قضايا "الثورة اللبنانية" : "الحذر من التحول نحو العنف" …!

قضايا "الثورة اللبنانية" : "الحذر من التحول نحو العنف" …!

الذكاء الاصطناعي وضرورة مراعاة التوجه الإنساني
مجازر أميركا ضد المدنيين : سوريا تدعو مجلس الأمن إلى إدانة “التحالف الدولي” و”حله”
التكنولوجيا وحرية الفرد : يراقبون نشاطك في الفضاء السبراني عبر بطارية الهاتف؟!

لا يمكن إعطاء توصيف حقيقي لما يدور حالياً في لبنان، حين يصبح التعامل الرئاسي والحكومي مع أيّ ملف وكأن لا سلطة مركزية ولا حكومة، بل كانتونات موصوفة. ما حصل في طريقة معالجة انتشار فيروس كورونا، مثله تماماً ما حصل في التعاطي بملف النفط واستخراج الغاز، وقبله أيضاً ملفّ الاتصالات، والهالة المرفوعة فوق حاكم مصرف لبنان والمصارف وطيران الشرق الأوسط. منذ ما بعد 2005، وقبلها مرحلة التسعينيات، بكل زواريبها ومحاصصاتها، تعاملت القوى السياسية المشاركة في الحكومات على أن وزاراتها ليست مجرد حقائب سيادية أو خدماتية و«مزاريب ذهب» وحسب، بل هي النموذج العملي لـ«فكر وتخطيط» هذا الحزب أو ذاك، في أسلوب معالجته ملفاً ما وفرض رؤيته على الآخرين، لتتحوّل كل وزارة كياناً حزبياً قائماً بذاته. ولم يكن مجلس الوزراء سوى الغطاء الدستوري لممارسات هذه القوى على اختلافها.
ما حققته الانتفاضة الشعبية في بداياتها أنها هزّت الطبقة الحاكمة هزّة عنيفة وأصابتها إصابات مباشرة في أكثر من مكان، وضغطت من أجل إخراج الوزارات من هذا المنطق الحزبي، في حين تعشّش الأحزاب في إدارات الدولة ومؤسساتها. لكن هذه الانتفاضة التي بدأت تعاني تغيّرات جذريّة في أسلوب تحرّكها ونشاطها، تعيش تحدّياً هي الأخرى، يكمن في أن استثمار ما حققته لم يعد على الوتيرة نفسها. هناك نوعان من المجموعات الأساسية للمنتفضين، واحد كان يعدّ نفسه للحلول محل القوى السياسية المشاركة في السلطة ويدرس إيقاع الحركة الشعبية وعناوينها للتقدم منها الى مكان آخر، وهذا الفريق منكفئ حالياً. والفريق الآخر لا يزال يفتش عن آليات التظاهر والعمل الشعبي وتحديد عناوين الضغط، رغم كل المعوّقات والتراجع في وضع خريطة تحرّك لإعادة ضخّ الدم في شرايين الانتفاضة.
على أهمية ما حققته مجموعات شبابية في تحركها ضد المصارف، وفي مقابل مآخذ تسجل على أداء بعض المجموعات وعدم شمولية تحركاتها، تبرز نقطة مركزية في أن عناوين الانتفاضة في وجهها العام لا تزال الى حد كبير تحترم الإطار العام للنظام السياسي الحالي، على عكس ما تفعله السلطة إياها ضمن هذا النظام. رغم كل العثرات والتراخي وتراجع الحركة الشعبية، إلا أن مطالبها ترجمت عناوين من داخل النظام الحالي: إسقاط الحكومة، تأليف حكومة اختصاصيين، إجراء انتخابات نيابية مبكرة… كل هذه العناوين لم تخرج عن إطار دستوري لتحسين صورة النظام لا تبديله. وفي هذه النقطة إيجابيات تكمن في أي مغامرة من هذا النوع، كان يمكن أن تقلب الوضع الى اتجاهات ميدانية سيئة.
