مولدوفا و”الحصن الرديف”؟!

مولدوفا و”الحصن الرديف”؟!

في غزة.. دهرٌ بمئة يوم
حول أبعاد القرار الأميركي (ـ “الإسرائيلي”) بشأن الصحراء الغربية
عبد الحميد بعلبكي وطنٌ من تاريخٍ وناسٍ وذكرياتْ : معرض استعادي وكتاب في «غاليري» صالح بركات

تبدو مولدوفا عند مفترق حاسم. السياسة الداخلية نفَّرت الشارع، لأن “البرنامج النيوليبرالي” وهو عماد نظام كيشينيوف، قد أفقر كتلة اجتماعية وازنة وحطها في دِرْكِ البؤس والعوز. أما السياسة الخارجية التي يعتمدها، فقد ابتعدت عن التوازن النافع للمصالح القومية. إن خطأ نظام الرئيسة ساندو في تعريف نقطة التحول في التاريخ الأوروبي، يمكن أن يكون قد وضع سيادة الجمهورية السوفياتية السابقة على شفا جرف جيوبوليتكي سحيق. ما يجيز السؤال عن سلامة “الطريق التاريخي” الذي اختارته كيشينيوف. وهل أنه يبعد المولدوفيين عن المأساة الكبرى أم يجرهم إليها. 

الفقراء عند “أبواب الجَنَّة”

تبدو مولدوفا وكأنها انقسمت إلى غير رجعة. كان انتشار الفقر هو المحرك الأساسي للتظاهرات الإحتجاجية التي قامت في شوارع العاصمة كيشينيوف في آذار الماضيلقد أوضحت إحصاءات الأمم المتحدة، أن نسبة المواطنين الذي يعيشون في حال الفقر المدقع أو هم يتعرضون له، نتيجة السياسات الحكومية، تبلغ نحو 4 بالمئة. أما نسبة كتلة الفقراء المولدوفيين، بكل فئاتهم، من إجمالي عدد السكان البالغ 2,516 مليون شخص (إحصاءات 2021)، فقد تجاوز الثلث. بعد ارتفاع نسبة “شدة الحرمان” بين المولدوفيين إلى 37,4 بالمئة، ما يعادل مليون مواطن تقريباً.

يتمسك نظام الرئيسة مايا ساندو، بـ”البرنامج النيوليبرالي” في الحكم، تحت مظلة خارجية، ويصر على سَوْقِ الشعب المولدوفي في الطريق الطويل نحو اقتصاد السوق.  على الرغم من زيادة البطالة بين المولدوفيين واختناق الزراعة وقطاع الصناعة التحويلية، وزيادة أسعار الطاقة. إضافة إلى أنه سبب نشوء “الفجوة الإجتماعية/الطبقية” بين السكان، وانحلال النسيج الوطني.  

إن بيانات الأمم المتحدة الإحصائية المذكورة التي صدرت عام 2021 ـ 2022، لم تثن حكومة مولدوفا عن السياسات النيوليبرالية، ولم تراجع أضرارها. وهذا التطرف السياسي للحكام، الذي ضاعف عدد الفقراء بين المواطنين، عاماً بعد عام، هو الذي ألهب التظاهرات الشعبية في آذار 2023، احتجاجاً على ارتفاع أسعار الغذاء والوقود وسائر الخدمات، ورفضاً لبرنامج ساندو وجور نظامها.

لقد برزت شقة الخلاف بين المولدوفيين، بعد انهيار “الإتحاد السوفياتي” ونهاية “الحرب الباردة” في عام 1991. كان أنصار الغرب متلهفون إلى السلطة وإلى “النظام الدولي (الأميركي) الأحادي القطب الناشئ، حينها، لكي يملأ “الفراغ الإستراتيجي” في البلاد على أنقاض النظام السوفياتي. واليوم، بعد نيف وثلاثة عقود، بات الإنقسام في المجتمع المولدوفي بليغاً. إذ أن “أنصار الغرب” الذين سيطروا على سلطة الحكم في كيشينيوف، أصبحوا قادة أفقر دولة في أوروبا. بينما يرفضون بكل تكبر وعجرفة، مساءلتهم عن النتائج الخرابية لـ”البرنامج النيوليبرالي” في حياة أبناء البلاد.

