الفرق الموسيقية الجوَّالة في المغرب ظاهرة مجتمعية قديمة، وهي لا تهدف فقط إلى نشر الفرح، والمتعة بين الناس في المدن، بل أيضا إلى نشر مفاهيم صوفية واعتقادية. وتصاحب الموسيقى أشعار في مدح الرسول الكريم وابتهالات دينية، وأدعية وتوسلات إلى الخالق تعالى.
وعادة تأتي هذه الفرق من مناطق البادية بألبستها الملونة، وآلاتها الموسيقية البسيطة، لتطرّق الأبواب، وتُعلن عن حضورها بأصواتها الشجية وموسيقاها. فيرحّبُ بها السكان، وأصحاب المطاعم والمقاهي، كفأل حسن، وتتعطر أسماعهم بذكر الله تعالى ورسوله الكريم.
تنتمي كل مجموعة إلى زاوية صوفية، كالقادرية التي تنقسم إلى نوعين؛ هما البكائية القادرية والقادرية المختارية، وهناك مجموعتان مستقلتان هما العيساوية والكناوية.
واختارت بعض هذه الفرق التي استقر أفرادها في المدن، كأصيلة ومراكش ومكناس، تكوين مجموعات مستقلة من أفراد هذه الفرق الجوَّالة ليستقروا في هذه المدن، كمجموعة أهل أصيلة للمديح والسماع، وفرقة ابن عربي للسماع والإنشاد الصوفي الطنجاوية، وجيل جلالة وناس الغيوان بالدار البيضاء والعيساوية بمكناس.
ولهذه المجموعات لباسها الخاص، وغطاء الرأس المميز، وكذلك أنواع مختلفة من الآلات الموسيقية كالبندير والطعريجة، والدربوكة (آلات تشبه الطبل الشرقي)، والقرقب والكمبري التي تشبه العود.
تأتي المجموعة من الريف مؤلفة من سبعة أفراد يتوزعون على الأحياء، للعزف وغناء الأمداح، لينالوا عطايا السكان، وبعضهم يجيد قراءة الطالع لقاء بعض المال، يقول لك” باقوْا على خاطركم” ــ أي ماتستطيع دفعه ــ وفي نهاية النهار يتجمعون ليقضوا ليلهم في “كراج” أو أي مكان يتيح لهم قضاء الليل فيه.
يقول بوشعيب الدكالي (عازف كمبري، يبلغ من العمر 30 عاما) لـ”العرب” “إنهم أتوا من القنيطرة شمال الرباط، لا ليتسوَّلوا بالموسيقى والأذكار بل لإنقاذ الناس من شرور المدينة”. ويعتقد الدكالي أن الناس في المدينة وسط ازدحام السيارات ينبغي أن يتوسل لهم أحد إلى الخالق تعالى ورسوله الأكرم، لينجوا من الحوادث. بينما يرى محمد عبدالسلام (أحد سكان الرباط، يبلغ من العمر 60 عاما) “أن المسألة أشمل من أن تنحصر في الموسيقى وقراءة الطالع، مشيرا إلى حالة البطالة التي يعيشها بعض سكان القرى، مما يدفعهم للقدوم إلى المدينة للحصول على المال.
ووضح الباحث في الموسيقى عبدالله الشاهد لـ “العرب” دور الفرق الجوالة في الحفاظ على التراث المغربي قائلا “اكتسبت الموسيقى المغربية اسمها (الموسيقى الشعبية) لكونها عكست نبض المجتمع. وسميت بهذا لطابعها الميداني واعتمادها الفضاء المفتوح، والتنقل عبر المدن والأسواق والأحياء. وهنا ظهرت الموسيقى الشعبية الجوالة، المرتبطة بنمطين من الفرق؛ أوّلهما يتعلّق بالقبائل الرحل، خاصة الأمازيغية التي كانت تنقل معها تراثها الشفوي عبر الموسيقى في كل مراحل ونقاط ترحالها. وثانيهما يتعلّق بفرق ذات طابع صوفي ترتبط جولاتها غالبا بالأعياد الدينية، وخاصة المولد النبوي، ومواسم الأولياء الصالحين، ويطغى عليها طابع الوعظ والتذكير بالقيم الدينية والأخلاقية في أدائها الغنائي. ويتنوع الأداء بين الفردي والجماعي، كما أن هذا النمط يجمع بين التقليد والمحاكاة، والارتجال في كثير من الأحيان”.
