اصطفَّ المخزن الملكي منذ أجواء الحرب العالمية الثانية منتصف أربعينيات القرن الماضي ضمن الحلف الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وثمة شاهدة تاريخية بارزة على هذا التحالف المخزني-الأمريكي تتمثل في مؤتمر آنفا سنة 1943 بالدار البيضاء الذي جمع الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل والملك محمد الخامس لوضع ترتيبات مواجهة الجيش الألماني في شمال إفريقيا، وهو المؤتمر الذي منح التأكيد حينها أن المغرب الذي كان ما يزال مُستعمَرا “الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية في شمال إفريقيا” سيما أن بلدا كبيرا في المنطقة هو الجزائر التحق فيما بعد، بالمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي آنذاك..
ظل الوضع على هذا النحو على مدى العقود العديدة وصولا إلى الوقت الحالي، ليطرأ فجأة ما يناقضه، وبلغ الخلاف بين الحليفين حدَّ اتهام الملك محمد السادس للولايات المتحدة ب”التآمر لتمزيق وحدة المغرب” ولو أنه لم يُسمِّ المتهم بالإسم، بيد أن الإشارة إليه أكثر من واضحة. فماذا حدث وكيف ولماذا.. ليعصف بتحالف بين بلدين قيل أنه بدأ منذ نحو ثلاثة قرون (1776) باعتبار أن المغرب أول بلد اعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن الاستعمار البريطاني؟
الذي حدث ويعرفه الجميع مرتبط بالتطورات الهامة التي يعرفها نزاع الصحراء، إذ وصل الأمر حدَّ كيل الاتهامات من طرف المخزن الملكي للأمين العام للأمم المتحدة ب”عدم الحياد” في تدبير النزاع من خلال حيثيات الزيارة الأخيرة التي قام بها “بان كي مون” للمنطقة. وكان بهذا الصدد ما بات معروفا من تطورات مما لا فائدة من تكراره.
ثمة جزئية مثيرة للانتباه في الحيثيات الجديدة المرتبطة بتطورات ملف نزاع الصحراء، وهي أنه لأول مرة تسفر حكومة الولايات المتحدة الأمريكية عن وجه خلاف سافر مع المخزن الملكي، من خلال تقديم مشروع قرار لمجلس الأمن الذي أُحيل عليه الملف من الأمم المتحدة، يقضي بضرورة إعادة بعثة المينورسو بكامل أفرادها ومهامها في ظرف زمني لا يتعدى ستين يوما، وهو القرار الذي تم تبنيه من مجلس الأمن مع تعديل بجعل المهلة تسعين يوما.
من خلال هذا القرار تبيَّن أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية اتخذت وِجهة أخرى مُناقضة تماما لما درجت عليه سياستها بصدد ملف نزاع الصحراء منذ سنة 1981، تاريخ إحالته على الأمم المتحدة. فلماذا يا تُرى هذا “الانقلاب” الذي “صعق” وفاجأ المخزن الملكي لدرجة التساؤل دون تسمية المقصود لكنه معروف: “ماذا يريدون منا؟” كما جاء في خطاب محمد السادس بقمة الخليج في الرياض؟
ثمة تفسيرات تبدو منطقية لفهم هذا التحول الجذري في الموقف الأمريكي من نزاع الصحراء، منها أنه في نهاية المطاف لا يُمكن، بأي حال من الأحوال، أن تسمح دولة عظمى، المفروض فيها السهر على احترام القانون الدولي ومواثيقه، بضرب عمل منظمة الأمم المتحدة عرض الحائط، سيما حينما يتعلق الأمر بسابقة هي طرد البعثة الأممية لحفظ السلام من منطقة مُتنازع عليها، ناهيك عن إهانة أكبر موظف دولي ممثلا في الأمين العام للأمم المتحدة، لذا لم يكن ثمة بُد من أن تسفر الحكومة الأمريكية عن قرارها الزجري بضرورة الامتثال للقرارات الأممية ثم مجلس الأمن، والتطورات مفتوحة على مفاجآت أخرى عساها أن لا “تصدم” المخزن الملكي النائم في وهم العسل الامبراطوري!
هذه حيثيات وغيرها باتت معروفة، كما أسلفنا، بيد أن هناك غيرها، مما لا يُقال عادة، لكنها هي الأهم والأكثر حسما في مآلات الأمور وتطوراتها، وهذا من طبيعة العمل السياسي والدبلوماسي منذ القِدم. لنحاول إلقاء نظرة عاجلة على هذه الحيثيات “المسكوت عنها” بما يسمح به الحيز..