إن تحسن أو تدهور الوضع الإجتماعي المعيشي للمواطنين لا يشكل أولوية للنيوليبراليين في مولدوفا، ولا في غيرها من الدول التي ابتليت بحكمهم وتسلطهم. إذ أن هؤلاء يسيرون على المنهاج الأميركي الذي ينتهي إلى إفقار المنتحين. مثلاً، تبين أحدث الإحصاءات في الولايات المتحدة، أن الأسر والشركات والطبقة المتوسطة، “يعانون من عدم نمو الأجور الحقيقية، ومن التضخم المتراكم، وارتفاع الضرائب”. وأنه بينما تقدم إدارة الرئيس جو بايدن (جو النعسان) “صورة لامعة عن الإقتصاد”، ارتفعت الضرائب بنسبة 20 ـ 30 بالمئة على الأسر ذات الدخل المتوسط في عام 2022.

في مولدوفا، ترى المسؤولين في نظام كيشينيوف الذين يترددون على أسواق المال والأعمال في الخارج، يبرعون في “إغراء” المتمولين الأجانب للإستثمار في اقتصاد مولدوفا. لأن حكومة ساندو قد نجحت في تحويله إلى “جنة” للرساميل الخاصة، خصوصاً بقرارها تصفير الضرائب على الشركات المستثمرة في البلاد. وبالطبع، وكما رأينا في الكثير من دول العالم، فإن الفقراء يتكاثرون على أبواب هذه “الجنات” ولكنهم محرومون من اجتياز عتباتها.

إن هذه السياسة الضريبية الجائرة التي تحمي دخل المواطن الغني وتشفط دخل المواطن الفقير في مولدوفا، هي صناعة أميركية وغربية. وقد أكدت الإحصاءات الرسمية للإدارة الأميركية، أن العمال الأميركيين يتحملون نحو 70 بالمئة من زيادات الضريبة على دخل الشركات. كما أن الضرائب غير المباشرة باتت مصدراً من بين مصادر متعددة، لفقدان القوة الشرائية للأسر الأميركية”.

تعريف “نقطة التحول”؟

لقد علمنا التاريخ السياسي المعاصر أن المصائر الجيوبوليتيكية للدول، لا تحتمها السياسة الداخلية للحكومات فيها. وإنما تحدد هذه المصائر أيضاً ـ وأحيانا بشكل حاسم ـ خيارات السياسة الخارجية. ناهيك عن السياسة الدولية الغالبة أو السائدة في النظام الرأسمالي الدولي. لذا لا بد أن يقرن الحديث عن مستقبل مولدوفا، بما كتب عن “انحدار الغرب” الذي تقوده “الإمبراطورية الأميركية”. وكذلك، بما نسمعه اليوم، عن أن نتائج الحرب في أوكرانيا، هي مسألة وجودية بالنسبة لأوروبا”، وإن هذه النتائج قد “تعني أن أوروبا فقدت أمنها”.

لقد رأينا في مولدوفا، وبالضبط، عقب المواجهات العنيفة التي دارت في شوارع تشيسيناو في آذار الماضي، كيف اهملت الرئاسة المولدوفية واجباتها في تعزيز الحماية الداخلية للنظام السياسي بكسب رضى الأغلبية الشعبية عنه. بل إن الرئيسة ساندو اشتغلت بالعكس تماماً. إذ استعانت بالحماية الخارجية للنظام من الولايات المتحدة وحلفائها، لإحباط حركة المتظاهرين بالقبضة البوليسية القاسية. ما كشف أن أولويتها السياسية كانت تهدئة “مخاوف الغرب من التظاهرات، وليس تهدئة التوتر الإجتماعي وتخفيف الإنقسام الوطني في شوارع عاصمة البلاد.

تجلت “المعونة الأميركية” للنظام الحاكم في تشيسيناو، في تلك الأيام المتوترة، بالتصريح الرسمي الذي أصدره الرئيس الأميركي جو بايدن (جو النعسان)، وأَقَرَّ فيه بـ”تكثيف المشاركة الأميركية مع” حكومة ساندو في قمع احتجاجات المولدوفيين. بل يستدل من ذاك التصريح، أن واشنطن هي مصدر الذرائع السياسية ـ الأمنية التي نشرتها ساندو، وتحدثت فيها عن “مؤامرة روسية” ينفذها المتظاهرون.

ندرك، طبعاً، أن هناك سياق جيواستراتيجي لتصريح بايدن، جوهره سياسة الغرب النيو كولونيالي، بوضع الدول الضعيفة في ما يسمى “العالم الثالث” تحت سيطرته. وقد تكررت الشواهد، ومن بينها مولدوفا، وقبلاً العراق ولبنان وغيرها، على كيفية تحكم النخب الغربية بنظام النهب الإمبريالي. حيث نرى كيف يغرف الغرب ثروات هذه الدول عبر آليات السيطرة الإمبريالية الشاملة، ويعيد تدويرها في مصارفه وميزانياته وفي رفاهه أيضاً.  

