غيرت الحسناء الأوكرانية روكسولانا مسار تاريخ الإمبراطورية العثمانية بعد أن تبوأت مكانة فريدة لم تحظ بها أي امرأة، بدأ ذلك بانتقالها من محظية إلى زوجة أثيرة للسلطان سليمان القانوني.
وصلت روكسولانا، الصبية الحسناء ابنة أحد القساوسة وهي في السادسة عشرة من عمرها إلى اسطنبول عقب اختطافها من قبل تجار الرقيق الأبيض من مدينة “روغاتينا” الواقعة غرب أوكرانيا بعد يوم من حفل زفافها، كما تقول أسطورة شائعة.
ولدت هذه الحسناء واسمها الأصلي أنستاسيا غافيرلوفنا ليسوفسكايا عام 1506، وقيد لها القدر أن تصل إلى “الباب العالي”، وأن تذوق طعم السلطة والمجد، وأن تمسك بصولجان القوة والنفوذ، وأن ترسم أقدار المحيطين بها، بل وأقدار إمبراطورية في قرنها الذهبي.
لمحها في سوق النخاسة في اسطنبول، الصدر الأعظم إبراهيم باشا، وأراد شراءها وتقديمها هدية للسلطان سليمان القانوني الذي حكم بين عامي (1520 – 1566)، إلا أن خاطف روكسولانا رفض بيعها وفضل التقرب من السلطان بإهداءها له.
وهكذا انضمت الحسناء الأوكرانية إلى محظيات البلاط، وبسرعة أصبحت المفضلة لدى السلطان سليمان الثاني المعروف بالقانوني، وبعد بضع سنوات أصبحت زوجته الرسمية الثانية، ولأول مرة يحدث ذلك في تاريخ الإمبراطورية العثمانية التي لم يعتد سلاطينها الاقتران رسميا بالجواري.
ويرى بعض الباحثين أن إهداء روكسولانا للسلطان سليمان القانوني وعدم بيعها كان الحجة التي استغلها السلطان للزواج بها باعتبارها حرة، لم تبع ولم تشتر.
شُغف بها السلطان وهام بها عشقا ومنحها اسم هُرَّم، ويعني الضاحكة، وتوثقت علاقته بها مع الزمن، وهو أمر سعت إليه وفعلت الكثير للمحافظة عليه وترسيخه من خلال تعلمها وإتقانها ثلاث لغات هي التركية والعربية والفارسية، ونظمها الشعر، وإتقانها فنونا أخرى، ما دفع البعض إلى اتهامها همسا بأنها ساحرة، وبأنها سيطرت على وجدان السلطان ونالت حظوته التامة بمساعدة “قوة شيطانية”.
وتُظهر رسائل السلطان سليمان لمحبوبته مدى هيامه بها حيث يقول في إحداها: “نتحد في الخاتمة روحيا وفكريا وخياليا وإراديا وقلبيا وبكل شيء، كل ما عندي ألقيت به إليك وحملت ما بداخلك، آه يا ياحبي الوحيد!”.
وللمفارقة أن هذا العاشق الولهان، هو ذاته السلطان الذي بلغت الإمبراطورية خلال فترة حكمه أوج قوتها، ووصلت إلى أقصى اتساعها، حيث تمكنت جيوشه من السيطرة على جميع أراضي صربيا والقسم الأكبر من هنغاريا وجزيرة رودس، ومعظم مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا باستثناء المغرب.
ولم تكتف روكسولانا بدور دمية البلاط الجميلة، إذ أهلتها ثقافتها الواسعة وذكائها الحاد إلى ما هو أكبر من ذلك، فصارت تستقبل السفراء الأجانب وترد على مراسلات الدول الأجنبية والنبلاء ذوي النفوذ والفنانين، وباتت عمليا شريكة في الحكم.
أنجبت روكسولانا أربعة أبناء هم محمد وبايزيد وسليم وجهانكير وابنة هي هاميرية، وبدأت تستعد لمعركة حياة أو موت مع ضرتها وأبناء ضرتها.
كانت الحسناء الأوكرانية تعرف أن ولي عهد سليمان، كما هو معتاد، الابن البكر مصطفى من زوجته الأولى، كما تعرف أيضا أن إخوة مصطفى الأشقاء وغير الأشقاء مصيرهم الإبادة حين يجلس السلطان الجديد على العرش، ولذلك حزمت أمرها وبدأت حربا سرية لإزاحة المنافسين.
ابتدأت خطتها بتزويج ابنتها الوحيدة من الصدر الأعظم إبراهيم باشا الذي كان له الفضل في وصولها إلى البلاط، وكان أيضا أقرب الناس إلى ولي العهد مصطفى.
بعد أن أنجزت هذه الخطوة، شرعت في تسميم العلاقة بين السلطان سليمان وولي العهد مصطفى، وتمكنت في نهاية المطاف من إقناعه بوجود مؤامرة على حياته يحيكها زوج ابنتهما، الصدر الأعظم وولي العهد وبقية أبنائه من زوجته الأولى، فكان أن تم شنقهم بخيوط من الحرير.
صفا الجو لروكسولانا وصار ابنها سليم، وليا للعهد، إلا أنها لم تسترح ولم يهدأ لها بال حتى أرسلت قتلة لجميع أبناء سليمان الشرعيين وغير الشرعيين، لتتأكد أن لا خطر يهدد نفوذها ومستقبل ولي العهد، بل ويتهمها مؤرخون بأنها أمرت بخنق ابنيها حتى لا يزعج سلطان المستقبل أي منافس محتمل!
وعلى الرغم من أن الحسناء الأوكرانية نجحت في تدبيرها الجهنمي، إلا أنها لم تتمكن من رؤية ابنها على العرش، فقد توفيت قبل السلطان سليمان القانوني بنحو خمس سنوات، كما أن حقبة ابنها سليم الثاني لم تدم طويلا، فقد حمل التاج ثماني سنوات ثم لقي مصرعه بسبب إدمانه على الكحول، ودخل التاريخ تحت اسم “سليم السكير”.
غيرت بذلك روكسولانا بالمحصلة تاريخ الإمبراطورية العثمانية، تأتى لها ذلك بعد أن تكيفت مع حياة البلاط بصورة مثيرة للعجب، بل وفاقت المحيطين بها قسوة وتآمرا ومكرا.
انتزعت من أهلها ومن وطنها لذلك ربما قررت أن لا تعطي القدر أي فرصة أخرى كي يطيح بها مثل ورقة في مهب الريح. حملت صولجان القوة والسلطة ورسمت مصائر المحيطين بها، لكن لم يستطع ابنها أن يضع نهاية سعيدة لمغامراتها ومؤامراتها، سقط بعد مشوار قصير، فيما يشبه سخرية الأقدار من مكر الآيلين إلى زوال.
محمد الطاهر
24 أيار 2016
المصدر :
http://ar.rt.com/ho72