ويضيف الشاهد “لعل من إيجابيات هذا النمط الديناميكي الذي تعكسه الموسيقى الجوَّالة أنَّه لعب دورا كبيرا في تجانس وتلاقح العديد من الأنماط الموسيقية الشعبية، الأمازيغية منها والعربية. كما أن الموسيقى الجوَّالة كانت سفيرا متنقلا للتعريف بالعادات والتقاليد، وبالتالي كان لها دور ثقافي واجتماعي في تشكيل الهوية المشتركة للمجتمع المغربي”.
وقال أستاذ السيميولوجيا بكلية آداب مراكش محمد آيت الفران “سيكون من السهل على الباحث تعقب منابع الأغنية المغربية والتعرف على مصادرها. ولن يخطئ في فرز عيناتها المختلطة الآن في إيقاعات هذا النوع من الأهازيج أو ذاك.
نعم، لقد استطاعت صور الغناء عند المغاربة استيعاب ترديدات الأمازيغ ونغمات الأفارقة المختلطة بوقع آلاتهم الصاخبة والمرصعة بلفحات الصحاري الحارقة، إلى جانب طبوع الموسيقى في الأندلس وتنهدات المشارقة. ولن يضير الأذن الموسيقية أن تطرب لهذا الاختلاط الجميل.
ولأن الموسيقى والطرب طقس ينكفيء من خلاله الفرد على ذاته، ويناجي عبره علاقته بالوجود والأشياء الدفينة في جسده، فقد دأب المغاربة على ربط أشكال فرجتهم بمخفياتهم في الشعور والدخول في علاقة مع خالقهم. وقد يكون هذا الاستنتاج الأخير هو القنطرَة الواضحة لتفسير كثير من مظاهر الاحتفال عند المغاربة. إن ارتكاسهم، بصورة أو بأخرى، اتجاه تلك الأنواع من الأداء فعل يستجيب عندهم لحالة صوفية مركوزة في لاوعي سكان البلد”.
وأضاف الفران “وقد يتخذ هذا الفعل الشكل المباشر القصدي في الزوايا، وداخل حلقات الذكر، كما أنه قد ينخرط في أنظمة الفرجة التي تكون الساحات العمومية (الحلقة) والشوارع مسرحا لها. ولن يضير أطراف الفرجة أو الاستماع أن يتحول مشتركهم هذا إلى”سلعة” تقدم للبيع والمزايدة في الساحات الكبرى ونقاط تجمع المارة والجوالين ما دامت الموهبة تزكى أصلا بجزية العطاء والتشجيع بكل صوره، إنه شيء ثابت في الثقافات الإنسانية عامة.
إذا استطاعت هذه الألوان في الغناء والموسيقى أن تفصح عن وجه التعدد والتآخي بين الشعوب، فإنها أيضا وحدة البلد وقناته لكل الثقافات المتحركة على أرضه. ربما استطاعت أيضا فنون الغناء والموسيقى هنا أن تؤكد انفتاح البلد كطرف قوي على امتداد الفضاء المتوسطي واتساعه. علينا إذن أن نبحث عن متسعات فنون التطريب عند المغاربة في تلويناتها الأخرى، كما هي بادية عند شعوب أخرى. ألا يمكن اعتبار فن “العيطة”، مثلا، عند المغاربة غصنا في شجرة اختفى جذرها في بقعة متوسطية ما، وتوزعت أوراقها هنا وهناك ليكون المغرب أرض الانصهار الأكبر والتوليفة الأجمل؟”.
فيصل عبد الحسن، صحفي وكاتب عربي من المغرب
جريدة العرب البريطانية، 7 ايار / مايو 2016
المصدر :
http://www.alarab.co.uk/?id=79652