في المقابل، ماذا فعلت السلطة؟ قد تكون ردة الفعل على فحوى خطاب رئيس الجمهورية ميشال عون في إعلانه مباشرة التنقيب عن النفط، في بلد منشغل بانتشار فيروس كورونا، وغيره من الأمراض، فيه، وفقدان مواد طبية، وعدم حصول المودعين على أموالهم، هي تتمة لردة الفعل التي بدأت في 17 تشرين الأول على أداء السلطة والقوى السياسية وليس حكومة الرئيس سعد الحريري وحدها. وهي ردة الفعل نفسها على أداء السلطة مجتمعة في مواجهة انتشار المرض وإجراءات المطار والسلامة العامة، واستمرار الغموض حول موقف السلطة الحقيقي والقوى السياسية المنضوية تحتها، تجاه أداء المصارف وعدم المسّ بحاكم مصرف لبنان. وبقدر ما هي ردة الفعل الشعبية ذاتها، يبدو أداء السلطة نفسه أيضاً، وإن تغيّرت الوجوه. لأن هذه السلطة بدت كأنها ربحت الوقت في تعاملها مع المنتفضين، واستعادت حيويتها في ممارسة سياساتها التقليدية، من دون الالتفات الى أي متغيّرات داخليّة، حتى تبدو ورش اجتماعات الحكومة والمجلس النيابي واللجان، وممارسات الأحزاب وخطابها السياسي وكأن صفحة الانتفاضة طويت الى غير رجعة. لم يسبق أن حصل هذا الكمّ من الانتقادات العلنية والتحركات الشعبية ضد هذه القوى السياسية والمصرفية، كما يحصل حالياً، لكن الثغرة التي تستفيد منها حالياً: تراجع حركة المحتجّين، وتبدّل أداء منتفضين وتغيّر عناوين احتجاجهم، وعدم شمولية تحرّكهم مواضيع حساسة يفترض استهدافها، وحصر اعتراضهم الحالي بالمصارف، وإبقاء محاولتهم التغيير من قلب النظام.
وهذا أمر يريح القوى السياسية كافة، كما القوى الأمنية، لأن مجموعات المنتفضين حافظت رغم الممارسات السيئة لهذه القوى من جيش وقوى أمن، على اعتبار هذه القوى خطاً أحمر لا يجوز التعرّض له.
إلا أن الضغط المتمادي للسلطة والفوقية وانتهاج المنهاج نفسه، ما قبل 17 تشرين الأول، وعدم الاكتراث لمئات المآسي الاجتماعية والصحية، يثير خشية متداولة عن نوع آخر من الانفجار ولتحركات وردود فعل، قد لا تبقى محصورة باحترام النظام. الأكيد أن الخشية الأمنية التي جرى الحديث عنها سابقاً لا تزال قائمة، لكنها تضاعفت بسبب الاحتقان من ممارسات الأسابيع والأيام الأخيرة، وضغط الأشهر الخمسة من الاحتجاجات. ما يصبّ في اتجاه عناوين وأطر لن تبقى طويلاً تحت سقف النظام وديمومته. وهذا في حدّ ذاته يدعو إلى الحذر من التحوّل نحو العنف، والضغط في اتجاه عناوين أخرى أكثر حساسية. لأن السلطة السياسية تتصرّف كأنها تجاوزت منطقة الخطر وعادت الى مربعها الآمن، كما تظهر ممارسات الأيام الأخيرة والتعابير المستخدمة والاستفزازات الكلامية والقضائية. وهنا مكمن التخوف، لأن الوقت الذي تراهن عليه السلطة قد يكون أيضاً عاملاً في مضاعفة نقمة الناس، بعد إضافة عناوين جديدة على الاعتراضات الشعبية. قد يكون المنسّق الخاص للأمم المتحدة يان كوفيتش عبّر تماماً عن حالة الارتقاب من تحوّل الوضع المصرفي والسياسي الى حالة خطرة، في تحذيره من «التظاهرات الشعبوية أمام المصارف». لأن هذه الحالة تماماً نموذج أثبت فاعليّته في المسّ بأحد أعمدة السلطة والنظام.

هيام القصيفي
الأخبار، الجمعة 28 شباط 2020

Please follow and like us: