دخلت “ثورة الأرز” في لبنان فترة الإحتضار. ليس مهما متى بدأ ذلك، ومتى ينتهي. المهم أن أدوات هذه “الثورة” تتهاوى، رغم الدعم الذي تلقاه أركانها ورموزها من الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن، وأركان إدارته الظلامية. في هذا المقال يعرض سليمان تقي الدين، بعض مظاهر فشل الثورة الملونة في بلاد الأرز و … القندول. القارئ المهتم في الشأن اللبناني يعرف أن مفهوم “الموالاة” يدل على أبطال هذه “الثورة” الخائبة.
تراجعت الموالاة عن الكثير الكثير من شعاراتها السياسية. قبلت ما لم تكن تقبله طيلة السنة الماضية. الشيء الوحيد الذي ما زالت ترفضه هو مبدأ الشراكة. وسيلة الرفض هي الاحتجاج بالقواعد الدستورية. مضمون الرفض مقاومة نفوذ المحور السوري الإيراني. قبلت تعديا الدستور بالطريقة نفسها التي سبق أن رفضتها من قبل. على أي حال هذه قضية فرعية وثانوية. لديها تفسير للدستور سيرتد عليها سلباً فيما بعد. التمسك بالأكثرية العددية النيابية سوف يأخذ البلاد إلى طروحات جديدة يصعب التحكّم بها.
مراجعة “الطائف” هي النتيجة الحتمية لهكذا سلوك. ما يمكن أن تنجلي عنه التسوية السلطوية الآن هو أقل خسائر بما لا يقاس في المستقبل. هشاشة المحور السلطوي ودفاعه عن “امتيازات” وهمية لا يمكن أن تقاس بصلابة الدفاع الماروني السابق عن تلك “الامتيازات” في تجربة الحرب الأهلية.
منطق النظام الطائفي أنه نظام متحرك يخضع لكل تغيير في التوازنات. كلما استجاب النظام للتسويات السياسية كلما كانت حظوظه أقوى في الاستمرار والحد من التحولات الجذرية.
لكن المحور السلطوي لا يقدّم نفسه كذلك مدافعاً عن موقعه فقط. يزعم أنه يقود معركة السيادة والاستقلال. تماماً مثلما كانت “المارونية السياسية” تفعل. عملياً أخذ هذا الفريق البلاد إلى أوسع شكل من التدخلات الخارجية. بل هو عملياً يرتع في سدة الحكم مدعوماً من قوى خارجية ومن “خطوط حمر” رسمتها علناً ومباشرة المرجعيات الدينية. هذا لا يلغي طبعاً كون المعارضة تستند أيضاً إلى دعم خارجي وإلى شرعيات مذهبية. لكن أخطر أسباب الدفاع عن المعادلة القائمة الآن على الفراغ في المؤسسات الدستورية وتعطيلها، هو التبرير القائل إن المعارضة طرف خارجي. إخراج المعارضة نهائياً من موقعها اللبناني وتجريدها من مشروعها السياسي الداخلي ومصالحها الوطنية هما المقدمة الطبيعية لتعطيل الحوار وبالتالي التسوية. وهما الشكل المباشر لتبرير عدم الخوض في تسوية وطنية شاملة معها.
في واقع الأمر الموالاة خسرت مشروعها السياسي الذي استمدت منه زخم تحركها باتجاه السلطة. ما تنادي به الآن صار شيئاً من الماضي. مواجهة الوصاية السورية هي الآن في خطاب المعارضة تقنين وتنظيم العلاقات اللبنانية السورية. إدارتها للبلاد أدت إلى المزيد من الأزمات والمشكلات لا سيما على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وهي فوق ذلك عاجزة ومستسلمة للخروقات والتحديات الأمنية الخطيرة. لقد فشلت في تقديم نموذج مقنع للحكم. هي تتحمّل مسؤولية القرارات الأكثر أهمية التي شلّت المؤسسات الدستورية من رئاسة الجمهورية مروراً بالحكومة إلى تعطيل المجلس الدستوري. أولويات الحكومة كانت دائماً الدفع بالإجراءات الاقتصادية التي هي موضع جدل في البلاد من زيادة المديونية العامة إلى الخصخصة. ليست المعارضة أفضل حالاً بكثير على الصعيد الشعبي، فهي أصلاً لم تطرح برامج وحلولاً على هذا الصعيد. لكن فريق الحكومة هو المسؤول الأول عن إدارة البلاد. خسرت الموالاة الكثير من الدعم الشعبي لمشروعها السياسي. التسوية هي الطريق الوحيد لإنقاذها وإنقاذ نظامها الذي ما يزال يحمي مصالحها الكبرى السياسية والاقتصادية.
الاعتراف بالآخر والشراكة معه هما الآن تضحيات تكتيكية. الذي سينتصر في التسوية هو النظام الطائفي. الخسائر السياسية للفرقاء هي خسائر جزئية. ما يهم اللبنانيين في جمهورهم الأوسع هو منع الفوضى تمهيداً لطرح مطالبهم على المرجعية السياسية الشرعية. هناك فراغ دستوري ولكن ليس هناك أي فراغ في السياسة. إطالة أمد الفراغ يفاقم التظاهرات التفكيكية للدولة. تتقوّى المؤسسات الطائفية وتترسخ سلطتها ومرجعيتها. في مسار كهذا تتزايد صعوبات إعادة بناء الدولة. الكلفة الاقتصادية والاجتماعية للأزمة لا يمكن تعويضها لسنوات طويلة.
لن تكون هذه الطبقة السياسية بمنأى عن المحاسبة. على الأقل من الناحية الأخلاقية صارت هذه الطبقة السياسية موضع استخفاف. قد لا يكون متاحاً الآن انطلاق التحركات المطلبية والاجتماعية فليس هناك جهة يمكن مساءلتها. لكن الأزمات تتراكم ويجري ترحيلها إلى ما بعد التسوية. حجم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية يحتاج إلى كتلة وطنية موحدة النظرة والمصالح لإعادة إعمار الاقتصاد وإيجاد حلول وأجوبة على هذه التحديات. نظام المحاصصة دخل في مأزق دعم وتغذية هذه الطبقة السياسية وجمهورها.
الدعم الخارجي الذي تحظى به هذه السلطة يضعف شرعيتها ويزيد الشكوك والريبة منها. ثمة فريق واسع من اللبنانيين يستهدفه هذا الدعم الخارجي بالإقصاء. لا بديل من تمثيل هذا الفريق لإحياء مؤسسات النظام. ثبت على الأقل أن المعارضة قادرة على تعطيل آلة الحكم. تستطيع الموالاة أن تقبض على بعض المواقع في السلطة لكنها عاجزة عن الحكم وإدارة البلاد. هي نفسها تشكو من مرارة هذه التجربة. القليل من التفكير الواقعي يجب أن يقودها فوراً إلى التسوية. ما زاد عن ذلك هو مكابرة وأوهام. لا يفيد الدعم الأميركي “الملموس” كما صرح مندوب الخارجية ديفيد ولش إلا في زيادة تشوّهات هذه السلطة وفريقها. اللبنانيون منقسمون، اللبنانيون مختلفون، لا حلول من خارج الوفاق بينهم مهما حاولوا الاستعانة بالخارج.
هذه حرب استنزاف سياسية خسائرها لبنانية صافية.
COMMENTS