قيل إن شر البلاء ما يضحك.. ولكن هذه المرة يبكى أسفا على جهل بعضنا بتاريخنا ويريدون أن نحول بعض رموز الجرائم الاستعمارية إلى أبطال حتى لو كانت كتب التاريخ الذى ندرسه لأبنائنا تتهمهم بالخيانة إلا إذا كانوا يريدون منا أن نزيف التاريخ ووعى الأجيال.. وتمثل قصة حفر قناة السويس ومحاولات إعادة تمثال ديلسبس إلى مدخلها واحدة من أعجبها فلم يكن ديلسبس مهندسا ولكن موظفا بالقنصلية الفرنسية فى مصر واستغل صلاته القديمة بالخديو سعيد ليعيد عرض فكرة حفر القناة التى تعود إلى أجدادنا من قدماء المصريين وأراد أن يخدم بحفرها مصالح بلاده فى صراعها الاستعمارى مع إنجلترا كما يثبت فى دراسة تاريخية رائعة .د. سيد جلال. ولما يتجاوز مائة عام ظلت القناة ودخلها ملكا للشركة الفرنسية التى أدارتها وحولتها إلى دولة مستقلة داخل مصر وقاومت جميع المحاولات الوطنية لحصول المصريين على حقوقهم فيها.
وكان من أهم الدراسات عن حق المصريين فى استردادها أجراها فى رسالة للدكتوراه .د.مصطفى الحفناوى واستند إليها الرئيس جمال عبد الناصر فى تأميم القناة… وبعد أن فشلت جميع محاولات إبقاء القناة تحت سيطرة الشركة الفرنسية والإغراءات بتدفق الأموال والسياحة التى قدمها من يطلقون على أنفسهم جمعية محبى قناة السويس أصبح الأمل فى إبقاء هذه التبعية من خلال إعادة تمثال ديلسبس إلى مدخل القناة وإسقاط الوقائع المؤلمة التى ترتبط به وبالتاريخ الاستعمارى الاسود لسرقة القناة واحتلال مصر وما ارتكب من جرائم أثناء الحفر ومنها استشهاد حوالى 120 ألف عامل وفلاح بالجوع والعطش والجلد والضرب بالسياط فى متاهات الصحراء.
وتوالى التأييد لعدم وضع التمثال والإدانات الشعبية والتاريخية لمؤسسات متخصصة محترمة مثل الجمعية المصرية للدراسات التاريخية وأحدثها بعد كل ما كتب ووثق من دراسات ووثائق ادانة لديلسبس ما جاء فى المذكرة الرائعة للمكتب القانونى للمجلس الأعلى للآثار مؤكدة إدانة كل جاهل تسول له نفسه أن يحاول تغييب الوعى الوطنى ووصمه بهذا العار وجاء فى المذكرة: وجدير بالذكر أن ديلسبس هو رمز للاحتلال والاستعمار وأن صاحب الفضل الأعظم هم المصريون منذ حفر القناة وبداية فكرتها منذ عهد الفراعنة إلى جانب خيانته لعرابى وإيهامه بأن القناة على الحياد فكان سببا فى احتلال الانجليز لمصر 1882 … وهو ليس رمزا ولا شرفا لأى محافظة أن يوضع بها تمثاله..
وكان الوعى الوطنى واحترام تاريخ النضال والشهداء وراء قرار الدولة بنقل التمثال إلى البيت الذى أقام فيه ديلسبس بالاسماعيلية وليكون مقصدا لكل ما تبقى من آثاره حيث يمكن ان يزوره عشاق الاستعمار!.
ولم تنته العجائب والأكاذيب المرتبطة بهذا التمثال وأحدثها على الأقل حتى الآن ما نشر عن وصول قطار ديلسبس الأثرى إلى محافظة الاسماعيلية قادما من محافظة المنصورة للانضمام إلى فيلا ديلسبس ووفق تكذيب وتصحيح قدمه موقع صدى البلد وديلسبس نفسه الذى مات عام 1894 بعد أن كان مقبوضا عليه فى بلاده منذ عام 1892 ويحاكم على ذمة قضية فساد ونصب وصدر فيها حكم نهائى وبات بسجنه فى بلاده ولكنه مات قبل تنفيذه بينما صنعت العربة الثانية عام 1912 أى ان العربتين صنعتا بعد أن غادر ديلسبس الحياة هل توجد أكاذيب وادعاءات أكثر من ذلك ؟!.
فى الخبر الذى نشر عن قطار ديلسبس ان السفير الفرنسى بالقاهرة زار هيئة قناة السويس وتناول أوجه التعاون المشترك بين الهيئة وفرنسا وإذا كانت مصر قد عانت وتحملت كثيرا مما ارتكبه المستعمرون على أرضها وكانت الشركة الفرنسية لاستغلال وإدارة القناة واحدة من أسوئها فكنت أتمنى من المدافعين عن عودة وصمة التمثال إلى مدخل قناتنا فى بورسعيد أن يطلبوا إجابات على الاتهامات الموجهة لرئيس متحف اللوفر بباريس عن تهريب قطع أثريه مصرية ـ ومازلت أذكر ما سمعته بنفسى فى متحف اللوفر بباريس عن أكبر وأهم أقسام المتحف وهو قسم المصريات وأنك مهما كانت عدد المرات التى ستزوره فيها ـ فكل مرة ستجد آثارا جديدة فبعد عشرات السنين لم يكن قد انتهى عرض كل ما تضمه مخازنه من الآثار التى نهبها نابليون أثناء الحملة الفرنسية على مصر وتمتلئ بها صناديق فى مخازنه كانت لم تفتح بعد!!.. وما رأى من يطالبون بإعادة تمثال الأفاق ديلسبس برفض كوليج دى فرانس رفع التمثال المهين للحضارة المصرية والتى وضع فيها المثال الفرنسى حذاء شامبليون على رأس واحد من ملوك مصر القديمة العظام والموضوع بمدخلها والذى أعادوا وضع نسخة أخرى منه منذ سنوات قليلة؟!!.
مضحك ومؤسف من يطالبون بإعادة تمثال ديلسبس إلى مدخل بورسعيد بادعاء اكتمال جمالها وتنشيط سياحتها!!
من يزورون مدن النضال وبورسعيد واحدة من أعظمها ـ يجب أن تقدم لهم معالم وحكايات البطولة فى متاحفها وفى ميادينها وفى حدائقها وشوارعها وقد أسعدنى مشروع المحافظة لإطلاق أسماء أبطال المقاومة فى الأمكنة التى شهدت بطولاتهم والمواقع التى استشهدوا فيها، فكيف نطمس ونشوه ونسىء إلى هذا التاريخ برفع تمثال لرمز استعمارى أسقطه شباب المقاومة والفدائيون رمزا لانتصارهم على العدوان الثلاثى 1956 ؟!.
أعتذر لقراء أعزاء عن تأجيل الكتابة عن قضايا أمننا القومى والحيوى والغذائى ومحاولتنا الواجبة للاقتراب من الاكتفاء الذاتى وما تواجهه بلدنا واقتصادنا من أزمات وسط عالم مأزوم تزداد الأخطار فيه كل يوم ولكن حفظ تاريخنا ووعى أجيالنا من التضليل لا يقل أهمية.
سكينة فؤاد، صحفية وكاتبة عربية من مصر
منشور في بوابة الأهرام، يوم الأحد 5 من ذي القعدة 1443 هــ 5 يونيو 2022 السنة 146 العدد 49489