خطٌّ بياني واحد يربط بين الهبّة الغربية الشاملة لنصرة “أخوة” من أصحاب “السحنة البيضاء، والشعر الأشقر، والعيون الملوّنة”، وبين ملاحقة و”اصطياد” المتسلّلين السمر، أي المواطنين الأفارقة الذين شاء حظهم السيّئ أن يأتوا إلى أوكرانيا للدراسة أو العمل، ويحاولون الهرب من الحرب عبر حدودها مع بولندا. لن يحجب التشدّق بالخطاب الأجوف عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، الطبيعة الغريزية – العرقية للتعبئة العامة الغربية للتضامن مع أوكرانيا، وآخر تمظهراتها قرار دولة كسويسرا الخروج عن “حيادها التاريخي”، وفرض عقوبات على روسيا، وشروع أخرى، “مسالمة” تقليدياً، كفنلندا والسويد، بإرسال أسلحة إليها. الغرب
الأوروبي – الأميركي يرى في أوكرانيا خطّ الدفاع الأول عن حضارته البيضاء ضدّ التهديد المتمثّل في عودة روسيا القوية إلى الساحة الدولية، وذلك المتأتّي عن موجات هجرة ولجوء الملوّنين. عندما تنحدر القوى الإمبريالية، كثيراً ما تتحوّل إلى وحوش كاسرة، فتضرب مزاعمها عن “الإنسانية الواحدة” و”القرية العالمية” و”المجتمع المفتوح” بعرض الحائط، وتستنفر الانتماءات العضوية داخلياً، وتشنّ الحروب مباشرة أو بالوكالة خارجياً، لمحاولة وقف هذا الانحدار. مَن هيمن خمسة قرون على العالم، لن يسلّم ببساطة بضمور نفوذه وبتراجع قدرته على السيطرة.
كشف صامويل هانتغتون، في مقالته الشهيرة عن صدام الحضارات، في عام 1993، المنطق العميق الذي يحكم نظرة النُخب الغربية الحاكمة للتحوّلات البنيوية الطويلة الأمد، التي يشهدها العالم في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية والثقافية، وكان بين أبرز نتائجها وأخطرها، صعود “الآخرين” غير الغربيين. وبمعزل عن التفسير الذي قدّمه لحتمية الصدام بينهم وبين الغربيين، وسببه الأول بنظره هو التناقض الثقافي والحضاري، لا التنازع بين القوى على الهيمنة والنفوذ، فإن الخطّ الفاصل الذي رسمه بين مَن ينتمي إلى دائرة الحضارة الغربية، ومَن سيبقى بالضرورة خارجها، مهما فعل للانضمام إليها، أثبتت الأيام صحّته.
فبعد حوالى ثلاثة عقود على كتابة هذه المقالة، أظهر التعامل الغربي مع روسيا، التي كانت طامحة للانضمام إلى النادي الغربي منذ أيام بطرس الأكبر، وكذلك مع تركيا، الأطلسية ولكن التي لم تحظَ بشرف عضوية الاتحاد الأوروبي، أن أبواب هذا النادي ستبقى موصدة في وجه القادمين من خارج “الديار”. لم تسعَ الصين إلى الانضمام إلى هذا النادي، لكنها اعتقدت أن ديناميات العولمة الرأسمالية، وما نجم عنها من تداخُل هائل في المصالح الاقتصادية، سيُترجم قبولاً منه بصعودها السلمي، وشراكة معها في إدارة شؤون العالم، غير أن آمالها خابت مع تصنيفها تحدّياً رئيساً من قِبَل رئيس أميركي “منفتح ومستنير” كباراك أوباما.
لم تفضِ العولمة إلى ترسيخ الهيمنة الغربية، كما كان يَفترض منظّروها، ونجح آخرون، وفي مقدّمتهم الصين، في توظيفها لصالحهم، وأضحوا منافسين من الدرجة الأولى على الأسواق والريادة التكنولوجية.