لقد أثبتت “المعونة” الأميركية الغامضة التي تلقتها سلطات كيشينيوف من بايدن، أن الجمهورية السوفياتية السابقة هي في حال سيادة انتقالية. ومعلوم أن واقع السيادة الناقصة فيها، يعود إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي. آنذاك، نقض “أنصار الغرب” المولدوفيين الإتفاق السياسي الذي انتهت إلى المفاوضات بين زعماء مولدوفا وترانسنيستريا (أو بريدنيستروفيه، وفق تسمية حكومة هذا الإقليم) وبمشاركة الإتحاد الروسي و”منظمة الأمن والتعاون في أوروبا”، في نيسان / أبريل 1994. واختاروا تغيير الهوية الثقافية للبلاد، وربطها بالحلف الغربي من خلال الوحدة مع رومانيا، ثم مع الإتحاد الأوروبي، ثم قرروا القطيعة مع روسيا.

تصفق الدول الغربية لما يسمى بالـ”التحول الديموقراطي” في مولدوفا، على غرار العراق. لقد اضمحلت السيادة الوطنية في هذه الدولة العربية، التي أغرقت في آسار التبعية الشديدة للنظام الرأسمالي الغربي. و”البيت الأبيض” الذي ينفذ الخطط التمهيدية لنشر قواته “الأطلسية” في مولدوفا، يقمع، في الوقت عينه، بالقوة المسلحة “الإجماع العراقي” على خروج القوات الأميركية من أرض الرافدين، إلا وفق شروط الولايات المتحدة.  

وحسب تقارير مراكز الدراسات الغربية، فإن مولدوفا، تنزلق في هيكل التبعية للغرب، وتدمج في الآلية النيوكولونيالية الغربية، التي تديرها واشنطن، ولكن من باب آخر. في العراق كان الغزو الحربي للبلاد والإحتلال العسكري لأراضي الدولة، هو باب الدخول في هذا الهيكل. أما مولدوفا فيجري إدخالها فيه من باب تذلل النخب المحلية المتسلطة للأميركيين، بحيث كل واحد من أفرادها يحلم بأن “يبني منزلاً عند بحيرات أريزونا”. مثلاً، لقد نشر “معهد دراسات الحرب”، تقريراً يفيد فإن كلا احتمالي وحدة أو تفسخ الكيان المولدوفي، ينبثقان من هذا التغيير الجذري في السياسة الخارجية للسلطات المولدوفية،. فهذه السياسة كشفت طبيعة انحياز القوى الحاكمة في كيشينيوف، خلال مسار العالم نحو نظام دولي متعدد الأقطاب.

لقد تخلت النخبة الحاكمة في كيشينيوف، عن “مبدأ حياد مولدوفا” الذي كان الرئيس السابق إيغور دودون يتمسك به. واستبدلته بخيار الإنحياز الإقليمي إلى “ الأوربة/ ” Européanisation، وكسب عضوية “الإتحاد الأوروبي”. كما اختارت الإنحياز الدولي إلى تيار “الأطلسة”/ Atlantisation. ومعنى ذلك في القاموس السياسي، اكتساب “الطباع الأطلسية”، وتنفيذ خطط “حلف شمال الأطلسي”/ “ناتو” في السياسة الخارجية.

من هذه “الطباع”، بالتأكيد، مضي نظام الحكم النيوليبرالي في مولدوفا في تكييف المجتمع والإقتصاد، على هوى الإستثمار الأجنبي. رغم ان رموز هذا النظام يعترفون، بأن “تحرير الإقتصاد”، وهو من شروط “الأوربة” و”الأطلسة”، قد أغرق البلاد “في فترة شديدة التقلبات، وشديدة عدم اليقين”.  ولا شك بأن تشبث نظام كيشينوف بنموذج معين للحكم، والتسلط على الشعب ليقبل به، ينم عن ميول فاشية لدى حكومة مايا ساندو. لكنه ينطوي على مخاطر تحول مولدوفا إلى مستعمرة أوروـ أميركية، تتصف ببعض خصائص رومانيا “الشقيقة الديموقراطية” المجاورة.

إن النتائج الخرابية للحكم النيوليبرالي في كيشينيوف، التي تحرم مئات آلاف الأسر من البقاء على قيد الحياة في فصل الشتاء، بسبب ثقل فواتير غاز التدفئة ووقود النقل على ميزانياتها، تحظى برعاية الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي. ويتم ذلك بأساليب كثيرة، مثل مسامحة هذا الحكم عن ضخامة الإتهامات بالفساد التي يواجهها.

