتمل الجدل أو التشكيك فيها.. ثم جاءت الطلقة الثانية أمريكية بإبلاغ وزير الخارجية المصرى «أحمد أبوالغيط» من السفيرة «مارجريت سكوبي» اعتراض بلادها على هذا الترشيح داعية ـ أيضا ـ إلى تغييره، ولكن الرئيس «مبارك» راهن على موازنة الضغوط الأمريكية والألمانية بمساندة من فرنسا وإيطاليا، والبلدان ـ فعلا ـ أعطيا موافقة مبدئية على ترشيح «حسني»، غير أنهما طلبا ـ رسميا ـ عدم إعلان ذلك، وفى القاهرة.. على عشاء على النيل تعهد نائب رئيس الوزراء الإيطالى ووزير الثقافة على عهد «برودي»، «فرانشيسكو روتللي»، وهو عمدة سابق لروما، بدعم «فاروق حسني».. وهذا التأييد استمر بعد عودة «بيرلسكوني» للحكم، وبدا الأمر مستقرا، حتى ارتبكت الحسابات فى نهاية اللعبة وعند الحسم الأخير.. وكانت الطلقة الثالثة روسية، فقد تعهدت روسيا رسمياً، وفى بيان رسمى صدر من القاهرة بتوقيع سفيرها، بدعم «فاروق حسني» فى انتخابات رئاسة اليونسكو، غير أنها تقدمت بوكيل وزارة خارجيتها، وهو يهودى، والذى حصد فى الجولة الأولى (7) أصوات، ثم اضطر للانسحاب بعد الجولة الثانية بعد انهيار جبهته وحصوله فيها على (3) أصوات فقط، وذهبت أغلب أصوات هذه الجبهة إلى المرشحة البلغارية.
والمثير ـ وسط هذه الارتباكات والانقلابات والصدمات ـ أن اليونان وإسبانيا ثبتا على تأييد «حسني»، رغم أنهما لا يتمتعان بذات الصلات الاستراتيجية والاقتصادية مع نظام مبارك، كأن البعد عنه هو أقرب فى ذات الوقت إلى مصر التاريخية واحترام أوزانها.
10
.. فى حرب اليونسكو اقترن اسم «فاروق حسني» فى التغطيات الصحفية بالعداء للسامية وحرق الكتب، كأنها أوركسترا تعزف نغمة واحدة، ولأول مرة فى تاريخ انتخابات اليونسكو انتقلت معاركها إلى الإعلام وجماعات المثقفين فى أوروبا، وتصدر اللوبى اليهودى المشهد، ولعب دور قائد الأوركسترا، وحاول أن يوحى بأن كلمته نافذة ونهائية، وجرى الضغط على الحكومات الأوروبية المؤيدة لترشيح «فاروق حسني» بصورة منسقة وبلا يأس أو كلل.
فى ذروة تلك الحملات اليهودية اقترحت فرنسا ـ عبر أحد مستشارى «ساركوزي» والسفير الفرنسى فى القاهرة ـ على الوزير المصرى أن يكتب اعتذاراً عما هو منسوب إليه من تصريحات عن حرق الكتب اليهودية، وقيل له إن نشر مثل هذا الاعتذار فى صحيفة «اللوموند» سوف ينهى المسألة، وتفتح أمامه أبواب اليونسكو بلا ممانعة أو اعتراض، وأيد السفير المصرى فى باريس «ناصر كامل» هذا الاقتراح، وكُتب الاعتذار فى القاهرة، وراجعه مستشار «ساركوزي» بنفسه قبل النشر، وبدا الاعتذار بالطريقة التى نُشر بها، والمنبر الذى نُشر فيه، غير موفق.. فقد هز من صورة «فاروق حسني» دون أن يترتب عليه تغيير فى المواقف، ـ والاعتذار بذاته ـ ليس خطأ، فقد أخطأ الوزير فعلاً، ولا يصح أن يصدر عن مثقف مثل هذا الكلام عن حرق الكتب.. وفى الحقيقة لم يكن يقصد المعنى الذى ركزت الحملات اليهودية عليه، ولكنه تعبير مجازى أسيء تأويله، وكان يجب أن يوضح موقفه ـ هنا ـ فى القاهرة أما النشر على النحو الذى جرى به فقد أعطى زخماً للوبى اليهودى وأضفى عليه قوة إضافية، وأغراه على أن يمضى فى لعبة الابتزاز حتى النهاية، وأن نقدم ـ بالمقابل ـ تنازلات أخرى لا ضرورة لها تستحق أن توصف بالمجانية.. فقبل الانتخابات بشهور قليلة دعا الرئيس الفرنسى السابق «جاك شيراك» مع الرئيس السنغالى إلى ندوة فى اليونسكو تحت اسم «علاء الدين» يشمل برنامجها إدانة «العداء للسامية»، ووجهت الدعوة إلى الرئيس «مبارك»، الذى كلف رئيس الحكومة «أحمد نظيف» بتكليف وزير الثقافة «فاروق حسني» برئاسة وفد مصر، وبدا الوزير المصرى متردداً، فهو لا يريد أن يذهب، ويقدر أن ذهابه سوف يحمله اتهامات جديدة، واقترح للخروج من المأزق أن يترأس الوفد وزير الخارجية «أحمد أبوالغيط»، لكن الرئيس أصر، والوزير التزم بتعليماته، ورغم ذلك لم تتوقف الحملة عليه، وكان الهدف هو الحيلولة دون صعود مرشح مصرى عهد عنه أثناء توليه وزارة الثقافة التزام مواقف جماعات المثقفين فى رفض التطبيع. وتبارت الصحف الألمانية والفرنسية فى التشهير به، وجرى البحث فى سجله، وأُلصقت به تهم إضافية، بعضها مشرّف من ناحية المصالح العربية، مثل دوره فى قضية السفينة «اكيلى لاورو»، التى ساعد خلالها من موقعه فى رئاسة المركز الأكاديمى المصرى فى روما فى تهريب فلسطينيين من الملاحقة الأمريكية، وبعضها لا يتحمل وزره مثل فضيحة التحرش الجنسى أمام نقابة الصحفيين بمتظاهرات اعترضن على مهزلة التعديلات الدستورية، ولكنها أوزار النظام الذى ينتسب إليه، وطوال الوقت كان العنوان الرئيسى للحملة عليه: «العداء للسامية»،
وباليقين فإنهم يدركون أن التهمة باطلة، والسبب الجوهرى فى تلك الحملات هو عقابه على التزامه بقرار الجماعة الوطنية والثقافية المصرية برفض التطبيع لأكثر من (22) عاما أمضاها فى وزارة الثقافة، والأهم هو منع عربى مسلم، أيا كان اسمه أو رسمه، من تولى هذا المنصب الثقافى الدولى الرفيع فى توقيت يتزامن مع تهويد القدس بالكامل، فقرارات اليونسكو تتبنى الحفاظ على الإرث التاريخى الإسلامى والمسيحى فى المدينة المقدسة وحماية الآثار فيها، وهو ما قد يتحمس مرشح ينتمى لهذه الثقافة لتنفيذها، أو تعقيد عملية تهويد القدس بممانعات دولية تصدر عن المنظمة الثقافية الأهم فى العالم.
11
القصة بالغة التعقيد، والمحرض الرئيسى فيها هو اللوبيات اليهودية، فقد قررت وخططت وتحركت وحددت أهدافها وميادين المواجهة.ضغطت على الإدارة الأمريكية الجديدة حتى تتبنى ذات موقف إدارة المحافظين الجدد، والإدارة الأمريكية التزمت بما طلب منها، وأرسلت قبل أسابيع من الانتخابات سفيرا لليونسكو عهد عنه العداء للعرب، والالتزام باللوبى اليهودى، وهو من أقطابه، وضغطت على فرنسا وإيطاليا لتمكين البلغارية «انيتا بوكوفا» من الفوز، وقبل ذلك الضغط على النمساوية «بنيتا فيررور» للانسحاب فى توقيت حسب بدقة. وفى اعتقاد فاروق حسنى، بعد تأكيد «اللوموند» التصويت الفرنسى والإيطالى ضده فى جولة الحسم الأخيرة أن تصوت فرنسا على هذا النحو قد استطيع فهمه، فوزير الخارجية الفرنسى «كوشنير» ضدى علنا، وسفيرة فرنسا فى اليونسكو ليست معى، أما أن تصوت إيطاليا فى ذات الاتجاه فهذه مأساة، ويبدو أن تقديره ـ فى هذا الجانب ـ على قدر كبير من الدقة، فإيطاليا نفت على لسان وزير خارجيتها ما ادعته «اللوموند». غير أن التقديرات لم تكن على مثل هذه الدقة فى قراءة المشهد الانتخابى فى اللحظات الحاسمة، فقد كان اعتقاد وزير الخارجية «أحمد أبوالغيط»، وهو يحادث المرشح المصرى من مطار القاهرة قبل أن يتوجه إلى نيويورك، أن المعركة حُسمت لصالحه، وقال له هاتفيا: «أنا أحمد أبوالغيط أقول لك منذ الآن أنت ناجح.. أنت تحتاج لصوت واحد ويمكننا أن نحصل على صوتين». وقد يكون فعلا فاروق حسنى حصل على صوتين، ولكنه خسر بالمقابل أربعة أصوات أخري.
12
لم تكن المفاجأة فى نجاح المرشحة البلغارية، فبلغاريا لم تكن هى الموضوع، والنجاح فاجأ رئيس وزرائها الذى قال:« إن بلادنا صغيرة ولم يكن فى حسباننا أن نفوز»، بل كانت فى إخفاق المرشح المصرى، فقد كانت حظوظه الأوفر.. ومن ناحية إنسانية يشعر «فاروق حسني» ـ الآن ـ بألم شديد، فقد اُنتزع منه اليونسكو بوسائل يرى أنها تفتقد للأمانة والشرف، وفور وصوله إلى القاهرة وجد على بريده الإلكترونى رسالة من تل أبيب: «نحن فى إسرائيل سعداء بسقوطك.. ابق فى بيتك»، وكانت تلك شماتة إسرائيلية رسائلها واضحة، وكان تعليقه عليها: «أنا هنا.. وسوف ابقى لكم بالمرصاد». وهذه من تداعيات ما بعد الحرب فى اليونسكو، ولكن حسابات السياسة فى انتخابات المنظمات الدولية تتجاوز المشاعر الإنسانية، وهى طبيعية ومشروعة، إلى مصالح الدول وحساباتها وتحالفاتها، وهو ما تحتاج مصر أن تراجعه بجدية، لا أن تعتبر الأمر عابراً.. أو «ارمى ورا ضهرك.. وشوف شغلك» ـ على ما قال الرئيس «مبارك» للوزير «فاروق حسني» فور عودته إلى القاهرة، فهذه مساندة إنسانية لا يصح أن تصبح قاعدة سياسة، فما جرى فى حرب اليونسكو كاشف للحقائق، وبعضها مفزع، وبعضها الآخر مهين للبلد ووزنه وتاريخه.
عبدالله السناوي، صحفي وكاتب عربي من مصر
المصدر :
http://www.al-araby.com/docs/article2142182307.html
COMMENTS