واجهتني اشكالية اثناء مطالعتي كتاب “أولاد الغيتو” للكاتب الياس خوري. “مكانة” الكاتب من جهة، وتناقض الآراء حوله، اضافة الى من يعتبره في مصاف الكتاب “العالميين”. يصبح القارئ هنا امام ضغط مسبق من السؤال : هل لمكانة الكاتب درع حماية؟. بل هل لموقفه وموقعه ما يؤمن له هذا الدرع؟. والسؤال الاهم والمشروع : لماذا الادب بكل اشكاله، ما هي وظيفته، رسالته، اين حدود ومسؤولية الكاتب في عكس الواقع، في ايراد المتخيل وفي جنوح الذات؟.
“أولاد الغيتو” ليس رواية بالمعنى العام. اغرقنا الكاتب في حوالي مئتي صفحة ـ بما يمكن اعتباره ـ من المقدمة. حيث أخذنا الى تجربة الصمت. يذكر احد الشعراء (وضاح اليمن) الذي آثر الموت في الصندوق الخشبي الذي اختبأ به، رفضا وانقاذا لحبيبته. اراد الكاتب تيمة الصمت هذه مدخلاً ـ وكان طويلا جدا ـ للمقارنة مع ما رافق تجربة الشعب الفلسطيني في نكبة 48 من معاناة، ومنها “غيتو اللد”. هنا يسعى الى كشف ما حصل ويركض وراء من عايش التجربة ليستقي منه الحقائق حول ما حصل.
بهذه الحدود .. هل تجوز مقارنة صمت شاعر مع صمت شعب، اذا سلمنا انه صمت!. محور الرواية كان تجربة “غيتو اللد” وهي واقعة حصلت بالفعل، لمّا جمع الإحتلال الصهيوني من بقي من الفلسطينيين في احد احياء اللد وسيج الحي بكامله وترك هؤلاء ليموتوا جوعاً وقهراً، ثم الى ما يفوق كل المجازر الانسانية بشاعة وحقدا.
الحبكة السردية كانت مقتطفات من سير، وذكريات وواقع حالي، الراوي يعيش في نيويورك وهو ضائع. بين كونه فلسطينياً او يهودياً. هذا الضياع الذي اصطنعه الكاتب ليس صدفة. لكن ذلك لم يسعفه في ايصالنا الى برّ مقاصده. سرديته شيء من تأريخ وشيء من تركيب وشيء من تمنٍ. حتى بالمستوى الاعتيادي للسرد لم يفلح الكاتب. في عشرات من الصفحات واللقاءات العابرة مع اشخاص عايشوا تلك المرحلة، عرض قصصاً ومرويات لا رابط بينها. وحده “مراد” اعطى بعضاً مما عايش. هو الوحيد الذي قدم لنا وبصفحات قليلة صوراً عن تلك الايام. الرواية الحقيقية هنا وهنا نجد امكانية تركيب كل الرواية عليها بدل اضاعتنا في متاهات غير مفهومة.
كان كثير التنقل بين الازمنة وخلطها، بين المتخيل والمروي، ابقانا اسرى القطع مع الشخص او الحدث. سرده لم يقدر أن يشفي غليل ما اشتكى منه : ان ادبنا لم يشر الى الحادثة والحوادث المماثلة، وأنها لم تعط مكانتها في ادبنا ورواياتنا وشعرنا … هكذا يقول الكاتب. لكن هل الحقيقة تكمن في ما يقول؟
اخذتنا مروحة الحبكة الواسعة الى فضاء، لم يستطع الكاتب فيه ان يمسك بتلابيبب كل خيوطها. عكس ذلك تخبطاً اظنه ليس في الكتابة فقط، بل اسمح لنفسي بالقول انه نتاج ما يعايشه الكاتب نفسه. يحور ويدور ويبقى غارقا في احلامه وكوابيسه. لم نستطع التقاط نقطة يمكننا بها أو منها مرافقته في سرده. السياق اراده حكواتياً بشيء من ذكريات ومن شواهد وحاضر وما بينهما، ونحن القرّاء دفعنا الثمن.
الى ذلك، لا يمكننا المرور على بعض ما طرح في سياق الرواية . يقول ” اكتشفت مع العمر والتجربة ان الثائر هو انسان يائس وان اليأس هو انبل المشاعر لأنه يحررنا من الاوهام “، 293. ما خلفية هذا الراي، أيجوز التعميم هكذا والى هذا الحد. كيف يمكن اذاً قراءة كل تاريخ الثورات والثائرين ومنهم الشعب الفلسطيني.
يرد في الرواية ايضا ان الفلسطيني هو ضحية الضحية. اليهودي في اوروبا واميركا هو ضحية ربما. اما في فلسطين فهو بلا تردد جلاد وقاتل ومغتصب ونقطة على السطر. كأني بهذا الكاتب يقدم بـ”أولاد الغيتو” صك براءة من جهة، وصك اعتماد لطموح ذاتي مفتوح، من جهة اخرى، على “افكار نوبلية”.
يقول الكاتب في مقابلة له مع صحيفة الاخبار اللبنانية : “مهنة الادب اكثر مهنة مخادعة “، وفي “اولاد الغيتو يقول : “وحدتي كتابتي وستكون عنواني الوحيد”، 23. وفي مكان آخر يضيف “الجمال هو مقياس الصدق الادبي لا الحقيقة”، 174. من هذا كله نسال ما هي رسالته الادبية التي يريدها لنا؟ هل يمكن لأحد شرح حقيقة موقف الياس خوري من الادب؟.
بعض من اثنى على هذا العمل، خلط بين الموقف الادبي والمغزى السياسي والدفاع المسبق عن قضية عادلة ومحقة. بينما ارى ان العمل افتقر الى الروح الادبية السردية، وأنها كانت غائبة وراء ذات، تبحث لها عن مكانة، على حساب القضية وعلى حساب القارئ وايضا!.
علي طحطح، شاعر وكاتب عربي من لبنان
أول كانون الأول/ ديسمبر 2016