ومع اتجاه الغرب المتزايد إلى استخدام القوة العسكرية للحفاظ على سيطرته، وسعيه لاحتواء وتطويق المنافسين الجدد، دُفع هؤلاء دفعاً إلى اعتماد خيار المواجهة، وكان كرهاً لهم، وإلى التحالف مع بعضهم البعض. احتدام هذه المواجهة حدا بالنخب الغربية الحاكمة، من أمثال جو بايدن وإدارته، أو إيمانويل ماكرون وفريقه، التي تعاني هبوطاً حادّاً في معدّلات شعبيتها نتيجة لفشلها في تحقيق الحدّ الأدنى من وعودها الانتخابية، خصوصاً تلك المتعلّقة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلدانها، إلى البحث عن شرعية تعويضية لا يوفّرها سوى اختراع عدو خارجي و/أو داخلي. البحث عن شرعية تعويضية، بحسب الأيديولوجية الليبرالية المغفّلة، هو خاصية تنفرد بها الأنظمة الشمولية الفاقدة للشرعية الديموقراطية، على عكس الرأسماليات البرلمانية التي تتمتّع بها.
بطبيعة الحال، لا تصمد مثل هذه السرديات أمام وقائع من نوع عزوف قطاعات عريضة، وآخذة في الاتّساع مع الزمن، عن المشاركة في العمليات الانتخابية في الديموقراطيات العتيدة، أو السقوط المريع لمعدّلات شعبية رؤسائها المنتخبين، بعد فترة وجيزة من وصولهم إلى السلطة. هؤلاء المقاولون السياسيون، الذين تجمعهم صلات عضوية بعالم المال والأعمال، لا همّ لهم سوى البقاء في مواقعهم وتأمين شروط إعادة انتخابهم. هم يحتاجون لذلك إلى شرعية تعويضية قد يوفّرها ادّعاؤهم التصدّي لعدو داخلي أو خارجي. قبل الأزمة الأوكرانية، اعتقد ماكرون أنه وجد ضالّته يوم أعلن الحرب على “الانفصالية الإسلامية” في الأحياء الفقيرة في الضواحي الفرنسية، لأن مجموعات سلفية مجهرية تنشط في بعضها، مثيراً سخرية عدد كبير من الخبراء الجدّيين في قضايا الهجرة والإسلام في فرنسا. أمّا بايدن، فهو لم يكتفِ بتبنّي خطاب دونالد ترامب التهويلي بشأن الخطر الصيني، بل وصف نظيره الروسي، في خرق واضح للأعراف الديبلوماسية، بالقاتل.
النُخب الغربية الحاكمة المتهاوية الشعبية، تحتاج إلى شرعية تعويضية، وهي مقتنعة بأن ظهورها بمظهر المدافع عن ثغور الحضارة البيضاء، وعن الذين “يشبهوننا”، سيُكسبها إياها. وهي مدركة أن ما سيساعد على توحيد جبهتها الداخلية وتعبئة رأيها العام، ليس التكرار الممجوج لشعارات خطاب العولمة فاقد الصلاحية والصدقية، بل مجاراة، واستعارة مفردات ومقولات تيّارات الهوية المتنامية في الولايات المتحدة وأوروبا. ومع استعار الأزمات الدولية، والحرب الأوكرانية أوّل الغيث، سيرتدّ الغرب أكثر فأكثر إلى سياسة تتأسّس على لون البشرة والشعر والعيون، لا على القيم “الكونية”. لم تَعُد النخب الديموقراطية ترى ضيراً في وجود آلاف من قطعان النازيين الجدد ضمن كتيبة آزوف، في طليعة القوات الأوكرانية على خطّ النار في مقابل القوات الروسية.
وليد شرارة، صحفي وكاتب ومفكر عربي من لبنان
الخميس 3 آذار 2022