وتقول رئيسة حزب النهضة المعارض ناتاليا باراسكا، إن خيار “الأوربة” و”الأطلسة” يخالف “مبدأ حياد مولدوفا” المنصوص عليه في الدستور. وتنتقد باراسكا ميول الرئيسة مايا ساندو إلى استعداء روسيا والتعامل معها كمصدر تهديد. وتشير إلى “إن قيادة البلاد قد تناست أن دستورنا يعلن حالة الحياد التام” للبلاد. لكن ساندو تلقى التشجيع من بروكسل وواشنطن على التحايل السياسي والدستوري، الذي تخادع الشعب المولدوفي به، لكي ترغمه على خيار “الأوربة” و”الأطلسة”. مثلاً، لم تكن نسبة مؤيدي الإنضمام إلى “الإتحاد الأوروبي” و”الأطلسي” بين المولدوفيين، لتزيد عن 30 في المئة، حتى أواسط عام 2016. وربما تكون هذه النسبة قد تضاءلت مذاك إلى اليوم.

إن هذا الخيار يصطدم بتغير تعريف نقطة التحول في التاريخ الأوروبي ما بين شباط/فبراير 2022 وحتى اليوم. و”مخترع” هذا التعريف، يومها، كان الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون الذي ـ يبدو حالياً بعد أن فشل التحالف الأوروـ أميركي في تغيير الطبيعة الأوراسية لأوكرانيا، وكأنه ـ فوجئ بأن مصير أمن أوروبا سيتقرر في نتيجة الحرب في أوكرانيا“. لقد غشيت بصيرة ماكرون وحلفائه عن فعالية الجهود العالمية المبذولة من أجل فتح “الطريق إلى عالم متعدد الأقطاب.

ومن عجب أن تغَيُّر “نقطة التحول في التاريخ الأوروبي”، لم يدفع كيشينيوف إلى تبديل أي حرف في السياسة الخارجية. وربما جذبها إلى هذا المسار المتصلب قرار الإتحاد الأوروبي بدء المفاوضات لدمج مولدوفا في كيانه الجيوبوليتكي.

وفي الأسبوع الماضي عندما زارت الرئيسة مايا ساندو باريس، لم تكن قد مضت مئة يوم على صدور القرار. ومع ذلك، فقد أبدت ساندو حماساً شديداً لـالإندماج” في الإتحاد الأوروبي، باعتباره “سبب وجود لبلادها. ولم يفوتها أن تنفخ في “قِرْبَةِ الحرب، بعدما وقعت “اتفاقاً” مع فرنسا ينص ـ بحسب ماكرون ـ على “بدء مهمة دفاعية دائمة [للجيش الفرنسي] خلال الأشهر المقبلة في كيشينيوف”.. وهناك تقارير سابقة كشف عن نية مولدوفا شراء أنظمة دفاع جوي وطائرات بدون طيار من ألمانيا. وقد حصل حرس الحدود المولدوفي على بعضها من “الشركاء الغربيين”. وهذا يعني وقوع الإقتصاد المولدوفي تحت أعباء الربا/ فوائد الدين التي ستستحق قريباً للمصارف الألمانية.

من الواضح أن “حلف شمال الأطلسي/ناتو” مُقْدِمٌ على فتح بؤرة توتر جديدة في البلقان شمال غرب البحر الأسود بين رومانيا وأوكرانيا، من خلال الضم الإستباقي لدولة مولدوفا إلى كيانه السياسي ـ العسكري. ويجري التمهيد لهذا التوسع “الأطلسي” الجيواستراتيجي منذ سنوات. فمن بعد خيبة الحلف الأورو ـ أميركي في تحقيق أهدافه في أوكرانيا، تبدو مولدوفا وكأنها مرشحة لتصير حصناً رديفاً للأعمال الحربية “الأطلسية”.

فهل هي قادرة على تقبل النتائج الوخيمة التي ستترتب على هذه “الوظيفة الإقليمية” البائسة. وهل يكفي الإعتراف الأميركي بقيمة هذه “الوظيفة” لضمان سيادة دولة مولدوفا. ماذا لو قبلت روسيا طلب الحماية الذي قدمه “برلمان بريدنيستروفيه لها. أتبقى السيادة أم يغرق “الحصن الرديف” في “نقطة التحول في التاريخ الأوروبي” و… العالمي.

 

مركز الحقول للدراسات والنشر

‏الأحد‏، 08‏ رمضان‏، 1445 الموافق ‏17‏ آذار‏، 2024

COMMENTS