نعلم أن الانتخابات التشريعية المغربية توجد على بُعد أشهر قليلة (شتنبر 2016) حيث سيتم الحسم في الخريطة البرلمانية وبالتالي الحكومية، وكما هو معروف فإن هذه المحطة توجد محل خلاف بين أطراف عديدة داخلية وخارجية. وفي نهاية المطاف فإن شكل ومضمون الخريطة السياسية المغربية كانا دائما محل “توافق” بين المخزن الملكي وحليفه الأكبر العم سام. لكن التوافق السحري لم يتم بصدد مآلات ما بعد الانتخابات التشريعية القادمة. كيف؟
يكفي تصفُّح بعض الأعداد الأخيرة من مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية التي تُعتبر “خير ناطق” بما يعتمل من تدابير واستراتيجيات في السياسة الخارجية الأمريكية، لنفهم أن الإدارة الأمريكية غير مُقتنعة البتة بطريقة تدبير المشهد السياسي والاقتصادي في المغرب، وتعتبر أن ثمة فرقا بين “الإصلاح الحقيقي والإصلاح المُزيف” وتتداول حديثا عن “عرقلة أداء حكومة حزب العدالة والتنمية” كما عكست ذلك مطبوعات أمريكية مؤثِّرة…
هذه الإشارات السافرة وغيرها مستترة (مما يتم عادة على مستوى اللقاءات بين قادة متعددي المسؤوليات في البلدين) لم تكن كافية ليفهم المخزن الملكي أن العم سام متضايق من مسار الأمور في المغرب.
فبينما نحت أدبيات السياسة الخارجية الأمريكية نحو محاور جديدة من قبيل “الاستئناس” بالتقارير السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية.. واعتمادها كمنطلقات لقراراتها في مختلف الملفات عبر المعمور، ظل المخزن الملكي “رهينة” لسياسته الأمنية التي اعتمدها بقوة منذ تفجيرات تنظيم القاعدة في الحادي عشر من شتنبر 2001، تأسيسا على سياسة جورج بوش الأب ثم الإبن التي جعلت من “الحرب على الإرهاب” حجرها الأساسي، ولأن هذه السياسة المتسمة بتشديد القبضة الحديدية على مختلف جوانب الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية والحقوقية.. تخدم المخزن الملكي نظرا لطبيعة تكوينه التحكُّمي فقد تماهى معها إلى حد الشطط، ألَم يمنح المخزن الملكي أرض المغرب، وتحديدا معتقل “تمارة” السري “لاستضافة” معتقلين على خلفية تفجيرات الحادي عشر من شتنبر استُقدموا من سجن “غوانتانامو” والأسباب لا تخفى على عارف بأساليب المخزن الملكي وأجهزته الأمنية في تعاطيها مع الجانب الحقوقي في قضايا من هذا القبيل خارج كل الاعتبارات والقوانين.
هذه السياسة الأمنية “المتماهية” مع ظرفية أمنية شديدة الوطأة في أمريكا والعالم، جعلت المخزن الملكي يُقوِّي أذرعه الأمنية إلى حدود أخطبوطية رهيبة، لدرجة أنه ثمة حديث عن أجهزة أمنية بلغت من القوة أنها توصف بدول قائمة الذات إلى جانب الدولة الرسمية، لا أحد من الفاعلين في المشهد السياسي يعرف حجم ميزانياتها وكيف تستخلصها، كما أنه لا مراقبة قبلية ولا بعدية على كيفية التصرف فيها.. أجهزة أمنية قوية لدرجة أصبحت تخيف الجميع بما في ذلك الذين زودوها بأسباب القوة، وأعمالها خارج كل مساءلة ومراقبة اللهم ما تقبل هي نفسها “تسريبه” عبر وسائل إعلام منتقاة.
هذه المعطيات لم تكن لتغيب عن عيون الحكومة الأمريكية التي تجاوزت مرحلة “الفوبيا البُوشية” من “حرب الإرهاب” وانتقلت إلى أخرى تمثلت في النظر خلف الصورة التي يمنحها ظاهر الإرهاب، وتتمثل في أسبابه الكامنة، كما تجسدها أنظمة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الديكتاتورية التي تعتبر مشتلا خصبا لاستنبات الإرهاب، ووصل الأمر بهذا الوعي الأمريكي، إلى درجة أن الكونغريس الأمريكي أعد للتصويت على نص اتهام للنظام السعودي باعتباره يتحمل نوعا من المسؤولية في تفجيرات الحادي عشر من شتنبر 2001.
إنه تحول جذري في سياسة بلاد العم سام والغرب عموما، يمكن تلخيصه في هذه العبارة التشبيهية القاسية الساخرة: “إن رأس الثعبان في قاع الغار ولا فائدة من مُداعبة ذيله الظاهر”!
لنقل بسرعة دون خشية الوقوع في مطب الرجم بالغيب، إن الحكومة الأمريكية ليست متفقة مع سياسة المخزن الملكي الذي يريد إثبات كفاءته الأمنية من خلال “كثافة تفكيك الخلايا الإرهابية” (بالمناسبة لقد اختفت أخبار هذه العينة من الأعمال من واجهة الأحداث في المغرب خلال الآونة الأخيرة!) مقابل استمرار حكومة بلاد العم سام في حشد التأييد للمخزن الملكي في مختلف المجالات، ومنها حيثيات تداول نزاع الصحراء في الأمم المتحدة.
