ضرورة «التفكير شمولياً للفعل محلياً» حسب الشعار المعروف، والأصح التفكير اقليمياً ودولياً لمن يريد التغيير محلياً، تفرض نفسها على كل القوى صاحبة المصلحة بالتغيير السياسي والاجتماعي في المشرق العربي وفي لبنان تحديداً. كانت التسمية السائدة للمنطقة في زمن سابق هي «قوس الأزمات»، وقد اقترح جنرال أميركي في أواخر تسعينات القرن الماضي تسميتها «قوس المجازر»، مستشرفاً الأهوال التي ستتوالى مع بداية الألفية الثانية والحرب على الارهاب ومشروع اعادة صياغة الشرق الأوسط.
فشل حروب العدوان الأميركية السابقة وأكلافها المرتفعة من جهة، والتطور النوعي للقدرات العسكرية لأطراف محور المقاومة من جهة أخرى، دفع الولايات المتحدة للجوء الى نمط جديد من الحرب، الحرب الهجينة، التي تستخدم فيها أدوات عسكرية وغير عسكرية، وبينها الضغوط الاقتصادية وحملات الدعاية والتحريض وزعزعة الاستقرار وتأجيج الانقسامات الداخلية ضد الخصوم والأعداء. الاقليم اليوم هو، بمجمله، ساحة لهذه الحرب الهجينة القابلة للانزلاق في ظروف معينة نحو مواجهات عسكرية مباشرة ومفتوحة، مما حدا بروبيرت مالي، مدير مجموعة الأزمات الدولية وعضو مجلس الأمن القومي الأسبق في عهد بيل كلينتون، في مقاله في العدد الأخير من «فورين أفيرز»، الى اعتبار الشرق الأوسط «أكثر قابلية للاشتعال من أي مرحلة سابقة».
ويشير مالي الى أن كل سياسة محلية في الشرق الوسط هي دولية، بمعنى أنها تتضمن دائماً أبعاداً دولية، على عكس التعريف الذي كان قد قدمه الناطق الأسبق للكونغرس الأميركي تيب أونيل، والذي يرى أن كل سياسة في الولايات المتحدة، بما فيها تلك الخارجية، هي سياسة محلية، أي أن الحسابات والاعتبارات المحلية لها تأثير حاسم عند صياغتها. المحاولات الأميركية العلنية لتوظيف الحراكين الشعبيين في لبنان والعراق، والتطورات التي وقعت في ايران بذريعة الاحتجاج على رفع سعر الوقود، في معركتها مع محور المقاومة وأطرافه، تظهر مدى سرعة تدويل حدث محلي في الأصل، ومساعي استغلاله بمعزل عما تريده قطاعات وازنة من المشاركين في صنعه. وفي لبنان، فان نجاح أو فشل محاولات التوظيف الأميركية، وبالتالي حرف الحراك عن أهدافه الأصلية، ترتبط بطبيعة الخيارات السياسية التي سترجح بين المحتجين.
المآل المؤكد لأي حراك شعبي واسع كذلك الحاصل في لبنان، والناجم عن أزمة عامة لنظام، هو أن يشهد عملية فرز بين خيارات سياسية واجتماعية مختلفة. فالمرحلة الأولى التي تبرز فيها الوحدة في رفض الواقع القائم غالباً ما تتبعها مرحلة تالية تظهر فيها «عروض سياسية» متباينة، وأحياناً متناقضة، تلخّص رؤى الأطراف المتعددة المشاركة في الحراك للتغيير المنشود. ويعبّر هذا التباين عن اختلاف مصالح وتطلعات الفئات والكتل الاجتماعية المشاركة فيه.
واذا كان الفرز يحصل حتى في بلدان لديها بيئة اقليمية مستقرة، كيف ستكون الحال عند تضافر العوامل الداخلية المشجعة عليه مع العوامل الخارجية في بيئة اقليمية ملتهبة؟ المواقف الأميركية الصادرة عن مسؤولين حاليين، كوزير الخارجية مايك بومبيو، والسفير الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان تندرج في اطار مسعى واضح لاستغلال الحراك وحرفه عن مساره وربطه بالأجندة الأميركية. يراهن هؤلاء على أطراف حزبية أو «غير حكومية»، مشاركة في الحراك، ولديها «قابلية للتوظيف». لن تمنع شعارات من نوع «جميعنا قادة» أو «الشعب هو القائد» أطرافاً سياسية منظمة متحالفة مع وسائل اعلام اساسية، ولديها امكانيات مادية كبيرة، وتحظى بدعم أميركي وغربي وخليجي، من التحول الى قطب وازن يدفع الحراك نحو الوجهة التي يريد.
أغلبية واضحة نزلت الى الشوارع والساحات مدفوعة بغضب عارم مما آلت اليه اوضاع البلاد وبرغبة صادقة بالتغيير. لكن غياب الاطار الذي يعبر عن مصالحها وتطلعاتها يسهل مهمة من يعمل للسطو على الحراك. تشكيل مثل هذا الاطار بات اليوم مهمة عاجلة وحيوية لجميع القوى الحريصة على تحقيق الأهداف الحقيقية للحراك والمدركة استحالة الفصل بين قضية التغيير السياسي والاجتماعي الداخلي والحفاظ على قدرة الردع التي توفرها المقاومة في مواجهة اسرائيل. المطلوب اليوم هو العمل على بناء قيادة وطنية للحراك، وبسرعة.
وليد شرارة، كاتب ومفكر عربي من لبنان
الجمعة، 22 تشرين الثاني/ نوفمبر، 2019