“نيكولا دي سانتيس” الذي يشغل منصب مدير الشؤون السياسية والأمنية متخصص في قضايا شمال إفريقيا والشرق الأوسط بحلف “الناتو” قالها صراحة في ندوة عُقدت في الرباط أواخر شهر أبريل الماضي: “الاعتماد على السياسة الأمنية ومكافحة الإرهاب وحدها باعتبارها الضامن الأساسي للاستقرار، لا يجدي نفعا يجب القيام بإصلاحات سياسية واجتماعية ضرورية”..
“الإصلاحات السياسية والاجتماعية الضرورية” كما تراها حكومة العم سام هي أن يرفع المخزن الملكي يديه عن تدبير المشهد السياسي والاقتصادي والأمني.. في المغرب ويترك دستور نونبر 2011 (يُقال إنه وُجد بتدبير أمريكي) يتنزَّل، وترك حكومة بنكيران تسيِّر أوراش الشأن العام دون عرقلة عملها و”فرملته” وترك الخريطة الانتخابية تسفر عن تضاريسها دون “دوباج” انتخابي عبر حزب السلطة “البام”..
المخزن الملكي يرفض هذه الآفكار باعتبارها “إملاءات غايتها جعل المغرب حديقة خلفية” كما قال محمد السادس في خطابه الأخير بقمة الخليج بالرياض، وهو يريد إغلاق قوس حكومة دستور نونبر 2011 ليغدو مُطلق اليد في البلاد والعباد، ظاهرا وباطنا، كما كان الأمر دائما.
إذن؟
سنحول وجهة تحالفنا رأسا نحو المعسكر الشرقي فنيُمِّم شطر “موسكو” فنعرض على “الرفيق” (عند الضرورة) “بوتين” مجالات واسعة للتعاون، ونفعل نفس الشيء مع “الرفاق” (بالمناسبة) في “بيكين”.. هكذا دفعة واحدة.
الجواب على هذا التحالف الأسرع من وقت إنجاز وجبة “هامبورغر” أو ارتشاف جرعة مشروب “الفودكا” أن الجانب الروسي امتنع عن التصويت على مشروع القرار الأمريكي بمجلس الأمن الذي قضى في حق المخزن الملكي بإعادة بعثة الأمم المتحدة بكامل أفرادها ومهامها إلى الصحراء في ظرف محدد. وكأن لسان حال “الرفيق” بوتين يقول بذلك: “هذا جهدي عليك”!
لا يُمكن أبدا، كما لا يستقيم مطلقا في عرف الدبلوماسية الدولية بمختلف أصنافها الكلاسيكية والحديثة، أن يغير حليف حليفا قديما بآخر جديدا بهذه السرعة القياسية، اللهم إن كان ثمة محذور كبير يقف عند الرأس. لنشرح..
روسيا تعتبر الجزائر حليفها الاستراتيجي في منطقة شمال إفريقيا، وتعتبر المغرب الحليف الاستراتيجي المقابل لأمريكا، لذا لا يُمكنها أبدا أن تضر بمصلحة الجزائر لمجرد أن المخزن الملكي غضب “فجأة” من حليفه الأمريكي وحوَّل وجهه نحوها، ثمة اعتبارات كثيرة لا يمكن القفز عليها.
“الرفيق” الروسي الطارىء للمخزن الملكي لا يُمكنه أن يغير سياسته الخارجية لعدة اعتبارات منها أنه عضو دائم في مجلس الأمن، تقع على عاتقه كما أمريكا والصين.. فرض احترام قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، سيما قرارات هذا الأخير، لأنها الضامن لمصالح أقوياء هذا العالم فكيف الأمر إذا تجرَّأ بلد صغير يقبع في أقصى شمال إفريقيا وطرد بعثة أممية تقوم بعملها في نزاع إقليمي؟ إنها سابقة ويجب أن لا تتكرر، وهيبة الأمم المتحدة المعنوية ووراءها “الترتيبات” التنفيذية لأعضائها الأقوياء على المِحك.
المخزن الملكي كعادته سَيَزْوَرُّ بتعاليه التقليدي (الذي أصبح مشكلة حقيقية) عن هذه المعطيات وغيرها مما يتسارع، وسيُواصل نومه في وهم العسل الامبراطوري، معتقدا أنه سينتصر على أعدائه الحقيقيين والمُتخيَّلين، لأن ذلك مكتوب في لوح القدر! وما يزيد الطين بلَّة أن المخزن الملكي الذي لم يستوعب بعدُ ما وقع ويقع، سيمارس سياسة الهروب إلى الأمام غير مُقدِّر النتائج الوخيمة التي يمكن أن تترتب عن ذلك، في عالم بات يشكل خطورة أكثر فأكثر، على الدول الضعيفة التي يسيرها مُرتكبو الأخطاء الفادحة غير المحسوبة العواقب.
مصطفى حيران، كاتب ومحلل سياسي من المغرب
5 أيار/ مايو 2016
المصدر :
http://www.okhbir.com/?p=53559
https://www.facebook.com/mhairane/posts/10208092008892200?pnref=story